افتتاحية العدد التاسع والثلاثين

بهذا العدد التاسع والثلاثين تختتم “مجلة المسار” عامها الثالث عشر، وسط خضم متلاطم من الآمال والشكوك، و التفاؤل و التشاؤم، نتيجة ضباب الرؤية الواضحة، والمخاض المضطرب الذي تعيشه المنطقة،  وقد طوى “المسار” عامه هذا معتزًّا بما قدم -حسب الجهد والطاقة- من أبحاث استهدفت إلقاء الضوء على عوائق الماضي، وشبهات الحاضر، ومعالم المستقبل للخروج من وضع معقد، ومع ذلك فإنه يشعر- هو وأمثاله من “مراكز البحث المتخصصة” ، على ضوء ما يضطرب به  هذا المخاض الكبير – أن الطريق إلى الغايات المنشودة لا يزال طويلًا وشاقًّا، وأن الضباب لا يزال يحتضن الصورة بقسوة، ومن ثم فعليه وعليهم أن يضاعفوا الجهد، ويبذلوا المزيد بما يغذي المسيرة الجديدة بأبحاث رصينة تنتج عقلًا رصينًا يسهم في توضيح معالم الطريق.

إذا ما ألقينا نظرة إلى ما يجري في العالم العربي يرجع البصر بما يدل على أن المخاض الكبير، لم يطلع “زبدته” بعد، وإذا ما ذهبنا نستقصي السبب، فإن أول ما يطالعنا من الأسباب هو نقص الثقافة السياسية والاجتماعية الجديدة. ومن هنا فإن “مجلة المسار” تشعر بأن وراء طويل المخاض نقصًا في الوعي السياسي والاجتماعي بوجه خاص، وأن القضية لا تزال بحاجة إلى تكملة نشيطة وفاعلة، وأن من يقوم بهذه التكملة هي “مراكز الأبحاث المتخصصة” فتنشر المزيد من الأبحاث الموضوعية لتسهم في الإسراع بتكوين “زبدة المخاض” التي بدونها سيطول.

إن رسالة “مراكز الأبحاث” هو إضاءة الطريق أمام الركب الزاحف، وتوضيح المنعطفات الخطيرة، و المهاوي العميقة، والكمائن الخفية، والفخاخ المنصوبة، سواء ما كان منها رابضًا في الأعماق، أم وافدًا من الخارج، وتنظيف ما تكلس، وتوضيح ما وفد، حتى لا يظل الناس يتعاملون مع التكليس ولا مع المبهم، وكأنهم ينسجون جديدًا، ومن المؤكد أن  بدون ذلك التنظيف وهذا التوضيح فلا يمكن للجديد أن يستوطن أرضًا امتلأت بما اعتادت، أو امتلأت بما ظنته ماءً، في حين أن ما تتعامل معه هو السراب نفسه.

إن تاريخنا كله مليء بالعقد النفسية التي تتحكم في إيقاع النفس والسلوك، وتحول دون الرؤية المستبصرة، فتصطدم رغبتها الملحة بضرورة التغيير بوسائل قاصرة في فهم معاني التجديد، بسبب مزدوج: تحكم تاريخي متمكن، ووافد جديد مبهم، وتكون النتيجة التعامل مع غول الماضي السياسي، وشبح الوافد المبهم فتظل الخطى تدور حول نفسها، وتتعثر بضبابها، وتضطرب رؤيتها بعوائق ماضيها، وتعشو أبصارها عن رؤية وافدها، ومن ثم لا تقدر أن تضع قدمها في مسارها الطبيعي؛ لأنها تظل تلوك تراثًا سياسيًّا متخلفًا وفقهًا وافدًا لم يتوضح، ومن الثابت أنه ما لم تتوضح هذه العوائق الداخلية، ويعاد فهم الوافد على حقيقته فإن خطى الركب ستظل قيد العثار.

ما يهب علينا من الخارج يأتينا في شكل “برشومة” نبتلعها، ونردد اسمها، بدون أن نفهم محتوياتها، ونعلم فقهها، ونظن في نفس الوقت أننا بمجرد ترديدها قد فقهناها، وأحطنا بها خبرًا، في حين أننا فقط نردد اسمًا ونلوك لفظًا. من هنا وجب على “مراكز الأبحاث” شرح متن الأفكار الوافدة، وتوضيح مقاصدها، كما هي عليه لا كما نريد أن تكون عليه، حتى تيسر الاستفادة من إيجابياتها وترك سلبياتها على أحسن وجه.

 ما طويل المخاض هذا، وما هذا الاضطراب السياسي المحتدم اليوم إلا نتيجة الأمرين معًا: عوائق داخلية، ومبهمات خارجية،  والأمران بحاجة إلى توضيح، ولن يتم ذلك إلا إذا تناولت “مراكز الأبحاث المتخصصة” هذين العائقين بكل مسؤولية وجرأة وأن تجعل منها رسالتها وقضيتها.


