بفضل الله جلّ وعلا، وهمة المساهمين الكرام ممن يهمهم البحث الموضوعي، والتحقيق المنصف بغية تفكيك العوائق الحائلة دون اليقظة المستبصرة؛ تدخل «مجلة المسار» عددها الثالث والسبعين واثقة الخطى، واضحة الرؤية، مزدهية بما حققت، فخورة بما ستحقق، في ظل وضع عالمي تغلّب فيه السيف على القلم، والجنون على الحكمة، والطمع على الإيثار، والوحشية على الإنسانية، وليست الأحداث التي تشهدها اليوم «غزة» إلا صورة واضحة لما يجري، وصوتًا نائحًا على الإنسانية المعذبة، وترجيعًا باكيًا ومبكيًا على ضياع «الأندلس» الفردوس المفقود.
وفي مثل هذا الضياع الإنساني، فإن شيئًا عالميًا يتولد من حضارة غربية فقدت تمدُّنها، وبدأت تباشير حضارة شرقية توشك أن تنتشر وتُشكل بداية لوضع حد لـحضارة القوة والنفعية، التي تآكلت بسبب مظالمها واستغلالها للإنسان.
ولكيلا يكون مسار الحضارة الجديدة كسابقتها، فإن القلم والقلم وحده كفيل بأن يقلِّم أظافر الجشع، ويهذب مخالب الاستغلال، ويطعِّم الحضارة القادمة بمعاني التمدُّن؛ حتى لا يظل الإنسان يتعذب تحت حضارة القوة والنفعية.
وهذا ما تحاول «المسار» -بجهدها المتواضع- أن تقوم به، على رغم من لا يقيم للقلم صولة وجولة، فللقلم رسالة أقوى من السيف، وأنفذ من الرمح، وقد قام التمدن الإسلامي على القلم، وفي البدء كان القرآن الحكيم، الذي استهل تمدنه بقوله تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ، خلق الإنسان من عَلَقٍ* ٱقۡرأۡ ووَرَبُّكَ الأكرم، الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَم، عَلَّمَ الإنسان مَا لم يعلم﴾.
وقد طبّق القلم رسالة القرآن، من خلال علم الكلام، فقامت حضارة متمدنة نموذجية لم تعرفها البشرية من قبل ولا من بعد. ولما حَرّف طبيعتها الإنسانية تسلطُ حكام طغاة وفقهاء سلطة؛ سقطت تلك الحضارة المتمدنة، لا سيما عندما نظروا إلى منافعهم، وتجاهلوا رسالتها.
ومن الثابت الآن أن البشرية تعيش في حالة مخاض عام لَمّا يخرج زبدته، فإن لم يلعب القلم دورًا مهمًا في بناء تمدُّن جديد؛ فإن حضارةً نفعيةً أخرى قادمة.
وأرجو أن تقوم «مجلة المسار» بدور ما في هذا الاتجاه، وأن تتضافر الأقلام المسلمة في هذا السبيل المستقيم، وتبتعد عن الخضوع لمرحلة التخلف الذي عاشه العالم الإسلامي، من القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي. ومتى تكاتفت الجهود فإن القلم سيضيء الطريق للساعين إلى تمدن حضاري.
في المقال والأول من هذا العدد، يعالج الأستاذ الدكتور زيد بن علي الفضيل «أزمة خطاب المثقفين»، من خلال الكشف عن أسباب انخراط المثقفين في مستنقع العنف، ودراسة منطلقات العنف وخلفياته الفكرية والسياسية، ومحورية معركة الوعي في ميادين التحدي المعرفي لإزالة أنواع من العوائق في طريق الحضارة التمدنيّة، لكيلا يبقى الطريق إليها صعب المسالك.
بدأ الكاتب مقاله بمناقشة الدكتور يوسف زيدان، الذي يعتقد أن ما دار حوله من نقاش أيقظ في داخله هاجس التفكير من جديد في طبيعة تأثير العقل السلفي ذي التكوين السلطاني، على مفاصل مجتمعنا المعرفي، وهما ما أثقل كاهل الأستاذ الدكتور «من كثرة التفكير وإمعان النظر، متسائلًا وباحثًا عن بواطن الإشكال، وكيف يمكن للمثقف المعرفي أن يتحول في لحظة عابرة من الزمن إلى بوق من أبواق السلطة؟ وليس بالضرورة هنا أن تكون السلطة سياسية، بل أخطر منها سلطة الهوى والكيد المعرفي. تلك السلطة التي أهلكت الكثير من العلماء عبر العصور، ولم تتردد في استخدام سيف السلطان لتتخلص من منافسيها». ويرد أسباب ذلك إلى أن «أزمة وجودنا العقلي، ونزقه الانفعالي، ليست خاصة بتيار أصولي تقليدي ديني، وإنما هي ممتدة في تركيبتها بمختلف التيارات المادية الجدلية، التي قد نطلق عليها تنويرية أيضًا».
