افتتاحية العدد الثالث والأربعين

الشهيدان

غيمة الحزن ماتزال       تمطر الموت والوبال

قنصت في شباكهــا     سيدا العلم والكمال

قد مضوا في سبيلهم     تركوا أجمل الخصال

يصدر هذا العدد من “المسار” متوشحًا برداء حزن أسود، تجهش كلماته بحزن ممض، وتنوح ألفاظه لوعة وأسى على شهيدين كريمين صعقتهما بوارق التعصب وألوت بهما عواصف الانغلاق.

 صوّب التعصب الغادر سهمًا إلى قلب سيد الشباب د. “عبد الكريم جدبان” فأصماه وانتزعه من عشه الآمن، وسربه المطمئن، وترك عشه حزينًا، وأيكه أليمًا، أما هو فسعى إلى ربه كما يسعى النسيم العاطر ليلتف في براعم ورد يانع.

لقد استشهد “عبد الكريم جدبان” بعد خروجه من صلاه العشاء فسقط على عتبة باب المسجد؛ فكان دخوله منه إلى جنان الله حيث مضى مسرعًا بعطر جهاده، وفوح نضاله، تتلقاه ملائكة الرحمة ويحتضنه الشهداء والمقربون، وحسن هناك مقامًا.

وفي الوقت الذي أرادوا “جدبان” فهم لم يريدوه لشخصه بل أرادوا قتل الانفتاح والتسامح، وتعرية الأيك اليانع من وروده، لصالح أشواكه، واستنزال قمم عالية، لصالح هاوية خفيضة، وإسكات أصوات الخير لصالح فحيح الشر العاوي.

لقد وقفتُ متأملًا أتساءل: لماذا “عبد الكريم جدبان” بالذات، وهو المنفتح المتسامح الساعي إلى الخير والمحبة، المنادي بالحوار؟! هل أصبح التسامح جريمة، والانفتاح جريرة؟! هل يراد “لليمن” أن تبقى تغتلي بأحقادها وتعصبها حتى لا يبقى إلَّا تعصب حاقد، يحرق وشائج القربى، ويمزق علائق الانتماء، ويسكت نشيد القمم، ويحافظ على عويل الهاوية، ويجعل من الحقد والقتل والاحتراب أسلوب حياة؟!.

لقد عرفت الشهيد “عبد الكريم” معرفة علمية، فما لمست في أفكاره إلا اعتدالا ، ولا في أفكاره إلا تسامحا، كان يبحث بكل تجرد عن الصواب فيعلنه، وعن السيء فينقده، والمعتدل فيأخذ به،  والتطرف فيلفظه، فلماذا توجه السهام نحو صوت الاعتدال والانفتاح والتسامح؟!

وبينما أنا أخط هذه الكلمات الدامعة حمل التلفزيون خبر استشهاد رجل القانون الكبير الدكتور “أحمد عبد الرحمن شرف الدين”  نور الله ضريحه، وقد استشهد لنفس السبب الذي استشهد من أجله “جدبان”، فالدكتور “شرف الدين” كان شرف الفكر وشرف القانون وشرف العدالة؛ رجل فكر متسامح، ارتفع صوته على أصوات الكراهية فاغتالوه، ورجل سلام ارتفعت أنغامه الرائعة على طبول الحروب المذهبية الصارخة فأسكتوه، كان يدعو إلى الوئام والسلام والإخاء والصفاء. كان رجل قانون فتحدث بلغته، ونادى به، فلم يرق للجهلة الحاقدين سماع صوت السلام والمحبة، وفي الوقت نفسه ليس لديهم ما يحاججون به، سوى رصاصة قاتلة تخمد العقل الرصين حتى يبقى المجال مفتوحًا فقط للغرائز المتوحشة.

ما كان يناديان به من خير وسلام ومحبة هو سبب استشهادهما، فنحن في زمن ليس للعقل فيه حضور، وإنما هي الغرائز المتوحشة تلعب في المسرح لعب الذئاب العاوية، نحن مع قتلة لا تتقن إلا فحيح الشر ، ولا تفقه إلَّا “فقه الجريمة”، وليس لها من علمٍ إلَّا “علم الإفناء”، وسهامها لا تنال إلَّا عقول الإيمان والاعتدال، تنتزع من مجتمعنا دكتورًا بعد دكتورٍ، لتجدب الحقول الخضراء، ولا يبقى فيه إلا شجر الشيخ والقيصوم ولا نسمع فيه إلا عواء الضباع العاوية. فإلى  أين تسير الأمة إذا أطفؤوا نجمًا بعد نجم، وكوكبًا بعد كوكب؟!. وإلى أين يريدون أن يصلوا “باليمن” بهذه الطريقة الدامية؟!. إن كانوا يظنون أنهم يعيقون خطى المستقبل فهم واهمون، فالقافلة ستظل تسير بالرغم من كل المكايد والمصائب والعوائق، وليس دم الشهداء إلا سقيًا خصبًا لشجر الخير، وإنماء ثريا لمستقبل زاهر، ومنطق التاريخ يرد على مثل هذا التوجه الإجرامي فأين “الحسين” وأين “يزيد”. وكفى بذلك عبرة لقوم يتبصرون، أما الذين أعماهم الهوى، ويريدون أن يجعلوا من سفك الدماء سدًّا يحول دون المستقبل، ويحتجزون الزمن في قفص حديدي، فهم في عَمَهٍ مطلق وعقل مفقود.