1

وفي هذا العدد يقدم الدكتور الباحث المحقق “أحمد بن علي الماخذي” الفصل الأخير من بحثه القيِّم والمتميز: “القانون الدولي والعلاقات الدولية وعلاقاتها بمفهوم أحكام الإسلام”، وبه يكون البحث قد تكامل، وبه أيضًا يكون قد وضح أحد العلاقة  بين فقه الوافد، وبين علاقته بمفهوم أحكام الإسلام، بمعنى أنه تناول بجدارة “التالد” و “الوافد”، أو “الداخل” و “الخارج” معًا بقلم خبير بها، متمكن منها، فما يقدمه د. “الماخذي” حقيقة هو دراسة عميقة موضوعية لا غنى عنها في أي نهضة تشابكت فيها خيوط كثيرة.


2

ويبدو أن للشعر في هذا العدد نصيبًا وافرًا، فالأستاذ الشاعر، الأديب، الكاتب، “إسماعيل الوريث” وهو نفسه سليل أدباء وعلماء وشعراء ومصلحين- قدم بحثًا ممتازًا حول ديوان الدكتور “أحمد الماخذي”: “الحزن الذي لم يمت وأحمد بن علي الماخذي” فطاف بنا في آفاق شعرية خلابة، جعلتنا نصغي إلى نغمات الحزن الذي لم يمت بابتهاج، كأن الحزن نغم صادح، لقد نقلنا السيد الوريث من أجواء العلم الصارمة التي عرف بها الدكتور “الماخذي” إلى عالم باسم، و تمكن بقلم أديب وريشة فنان من عرض صور شاعرة خلابة. إن معظم الناس يعرفون د. “الماخذي” عالـمًا باحثًا منقبًا، ولكنهم لم يعرفوه  شاعرًا محلّـقًا، وإذا بهم يرون خلف إهاب العلم شعرًا متألقًا يقدمه شاعر متألق،  ولا يعرف قيمة الشاعر الفنية إلا شاعر فنان، فكان “إسماعيل” هو هذا الشاعر الفنان.


3

      وتناول دكتور الاجتماع “أبو بكر باقادر” موضوعًا من أوضاع المجتمع الحضرمي فأرانا في مقاله “حدود النمطية….” فقدم لنا صورة اجتماعية من المجتمع الحضرمي بكل ما فيها من مشاعر مضطربة ومن تناقضات حادة تناولها بقلم المحلل الاجتماعي، وبقلم الأديب المتمكن، فجلا لنا صورة أخرى من صور الشاعر العربي “تأبط شرًّا”  في قصيدته المدوية:

إِنَّ بِالشَّعْبِ الذي دُونَ سَلْعٍ               لَقَتِيــلًا دَمُـــهُ مَا يُطَــــلُّ

وقد طار صيت هذه القصيدة اللامية عبر القرون، ناقلًا مناخًا عربيًّا قديمًا، صوّره الشاعر أروع تصوير، وقدّمه  في شعر فصيح مبدع. كانت تعبيرًا عن “نشيد الصحراء” كما سُميت فيما بعد، وجاء د. “أبو بكر” “فقدم لنا من الشعر ما يصوِّر مجتمعًا حضرميًّا  قاسيًا، في لهجة حمينية معبرة، يمكن أن نطلق عليها “نشيد حضرموت الشعبي”، ولا ينقص من مقدارها أنها باللهجة الحضرمية، فهي بما احتوت عليه من صور فنية وجدل جديرة بالنشر والاهتمام، وللشعر الحميني صور فنية خلابة لا تقل روعة عن الشعر الفصيح.


4

وأخذنا الأستاذ الفاضل المحقق “عبد الله بن يحيى السريحي”  في جولة علمية طاف بنا فوق عالم  “معجم البلدان”  الواسع الكبير، للجغرافي الكبير “”ياقوت الحموي” (ت يوم الأربعاء 12 جمادى الأولى عام 622هـ/ 1225م كما جاء في ويكبيديا أو 626هـ كما جاء في غلاف الكتاب) وكانت جولة من ناحية المكان في أواخر القرن السادس والسابع الهجريين/ القرن الثالث عشر ميلادي. ومن ناحية المكان أصقاع متباعدة، وإذ يكتب العلامة “السريحي” عن “ياقوت” فهو خبير به، مطلع على كتابه اطلاع تحقيق، وهو قد انتهى من تحقيق الجزء الأول من “معجم البلدان” ويوالي تحقيق البقية، أعانه الله عليه، فمقاله عن كتابه إذن مقال خبير.


5

وأخيرًا نختم هذا العدد ببعض الوثائق البريطانية لعام 1904م، راجين العفو عن أي تقصير. ووعدًا علينا أن نظل على العهد سائرين.