وأمام ذلك، قام الأستاذ الدكتور بالبحث «عن سبب انخراط جانب من زوايا مشهدنا الثقافي في مستنقع العنف وسلوك النزق إزاء الآخر»، ودرس بعمق «منطلقات العنف الذي دخل به ومعه العقل الجمعي في أزمة فكرية نتج عنها صور متنوعة من مظاهر وأشكال النزق والعنف الفكري والمادي على النطاق الفردي والرسمي، لا سيما مع استلهام غلاة أتباع العقل السلفي لثقافتهم الدينية»، ثم تناول بإدراك لعبة السياسة ودورها في العنف والنزق، وأن بدايته «كان سياسيًا وليس فكريًا، كما هو بادٍ في حادثتي قتل “الجعد بن درهم” و”غيلان الدمشقي”». وبعد أن فصل ذلك التاريخ المريب تفصيلًا، تحدث عن التحدي المعرفي، وعن معركة الوعي، ووصل إلى الحل المطلوب، وهو التجرد: «في حال قراءة موروثنا المعرفي، ومن ثم شجاعتنا في غربلة كثير من نتاجه، الذي اكتسب حالة من القداسة والحصانة، بوصفه ينتمي لحقب زمنية مباركة، أصبغنا عليها صفة الخيرية، ونعتنا علماءها إجمالًا بالسلف الصالح. ذلك هو مفتاح التحدي المعرفي الذي يجب أن نخوضه بكل تجرد وجرأة».
وبعد أن طاف على قضايا مختلفة، خَلُص إلى «أن جوهر أزمتنا الثقافية المعاصرة كامن في الانسياق وراء سمت معرفي قائم على ثقافة ذهنية الغالب والمغلوب، فكان أن عمل بعض المثقفين على أطـْر الناس على رأي واحد، وفكر واحد، وهو الفكر والرأي الذي يؤمنون به». وللخروج من هذا المأزق فإن علينا العبور «حتى يتمكن مشهدنا الثقافي من مواجهة ذلك التحدي بكل منهجية وصلابة، فإنه يحتاج إلى أن تؤمن أطيافه الثقافية المتنوعة، بحتمية رفض الاستبداد الثقافي، وضرورة تبني ثقافة المثاقفة، الهادف إلى استثمار ما لدى الثقافات الأخرى من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية نبيلة، مما يؤدي إلى تنمية مختلف الكيانات الثقافية بشكل خلاق من جهة، وغير مضر بمقومات هوية وثوابت كلطيف على حدة».
ثم لخص الموضوع في أن «نجاح أي مشروع ثقافي يستلزم غياب أو ضعف سلطة ظاهرة التوجه الأيديولوجي، سواء في شقه السياسي أو الديني، ونماء مساحة الحرية بشكل مطلق وفق الضوابط الحقوقية» «وفي المقابل، فقد نتج عن سيطرة التوجه الأيديولوجي الأحادي، المؤمن باكتنازه لمفاصل الحقيقة، الرافع نبرة صوته بشكل حجب سماع غيره من الأصوات الأخرى، نتج عنه ضمور نمو وتيرة الحراك الثقافي بشكل عام»
وأشهد أن الأستاذ الدكتور قد ملأ بحثه بما يفيد وينفع، وبما يفكك العوائق في العودة إلى التمدن الحضاري الذي قام على القلم.
أواصل الحديث مع عائق سياسي آخر هو موضوع «الإمامة» تلك التي غيّر من سمّوا أنفسهم خلفاء الله على الأرض، وألبسوا قادتهم شكلًا كهنوتيًا بدعم واضح من فقهاء السلطة، وبذلك دخل عائق لم يَبلَ، وأصبح الجدل حولها محتدمًا، وقد تناول موضوع «الإمامة.. النظرية اللاهوتية للتطوّر المؤسسي» البروفيسور المرحوم: «ويلفريد مادولونغ» الخبير بالشؤون الزيدية والإسماعيلية والشافعية في اليمن، وتناول في هذا المقال: نظرية الإمامة في عموم الفكر الإسلامي، وتفصيل آراء المذاهب الإسلامية الرئيسية، موضحًا كيف تطورات لاحقًا لمواكبة المتغيرات المتلاحقة.
وليس من شك فإن ما طرقه البروفيسور لهو من أكثر العوائق السياسية؛ بل أم العوائق، حيث غابت حقيقتها وبقي شكاها، ولعبت المذاهب -بعد أن تحولت من مدارس- دورًا تخريبيًا في مفهومها ونقلها من «إمامة مدنية» إلى «خلافة الهية» يمكن توصيفها -بعد الانحراف بدورها- بالكهنوتية.
بدأ البروفيسور بحثه بالبداية المبكرة، ويقصد بها «الإمارة الراشدة»، إذ ذكر أن نقاشًا نظريًّا حولها فُتح بعد الحرب الأهلية «التي تركت معاوية حاكمًا بحكم الأمر الواقع، وظلّ المجتمع منقسمًا بشكل كبير؛ في معتقداته في ما يتعلّق بالإمامة الشرعية». ثم تناول الإمامة.. النظرية اللاهوتية للتطوّر المؤسسي، وأعاد بدايتها إلى الخلاف حول مقتل عثمان وتولي معاوية الأمر، فتصدى له أنصار أمير المؤمنين علي، والخوارج، حتى بعد انشقاقهم، فلم تكن تلك الخلافة الكهنوتية إلا تقويضًا للإمارة المدنية. وعندما استشهد الإمام علي، أيد الصحابي الجليل «حجر بن عدي» وأصحابه -أمثال عمرو بن الحمق وسليمان بن صرد والمسيب بن نجبة، غيرهم من أكابر أصحاب علي- بيعة الحسن بن علي. ولما استشهد هؤلاء المقاومون بعد موت الحسن بن علي ترسخ الحكم التديني، ونتج عنه «تأسيس الحكم الأمويّ على أساس العائلة الحاكمة، وفقد مؤيّدو مبدأ الخلافة الأولى الأمل بعد فشل محاولة عبد الله بن الزبير في إعادة بنائها».
ثم تناول البروفيسور دور المذاهب التي تشكلت، وكان أول مذهب شكله معاوية هو مذهب «المرجئة الجبرية»، فأكمل تخريب التمدن الإسلامي.