لقد ظن القتلة أنهم بقتل “جدبان” و “شرف اليمن” سيقتلون كل عقل حر، ولكنهم في الحقيقة قتلوا شرفهم هم، فأما هما فقد ارتفعا إلى رحاب الله بين أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

إنني أبكي الفكر الحر، والاعتدال الرصين، من أي حزب كانوا أو أي انتماء ينتمون، من اليمين واليسار والوسط، لأني أبكي الإنسان في فضائله، في أخلاقه، في أفكاره.

 نحن أحوج ما نكون إلى العقل الراشد، والاعتدال المنصف، والتسامح النبيل، خاصة في مثل هذه  الظروف الحاضنة للكراهية الحاقدة، و المذهبية المتعصبة، ومن المؤكد أنه لن يكبح هذا التيار المتعصب المتنامي إلا عقل راشد، واعتدال منصف، وتسامح نبيل، مالم فستسيل البغضاء إلى كل بيت، وتعم الكراهية كل قلب، وها هي بوادر الشر واضحة تتوسع، من هنا كانت الخسارة فادحة حقًّا، ولكنها في الوقت نفسه داعية إلى الثبات على الخطوات المتقدمة، فلن يتوقف الركب السائر أبدًا، بل إن دم الشهداء هو الوقود المحرك للسير بقوة نحو المستقبل الزاهر.

للتعصب أوجه مختلفة، فهنالك تعصب ديني، وهناك تعصب سياسي، وهناك تعصب اجتماعي، ويضم الكل إطار أسود يحوي في دفتيه الحقد والغضب والانغلاق. وإذ يكون الانفتاح بكل أنواعه نتاج العلم الواسع والعقل الراجح والأفق الرحيب، يسقي نموه من كل جدول صافٍ، ويلتقط حباته من كل شجر مفيد، يغلق التعصب كل الطرق إلى المعرفة والتوسع، ويبقي ما حفظه في قوقعة مقفلة هي كل زاده وعدته، ومن ثم  يظل  يخاف عليها أن تتطعم بجديد، أو تستقي من ماء معين فتغير أفكاره الراكدة، ويفقد ما حفظه ولُقّن به، ثم هو لا يجد وسيلة لحفظ ما ظنه صوابًا و اعتقده حقًّا، إلَّا  تكفير الآخر، وتضليل الآخر، وبهذا الوقر المتوحش يستبيح مالا يباح فيمضي في محاربة الآخر، من أجل الحفاظ – على تعصبه وما لُقِّن به- بالرصاصة القاتلة، أو المدية الحادة، أو السيف القاطع ، وليس بالحوار الهادئ، ولا بالحجة الصائبة، ولا بالمنطق المقنع؛ لأن من يعمد إلى هذه الطريقة البشعة، مفلسٌ في كل شيء، فهو ليس شجاعًا فيجادل، ولا عالمًا فيدافع، وليس لديه من الشجاعة  العقلية ما يتقبل به رأيًا آخر، لقد أغلق أذنيه فلا يسمع وعينيه فلا يُبصر إلَّا مالقن به، ومن ثمَّ فهو لا يقدر على مواجهة الآخر، وإنمِّا هو قادر على ترصده فيقنصه في اغتيال معيب.

إن التعصب- بكل تأكيد- هو إفراز هجين  للجهل والانغلاق، ولجهامة الأخلاق، وما رأيت متعصبًا إلَّا وراءه قلة تحصيل وسعة غضب، وما رأيت منفتحًا إلَّا رأيت علمًا متدفقًا، وتسامحًا غدقًا، وما رأيت متعصبًا إلا رأيته مكشرًا ذا أنياب ومخالب، وما رأيت منفتحًا إلَّا رأيته مبتسمًا ناعم الحديث. وبين التكشير والابتسام يبدو الفارق جليًّا.

ثم هل ينهي الاغتيال فكرًا، و يجفف نهرًا؟  التاريخ يقول إن بقية السيف أنمى عددًا. وعمَّا قريب ستنمو الشجرة “الجدبانية” و”الشرفية” المباركتين، وتتكاثر أغصانها، وتمرع ورودها، وتستطيل ظلالها؛ جزاءً وفاقًا لما انساح من دم الراحلين الشهيدين. وليس أبلغ من دليل على هذا، ذلك التشييع الرائع والكبير الذي حفّ بجنازتيهما. إنه في الحقيقة “اقتراع” جهير على المستقبل على استمرار الخطى في سيرها الصاعد المصمم نحو المستقبل الموعود.