وبسبب انتصار الدولة الكهنوتية أصبح الرأي التقليدي بشكل عام في المدينة المنوّرة، والبصرة، وبغداد، والشام، مؤيّدًا لرؤية العثمانية التي تقصر خلافة الراشدين على الخلفاء الثلاثة الأوَل، رافضة خلافة عليّ، ثم أضاف: «لكن الرأي الكوفي التقليدي المؤيّد بشدّة لإدراج عليّ مع الراشدين، انتشر بسرعة، وفي النهاية، فضّل أحمد بن حنبل هذا الرأي، بالرغم من كونه مؤيّدًا للعقيدة العثمانية»، ويقصد أنه لم يكن رأيه رأي من أقصى عثمان من الإمارة الراشدة.
مشكلة عائقة أخرى تبناها الإمام أحمد بن حنبل -بشكل خاص- وهي صحّة الإمامة عبر الغلبة، في حين لا يحق للمسلم المشاركة في حربٍ أهلية في غياب الإمام، فإنّه ملزمٌ بالطاعة المطلقة والدعم الدائم للإمام، سواء أكان عادلًا أو ظالمًا، تقيًّا أو فاسدًا، إلاّ في حال مخالفته أصل الشريعة. ونسي الإمام الجليل أن الظلم والفساد هما مخالفة للشريعة الإسلامية أصلًا وفصلًا، ثم أفاض الكاتب في الحديث عن آراء «الحنفية» و«الماتريدية» و«الشافعية» بما ستقرأه في بحثه هذا. ثم تحدث البروفيسور عن القرشية وقدسيتها عند المذاهب، لكنه أشار إلى أن الماوردي أجاز حكم الوزراء والسلطنات إلى جانب القائم العباسي.
وبعد حديثه عن السنة تحدث عن آراء المعتزلة التي دعت المجتمع إلى إزالة الإمام الظالم، بالقوّة عند الضرورة. وعلى الرغم من أنّهم كانوا ينظرون إلى الخلافة الأمويّة بشكل عام باشمئزاز، إلاّ أنّهم اعتبروا الأمويّين عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد بشكل عام إمامين عادلين. أما موقفهم من العباسيين الأوائل، فقد دعم البعض الآخر الثورات العلوية، وفي وقتٍ لاحق، أصبح المذهب المعتزلي مؤيّدًا للعلوية، وأصبحت إمامة الحسن بن علي عقيدة مشتركة بعد أبي علي الجبائي (ت303هـ/ 915-916م). وفي كتاب «المغني» يناقش القاضي عبد الجبّار (ت415هـ/ 1025م) مسألة إمامة العلويين: الحسن، والحسين، وزيد بن علي، ومحمّد بن عبد الله (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، وذهب معظم المعتزلة إلى أن تعيين الإمام واجب على المجتمع؛ غير أنّ مجموعة من المعتزلة الأوائل، الميّالين إلى الزهد، اعتبروا أنّه يتوجب على المجتمع اختيار قادة للجهاد، ومحتسبين مؤقتين لغيره من الوظائف الضرورية، وذلك لإحباط أي طموح للسلطة الدنيوية. اعترض معظمهم على وجهة النظر التي تعتبر تعيين الإمام أمرًا واجبًا عقلًا، كما اعتبر الجاحظ، وأبو القاسم البلخي، وأبو الحسين البصري. وشدّد هؤلاء على وجوب تواجد إمام واحد في أي وقت. في المقابل، فضّل «أبو بكر الأصم» -بسبب الانتشار الواسع للإسلام- أن تختار كل بلدة إمامًا خاصًّا بها.
بعد ذلك تحدث عن «المدرسة الزيدية» وعن فروعها، ولاحظ أن الزيدية الأولى لم تعترف «بنسل وراثي للأئمة، لكنهم كانوا يؤيدون دعم أي فرد من أهل البيت يدّعي الإمامة، بشرط خروجه على الحكّام غير الشرعيين. في حين اعتبر بعض الزيديين -في أواخر القرن الرابع هـ/ العاشر م- جميع أحفاد أبي طالب، والد «علي»، مؤهّلين للإمامة، لكن المذهب السائد حصرها بأحفاد الحسن والحسين». وتحدث عن الجارودية فاعتبرها أكثر تطرّفًا، وقد أوردها ضمن حديثه عن الزيدية وهي ليست منها، كما حققت ذلك في مقال سابق في «مجلة المسار»، لكنها في فترة متأخرة انتشرت آراؤها عند كثير من الهادوية. وقد ذهب البروفيسور إلى أن انتشارها كان منذ القرن الثالث هـ/ التاسع م، وأجد نفسي أخالفه في تحديد هذا القرن، إذ كان ظهور الهادوية الزيدية في نهاية هذا القرن، ولم تكن تكفر صحابيًا؛ بل إن الهادي جلد رجلًا سب الراشدين الثلاثة، مما يدل على أن الجارودية سبقت الهادي في الظهور في اليمن، وهذه نقطة تستوجب البحث، ومن المؤكد أن علماء الهادوية الزيدية الكبار والأئمة العظام لم يسبوا الراشدين، بل نهوا عن السب، لكن الجارودية تسللت إلى من هم أقل علمًا.
ثم تحدث بعد ذلك عن الإمامية التي رفضت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وأصرّت على أن النبي قد عيّن عليًّا وصيًّا له، وتذهب إلى أن الإمامة بعد الحسن والحسين تُنقل إلى أحفاد الأخير عبر التعيين من الأب إلى الابن حتّى الوصول إلى المهدي.
ومن الإمامية انشقت الإسماعلية بعد وفاة الإمام جعفر، لكنها «حافظت على المفهوم الأساس للمعتقد الإمامي، أي الحاجة الدائمة إلى إمامٍ معصومٍ كمرشد سياسي وديني للبشر». ومن المهم الإشارة إلى ما تم في نظره من تعديلات متتابعة بعد ظهور الخلافة الفاطمية من الستر إلى العلن، كما فصله في مقال له عن الإسماعيلية نشرته «المسار» في العدد الماضي.
ثم تحدث عن الخوارج التي تشددت في شرعية الإمام بشكل جذري بعدله «فمن خلال أيّة مخالفة للقوانين الإلهية، يخسر الإمام شرعيته، ويجب إزالته بالقوّة إذا لزم الأمر»، وأضيف هنا أن مشكلة الخوارج أنها حصرت الإسلام وفق رؤيتها هي، فمن ليس منهم فهو خارج عن الإسلام مرتد عنه، ويجب إقامة إمام منهم، ولم يخالفهم من فرقهم في هذا القول «سوى فرق النجدات تعتبر أنّ المسلمين غير ملزمين بتأسيس إمامة إذا تصرّفوا بعدلٍ في ما بينهم»، وأجمعوا على عدم شرط «القرشية»، وأجاز أتباع «شبيب بن يزيد» في زمن الحجاج استثنائية، إذ رأوا أنّ المرأة مؤهلة للإمامة.
وذكر أن مؤهلات ووظائف الإمام الأخرى ولا تختلف -إلى حدّ كبير- عما هي عند أهل السنّة، و«من بين فِرق الخوارج المتعددة، يمكن دراسة الإباضية -فقط- من خلال كتاباتهم. ولم يجرِ أيّ تحرٍّ ممنهج حتّى الآن»، والحق أن الإباضية كما نراها اليوم أقرب إلى المعتزلة والزيدية.
ختم البروفيسور بحثه الممتع بالتطوّر اللاحق في نظرية الإمامة، فأكد أن الفكر السنّي حول الإمامة -الذي كان مرتبطًا بالخليفة العبّاسي المُعاصر في عصر الماوردي- قد اتسم بالتقلّب حسب التغيّرات، وتحت تأثير سلطنة السلاجقة، كان الغزالي جاهزًا أساسًا، لاعتبار الخليفة مجرّد ممثّل أوّل للإسلام، تم تعيينه عبر مبايعة الحاكم الفعلي، والذي تمّ تشريع حكمه -بدوره- من خلال اعترافه الرسمي بدور الخليفة.
وفي القرن الثامن الهجري/ 14م أكّد التفتازاني «أنّه لا يمكن أن تعتمد شرعية الأعمال القضائية على وجود إمام قريشي في وقت من المستحيل تعيين هكذا إمام، بسبب غلبة الاستبداد. وتمّ تجاهل خليفة الظلّ العبّاسي، الذي أقامه سلاطين المماليك في القاهرة، حتّى من قبل القضاة السنّة الذين يعملون في ظلّ حكم المماليك، مثل ابن تيمية وابن جُماعة».
ثم تحدث بإسهاب عن تغيرات حدثت في مفهوم الإمامة ابتداءً من القرن السابع هـ/ الثالث عشر الميلادي.
وأنتقل إلى موضوع تاريخي هام هو «العلاقة الرومانية بجنوب الجزيرة العربية في ضوء النقوش والوثائق التاريخية»، لـكاتبه الدكتور «مايكل ألكسندر شبايدل»، وترجمة الأستاذ عُمَر الدُّعَيْس.
ولعل القراء الكرام يخرجون من قراءته بفوائد جديدة كما خرجت أنا، وذلك أن اليمن بما يملك من حضارة وامتداد على شواطئ البحر، وتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر؛ أصبح هدفًا مقصودًا لمطامع الدول الكبرى، ومن الثابت تاريخيًا أن لا أحد من الدول الكبرى والصغرى تغلب على اليمن، بل كان هو المنتصر دائمًا.
ثم تناول الكاتب بالبحث ثلاث قضايا؛ الأولى: اهتمام الرومان بجنوب الجزيرة العربية. والثاني: شواهد التواجد الروماني في العربية السعيدة. والثالث: طبيعة علاقة الإمبراطورية الرومانية باليمن.
وكما ترى فالبحث آخذ بعضه ببعض في تناسق وترابط. بدأ بمقدمة، وأفضى إلى نتيجة، وعالج خلالها أهم الآراء التاريخية، وتلك هي طريقة البحث العلمي مهما يوجد من خلاف حول الرأي والاستنتاج.
ومن الملاحظ أن النقوش المسندية لم تشر إلى حملة «أيليوس جالوس»، فحتى الآن فلم يُعثر على ذكر الروم (ر م ن) إلا في أربعة نقوش من اليمن لا غير، وبطبيعة الحال فإن البحث حتى الآن لم يصل إلى نتيجة حاسمة لا في الغزوة الرومانية ولا في حملة الأنباط على «مأرب». واستعرض ما ذهب إليه كرستيان مارك حول ما ذهب إليه «سترابو» من فشل حملة «يوليوس»، معتمدًا على أمرين، الأول: أنه لم يستلم أي تقرير من القائد الفعلي. والثاني: أنه لم يستلم شهادة موثوقة من أحد المشاركين بالحملة. ويشكك في مصداقية سرد «سترابو» لمجريات في روايته، كما شكك في قول «سترابو» من أن ممالك العربية السعيدة كانوا حلفاء للرومانيين، معتبرًا أن الباحثين لم يلقوا إليه بالًا في العادة. على أني أقول إن البت في هذه القضايا يعود إلى استكمال ظهور نقوش يمنية جديدة.