أخيرًا تتقدم “مجلة المسار” إلى أسرتهما الكريمتين، وإلى العلماء، والدكاترة، والقانونيين والمحققين والأدباء، والشعراء، وإلى كل من يحمل قضية مستقبل وارف، بالعزاء الصادق، والقلب الخافق، والعين الدامعة، ونقول إنَّا جميعًا على درب النضال سائرون، وعلى مبادئ الحق والخير متمسكون، وعلى قضايا الخير ثابتون مهما سقط شهداء، وكثرت الضحايا.  

رحم الله الشهيدين وألهم أهلهما الصبر، وأبقى رسالتهما قائمة، وعظم أجر أهل العلم.

 


1

وقد يكون من المصادفات- إن كان ثمة مصادفات- أني كتبت قبل استشهاد الشهيدين عن “التسامح الديني عند “الإسماعيلية” بغية تنقية الطريق للسائرين في الوحدة الإسلامية، فالوحدة الإنسانية استجابة لدعوة أمير المؤمنين “علي بن أبي طالب”: الناس صنفان إما أخ لك في الدِّين أو نظيرٌ في الخلق، وعندما تطير الإنسانية بهذين الجناحين العلويين ستكون الإنسانية قد بلغت مرفأها المطمئن. وفي هذا العدد  أوالي البحث في دراسة المصادر التي تناولت تاريخ “الإسماعيلية” ومعتقداتها بغية الوصول إلى معرفتها على حقيقتها، وأسباب تسامحها وهذا يستدعي البحث الدقيق عن أسباب ذلك التسامح، للوصول إلى الحقيقة عملًا بالآية الكريمة ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ وبالحديث الشريف ((الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها التقطها)). إن في اتباع هذا المنهج القرآني ما يوصل بين المنقطع، ويقرب ما بين المتنافر، ويردم الهُوّات المتباعدة. ويعيد الإخاء الغائب، ويجفف منابع الغضب الملتهب، ويعيد للعقل حرمته، وللتفكير أصالته، ويصون الدماء المسفوكة، ويحمي الأعراض المسلوبة.


2

وليس بعيدًا عن هذا الأفق  ما دبجه يراع الأستاذ الدكتور “عبد الحميد أبو سليمان” في مقاله الرائع “قضية تجديد الدين في العالم المعاصر “، وللدكتور في هذا الأفق تحليقات قوية الجناح طوافة حول القمم العالية، وفي هذا المقال يطرح الدكتور كعادته مفاهيم جديدة تنير الطريق وتعبد السبيل وتشرح الغامض بقلم علمي رصين.


3

ويتناول الأستاذ الدكتور “يحيى بن يحيى المتوكل” بحث “اقتصاد السوق الاجتماعي في اليمن” وهو بحث في غاية من الأهمية؛ فالاقتصاد مرتبط بالمجتمع، ومع أن البحث الاقتصادي وعر التعبير إلَّا أني أشهد- وأنا الذي ليس له باع في الاقتصاد- أن الدكتور “يحيى” قد سهل وعر التعبير، والمصطلحات إلى درجة أن القارئ  يستقي المصطلحات العلمية من كأس أدبي ممتع.


4

ويرسم  الأستاذ “أيت بعزيز عبد النور” في مقاله “الورتلاني في البحار” صورة نابضة لهذا الزعيم الفذ وهو يتنقل بين الشواطئ خائفًا يترقب من أن يُلقى عليه القبض، فيسلم إلى الإمام “أحمد” فيجز عنقه، وبقي أشهرًا تقاذفه الأمواج السياسية من ميناء إلى ميناء فيمنع من النزول في أي منها ولا يقبله بلد واحد، حتى نزل متخفيًا في “لبنان”. إنها قصة مجاهد في سبيل الله، تجاوز الحدود المصطنعة وجاهد في أكثر من مكان، وكانت مواقفه في اليمن هي التي ألحقت به سوء المتاعب فله على اليمن بصفة خاصة دين مستحق.


5

وكعادته يقدم الأستاذ الدكتور “بركات محمد مراد” مقاله عن “الفنان المسلم والإبداع” فيبدع في موضوعه. وللمسلمين في الفنون باع كبير، سواء في حقل الإعمار أم البستنة أم  التصوير، وليست مساجد “تركيا” و”أصفهان” و”تاج محل” إلا آيات فنية خالدة، ولـ”إيران” باع في رسم الصور الأخاذة  والفنون الجميلة التي ازدهت بها المجالس، وتزينت بها الدواوين، وكذلك “الهند”، ومدن “سمرقند” و”بخارى” وغيرها وغيرها. 


6

وفي الختام – وختامه مسك- تقدم “المسار” “حلم أبي القاسم” للمرحوم الشاعر الأديب “إسماعيل الوريث” نور الله ضريحه، مع بعض مقالات كان قد دفع بها قبيل رحيله، إلى “المسار” لنشرها تباعًا، فعسى أن يتحقق حلم أبي القاسم في أوطاننا المهيضة الجناح؛ فتمرع بالعدل والمساواة والحرية.