ثم تحدث عن شواهد على الهيمنة الرومانية، وعن العلاقة الرومانية بجنوب الجزيرة العربية، وحول نقوش رومانية جديدة من جنوب الجزيرة العربية، كما ستقرأه في هذا البحث الممتع والمفيد والشامل.
وأعود بعد الفاصل التاريخي إلى تحقيق الدكتور جمال الشامي لكتاب «حكم التعامل مع أئمة الجور عند الزيدية»، للأمير الحسين بن بدر الدين بن محمد اليحيوي الذي يعتبر من علماء اليمن وفضلائهم ومنصفيهم. وهذا الكتاب عبارة عن تحليل دقيق لموضوعه، وضمنه ذكر آراء أئمة وعلماء الزيدية في توصيف الحاكم الظالم وأحكام التعامل معه.
وهذا البحث القيم يتناول ثلاث قضايا ينسجم بعضها مع بعض كلوحة فنية تناغمت فيها الألوان والظلال، وهي: 1- الاختلاف في حكم التعامل مع حكام الجور. 2- الجمع بين الأقوال، وتصويب الاجتهادات. 3- حكم الأخبار الظنية الواردة في الموضوع، والاجتهاد في تفسير النصوص.
وبدأ البحث عن موقف الزيدية الصارم تجاه أي حاكم جائر، مهما كان نسبه ومذهبه وتاريخه، وسيجد القارئ فيه تفصيلًا لآراء عموم علماء الزيدية، في جوانب التعامل مع الحاكم الجائر.
وكان للدكتور جمال الشامي فضل تحقيقه، ودقة صوابه، ولـ«المسار» طبعه في عددها هذا. والناظر إلى المراجع التي عاد إليها يدرك سعة اطلاعه وطول تعبه من أجل تصحيح كلمة أو ترقيم آية أو إخراج حديث، وهو ولا شك قد بذل جهدًا في موضوع من أهم المواضيع التي ترتكز فيها الزيدية والهادوية الزيدية، والتي لا يختلف عليها أحد من علمائها الكبار، إلا من رأى في القرب منهم ومخالطتهم منفعة شخصية.
وهذا الكتاب عبارة عن سؤال وجواب أفاض المؤلف في شرح كل سؤال بطريقة تعكس سعة علمه وإحاطته بما سئل عنه، ولست بمتتبع هنا المواضيع التي طرقها الكتاب، وسوف أكتفي فقط بالإشارة إلى الأسئلة، كطعم يثير شهية القارئ، وكان السؤال الأول عن: ما يجوز وما لا يجوز من مخالطة الظلمة. وقد قسمهم المؤلف إلى قسمين؛ قسم نابذ الظلمة منابذة حاسمة قاطعة، فلم يشايعهم أو يقاعدهم أو يواكلهم أو يشاربهم أو يصاحبهم، أو نحو ذلك، وهم كثر. والصنف الثاني «كانوا يأتون الظلمة الفجار ويأخذون عطاياهم بلا إنكار». وذكر مجموعة من أفاضل علماء البيت ممن كانوا يأخذون عطاياهم، ويجدر بي توضيح الفرق بين أخد العطايا وبين المعاضدة والتولي، فأخذ العطايا لا يعني الموالاة باعتبار ما يأخذونه منهم هو من حقهم، أما المعاضدة والمعاونة، فهي تعني مشاركة الظلمة في ظلمهم. وهو ما تنكره الزيدية والهادوية بخلاف موضوع العطايا التي أجازها كبار من العلماء، وحرمها كبار منهم، وعلى رأسهم الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، المتشدد في المقاطعة والمنابذة.
وقد تعرض المؤلف لقضية تكفير مكاتبة أعداء الإسلام، فقال هذا معلوم حظره شرعًا ضرورة، ويبقى الكلام حول من يقوم بذلك، هل يكفر أم يفسق. وأجاب: إن ظن أنه لا يضر في الدين فلم يكفر. وأما إذا فعل ذلك فاعل وقصد به مضرة الدين وأهله ونفع الكفر وأهله، فإنه يكون كفرًا.
وتناول موضوع إطعام الكافر واليتيم منهم، فأجازه لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ». ومنها: إطعامهم مكافأة على جميل قد تقدم منهم، وذلك جائز؛ لقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ومنها: إطعامهم على وجه دفع شرهم عن المسلمين، وكف بأسهم، ومنها: قضاء حوائجهم طلبًا للثواب أو مروءة حملت الفاعل على دخول هذا الباب.
وتناول موضوع مكارم الأخلاق، التي مثلها الإمام الأعظم أبو حنيفة مع جاره اليهودي الذي كان يسكر ويعلي صوته ويغني: أضاعوني وأي فتى أضاعوا، فلما كان ذات ليلة خفي على أبي حنيفة صوته، فسأل عنه، فأعلم أنه شرب فسكر فخرج ووقع في الحرس فحبسوه، فشفع فيه حتى أخرجه، وقال له: هل أضعناك؟ قال: لا أو كما قال. وكل ذلك من مكارم الأخلاق. وعلى الجملة كل ما كان من مكارم الأخلاق جاز فعله مع الفسقة الأشرار.
وتناول موضوع الهجرة عن الأوطان إلى بلاد غير إسلامية ومعادية، وجعله قسمين: فمن هاجر فعمر بلادهم وكثر سوادهم، فهذا يخرجه من دائرة الإيمان، ويوجب خلوده في النيران. وبحسب رأيه، فإن الدول الإسلامية التي تستثمر أموالها في العواصم المعادية من أجل أغراض سياسية بغية تثبيت حمايتهم، فيدخلون القسم الأول. أما إذا كانت الهجرة من أجل هدايتهم إلى الدين، فالمعلوم جواز ذلك من الدين، كما ناقش قضية دار الحرب ودار الجبرية، كما ستقرأه.
ثم أجاب على سؤال عمن يأمر الظلمة بحبس الفساق وإهانتهم، ثم على سؤال عن توبة من فعل ذلك هل تصح إذا لم يعتذر؟ وعن نكاح الزوجة البالغة والقاصرة.
وبالجملة فقد أجاب المؤلف المجتهد بتصافٍ وعمق على قضايا عالقة، فأوجد لها حلًا قد يستفيد منه علماء اليوم.
وفي الختام، أجد نفسي منجذبًا إلى الاطلاع على ثقافة منطقة من أحب المناطق إلى نفسي، ومن أكثرها شغفًا وإعجابًا، وأقصد بها منطقة «تهامة» ذات الكنوز المتعددة التي بدأت تظهر خباياها اللؤلئية بشكل لم يسبق له مثيل، والحمد لله، ويسعد «المسار» أن تشارك في «النهضة التهامية» بكل ما لديها من طاقة وسعة.
في هذا العدد مقال عن «الملابس في الثقافة الشعبية التهامية -الجذور التاريخية والأبعاد الدلالية»، للأستاذ المتخصص في تاريخ تهامة، والشاعر والناثر والباحث «علي مغربي الأهدل»، الذي سبق له أبحاث حول عطاء تهامة الفكري واللغوي. واليوم تناول في مقاله مقالًا يتحدث فيه عن زينة ملابس أهل تهامة، إذ نقرأ ذلك تحت ثلاثة مواضيع هي: 1- أدوات الزينة وتاريخ اللباس وتطوره. 2- الملابس في المجتمع اليمني القديم. 3- الزي الشعبي التهامي أشكاله ودلالاته.
وليس من شك عندي أن تلك الملابس هي انعكاس لحضارة غاربة، بل من قبل تلك الحضارة ومن بعدها، والمتتبع لتلك الملابس يجد فيها تاريخًا لمراحل مختلفة.
بدأ بحثه الممتع عن السبب الذي جعل الإنسان يرتدي الملابس، وماذا كان ثوبه الأول، وكيف وصلت الملابس إلى هذه الدرجة من التنوع والتعقيد في اللون والشكل والحجم والغرض والتأثير ليس في اليمن فقط، ولكن في مواطن كثيرة من العالم، وعن الزينة والرغبة في التزين لدى البدائيين.
وبما أنني أقرأ بحثًا أجهل معظم جوانبه، فلا يسعني إلا أن أستمتع بما كتبَ، وأستفيد مما قدم، كسائر قراء «المسار» الكرام. ولا شك أنهم سيستمتعون بما فيه كما استمتعتُ، وأنهم سيطلعون على شي جديد ومفيد.
على أني أريد أن أعلق على من وصفهم الكاتب بالبدائيين وبالمتوحشين الذين كانوا يسكنون جنوب أوروبا وغيرها في المغارات، فأقول أما البدائيون فلا تعقيب عليها، وأما المتوحشون فلا أعتقد أن تلك الكلمة تصيب حقيقتها، فلم يحدث منهم -مهما كانت الوسائل– ما حدث من متوحشي هذه القرون المتأخرة الذين قتلوا فيه الملايين من البشر، لا لشيء سوى الرغبة في الاستحواذ على الأرض والمال، فأية وحشية تفوق الوحشية التي تعرض لها الهنود الحمر في أمريكا، والمواطنون الأصليون في أستراليا بيد البريطانيين، وفلسطين بيد الغرب كله، وتلك المذابح احتلها الغربيون؟
وإذن، فإن كلمة الوحشية لا تنطبق على أولئك الذين كانوا يعيشون في المغاور والكهوف، وإنما تنطبق بكل معانيها على ساكني ناطحات السحاب، وليس أولئك الذين يعيشون فوق التراب، وهل هناك وحشية أقسى من وحشية الغربيين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما قبلهما من حروب تديينية. وإذ أقول ذلك فلأنني من قوم يحرصون على تعريف المصطلحات وفق معانيها وسلوكها
رئيس التحرير
بفضل الله جلّ وعلا، وهمة المساهمين الكرام ممن يهمهم البحث الموضوعي، والتحقيق المنصف بغية تفكيك العوائق الحائلة دون اليقظة المستبصرة؛ تدخل «مجلة المسار» عددها الثالث والسبعين واثقة الخطى، واضحة الرؤية، مزدهية بما حققت، فخورة بما ستحقق، في ظل وضع عالمي تغلّب فيه السيف على القلم، والجنون على الحكمة، والطمع على الإيثار، والوحشية على الإنسانية، وليست الأحداث التي تشهدها اليوم «غزة» إلا صورة واضحة لما يجري، وصوتًا نائحًا على الإنسانية المعذبة، وترجيعًا باكيًا ومبكيًا على ضياع «الأندلس» الفردوس المفقود.
وفي مثل هذا الضياع الإنساني، فإن شيئًا عالميًا يتولد من حضارة غربية فقدت تمدُّنها، وبدأت تباشير حضارة شرقية توشك أن تنتشر وتُشكل بداية لوضع حد لـحضارة القوة والنفعية، التي تآكلت بسبب مظالمها واستغلالها للإنسان.
ولكيلا يكون مسار الحضارة الجديدة كسابقتها، فإن القلم والقلم وحده كفيل بأن يقلِّم أظافر الجشع، ويهذب مخالب الاستغلال، ويطعِّم الحضارة القادمة بمعاني التمدُّن؛ حتى لا يظل الإنسان يتعذب تحت حضارة القوة والنفعية.
وهذا ما تحاول «المسار» -بجهدها المتواضع- أن تقوم به، على رغم من لا يقيم للقلم صولة وجولة، فللقلم رسالة أقوى من السيف، وأنفذ من الرمح، وقد قام التمدن الإسلامي على القلم، وفي البدء كان القرآن الحكيم، الذي استهل تمدنه بقوله تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ، خلق الإنسان من عَلَقٍ* ٱقۡرأۡ ووَرَبُّكَ الأكرم، الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَم، عَلَّمَ الإنسان مَا لم يعلم﴾.
وقد طبّق القلم رسالة القرآن، من خلال علم الكلام، فقامت حضارة متمدنة نموذجية لم تعرفها البشرية من قبل ولا من بعد. ولما حَرّف طبيعتها الإنسانية تسلطُ حكام طغاة وفقهاء سلطة؛ سقطت تلك الحضارة المتمدنة، لا سيما عندما نظروا إلى منافعهم، وتجاهلوا رسالتها.
ومن الثابت الآن أن البشرية تعيش في حالة مخاض عام لَمّا يخرج زبدته، فإن لم يلعب القلم دورًا مهمًا في بناء تمدُّن جديد؛ فإن حضارةً نفعيةً أخرى قادمة.
وأرجو أن تقوم «مجلة المسار» بدور ما في هذا الاتجاه، وأن تتضافر الأقلام المسلمة في هذا السبيل المستقيم، وتبتعد عن الخضوع لمرحلة التخلف الذي عاشه العالم الإسلامي، من القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي. ومتى تكاتفت الجهود فإن القلم سيضيء الطريق للساعين إلى تمدن حضاري.
في المقال والأول من هذا العدد، يعالج الأستاذ الدكتور زيد بن علي الفضيل «أزمة خطاب المثقفين»، من خلال الكشف عن أسباب انخراط المثقفين في مستنقع العنف، ودراسة منطلقات العنف وخلفياته الفكرية والسياسية، ومحورية معركة الوعي في ميادين التحدي المعرفي لإزالة أنواع من العوائق في طريق الحضارة التمدنيّة، لكيلا يبقى الطريق إليها صعب المسالك.
بدأ الكاتب مقاله بمناقشة الدكتور يوسف زيدان، الذي يعتقد أن ما دار حوله من نقاش أيقظ في داخله هاجس التفكير من جديد في طبيعة تأثير العقل السلفي ذي التكوين السلطاني، على مفاصل مجتمعنا المعرفي، وهما ما أثقل كاهل الأستاذ الدكتور «من كثرة التفكير وإمعان النظر، متسائلًا وباحثًا عن بواطن الإشكال، وكيف يمكن للمثقف المعرفي أن يتحول في لحظة عابرة من الزمن إلى بوق من أبواق السلطة؟ وليس بالضرورة هنا أن تكون السلطة سياسية، بل أخطر منها سلطة الهوى والكيد المعرفي. تلك السلطة التي أهلكت الكثير من العلماء عبر العصور، ولم تتردد في استخدام سيف السلطان لتتخلص من منافسيها». ويرد أسباب ذلك إلى أن «أزمة وجودنا العقلي، ونزقه الانفعالي، ليست خاصة بتيار أصولي تقليدي ديني، وإنما هي ممتدة في تركيبتها بمختلف التيارات المادية الجدلية، التي قد نطلق عليها تنويرية أيضًا».
وأمام ذلك، قام الأستاذ الدكتور بالبحث «عن سبب انخراط جانب من زوايا مشهدنا الثقافي في مستنقع العنف وسلوك النزق إزاء الآخر»، ودرس بعمق «منطلقات العنف الذي دخل به ومعه العقل الجمعي في أزمة فكرية نتج عنها صور متنوعة من مظاهر وأشكال النزق والعنف الفكري والمادي على النطاق الفردي والرسمي، لا سيما مع استلهام غلاة أتباع العقل السلفي لثقافتهم الدينية»، ثم تناول بإدراك لعبة السياسة ودورها في العنف والنزق، وأن بدايته «كان سياسيًا وليس فكريًا، كما هو بادٍ في حادثتي قتل “الجعد بن درهم” و”غيلان الدمشقي”». وبعد أن فصل ذلك التاريخ المريب تفصيلًا، تحدث عن التحدي المعرفي، وعن معركة الوعي، ووصل إلى الحل المطلوب، وهو التجرد: «في حال قراءة موروثنا المعرفي، ومن ثم شجاعتنا في غربلة كثير من نتاجه، الذي اكتسب حالة من القداسة والحصانة، بوصفه ينتمي لحقب زمنية مباركة، أصبغنا عليها صفة الخيرية، ونعتنا علماءها إجمالًا بالسلف الصالح. ذلك هو مفتاح التحدي المعرفي الذي يجب أن نخوضه بكل تجرد وجرأة».
وبعد أن طاف على قضايا مختلفة، خَلُص إلى «أن جوهر أزمتنا الثقافية المعاصرة كامن في الانسياق وراء سمت معرفي قائم على ثقافة ذهنية الغالب والمغلوب، فكان أن عمل بعض المثقفين على أطـْر الناس على رأي واحد، وفكر واحد، وهو الفكر والرأي الذي يؤمنون به». وللخروج من هذا المأزق فإن علينا العبور «حتى يتمكن مشهدنا الثقافي من مواجهة ذلك التحدي بكل منهجية وصلابة، فإنه يحتاج إلى أن تؤمن أطيافه الثقافية المتنوعة، بحتمية رفض الاستبداد الثقافي، وضرورة تبني ثقافة المثاقفة، الهادف إلى استثمار ما لدى الثقافات الأخرى من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية نبيلة، مما يؤدي إلى تنمية مختلف الكيانات الثقافية بشكل خلاق من جهة، وغير مضر بمقومات هوية وثوابت كلطيف على حدة».
ثم لخص الموضوع في أن «نجاح أي مشروع ثقافي يستلزم غياب أو ضعف سلطة ظاهرة التوجه الأيديولوجي، سواء في شقه السياسي أو الديني، ونماء مساحة الحرية بشكل مطلق وفق الضوابط الحقوقية» «وفي المقابل، فقد نتج عن سيطرة التوجه الأيديولوجي الأحادي، المؤمن باكتنازه لمفاصل الحقيقة، الرافع نبرة صوته بشكل حجب سماع غيره من الأصوات الأخرى، نتج عنه ضمور نمو وتيرة الحراك الثقافي بشكل عام»
وأشهد أن الأستاذ الدكتور قد ملأ بحثه بما يفيد وينفع، وبما يفكك العوائق في العودة إلى التمدن الحضاري الذي قام على القلم.
أواصل الحديث مع عائق سياسي آخر هو موضوع «الإمامة» تلك التي غيّر من سمّوا أنفسهم خلفاء الله على الأرض، وألبسوا قادتهم شكلًا كهنوتيًا بدعم واضح من فقهاء السلطة، وبذلك دخل عائق لم يَبلَ، وأصبح الجدل حولها محتدمًا، وقد تناول موضوع «الإمامة.. النظرية اللاهوتية للتطوّر المؤسسي» البروفيسور المرحوم: «ويلفريد مادولونغ» الخبير بالشؤون الزيدية والإسماعيلية والشافعية في اليمن، وتناول في هذا المقال: نظرية الإمامة في عموم الفكر الإسلامي، وتفصيل آراء المذاهب الإسلامية الرئيسية، موضحًا كيف تطورات لاحقًا لمواكبة المتغيرات المتلاحقة.
وليس من شك فإن ما طرقه البروفيسور لهو من أكثر العوائق السياسية؛ بل أم العوائق، حيث غابت حقيقتها وبقي شكاها، ولعبت المذاهب -بعد أن تحولت من مدارس- دورًا تخريبيًا في مفهومها ونقلها من «إمامة مدنية» إلى «خلافة الهية» يمكن توصيفها -بعد الانحراف بدورها- بالكهنوتية.
بدأ البروفيسور بحثه بالبداية المبكرة، ويقصد بها «الإمارة الراشدة»، إذ ذكر أن نقاشًا نظريًّا حولها فُتح بعد الحرب الأهلية «التي تركت معاوية حاكمًا بحكم الأمر الواقع، وظلّ المجتمع منقسمًا بشكل كبير؛ في معتقداته في ما يتعلّق بالإمامة الشرعية». ثم تناول الإمامة.. النظرية اللاهوتية للتطوّر المؤسسي، وأعاد بدايتها إلى الخلاف حول مقتل عثمان وتولي معاوية الأمر، فتصدى له أنصار أمير المؤمنين علي، والخوارج، حتى بعد انشقاقهم، فلم تكن تلك الخلافة الكهنوتية إلا تقويضًا للإمارة المدنية. وعندما استشهد الإمام علي، أيد الصحابي الجليل «حجر بن عدي» وأصحابه -أمثال عمرو بن الحمق وسليمان بن صرد والمسيب بن نجبة، غيرهم من أكابر أصحاب علي- بيعة الحسن بن علي. ولما استشهد هؤلاء المقاومون بعد موت الحسن بن علي ترسخ الحكم التديني، ونتج عنه «تأسيس الحكم الأمويّ على أساس العائلة الحاكمة، وفقد مؤيّدو مبدأ الخلافة الأولى الأمل بعد فشل محاولة عبد الله بن الزبير في إعادة بنائها».
ثم تناول البروفيسور دور المذاهب التي تشكلت، وكان أول مذهب شكله معاوية هو مذهب «المرجئة الجبرية»، فأكمل تخريب التمدن الإسلامي.
وبسبب انتصار الدولة الكهنوتية أصبح الرأي التقليدي بشكل عام في المدينة المنوّرة، والبصرة، وبغداد، والشام، مؤيّدًا لرؤية العثمانية التي تقصر خلافة الراشدين على الخلفاء الثلاثة الأوَل، رافضة خلافة عليّ، ثم أضاف: «لكن الرأي الكوفي التقليدي المؤيّد بشدّة لإدراج عليّ مع الراشدين، انتشر بسرعة، وفي النهاية، فضّل أحمد بن حنبل هذا الرأي، بالرغم من كونه مؤيّدًا للعقيدة العثمانية»، ويقصد أنه لم يكن رأيه رأي من أقصى عثمان من الإمارة الراشدة.
مشكلة عائقة أخرى تبناها الإمام أحمد بن حنبل -بشكل خاص- وهي صحّة الإمامة عبر الغلبة، في حين لا يحق للمسلم المشاركة في حربٍ أهلية في غياب الإمام، فإنّه ملزمٌ بالطاعة المطلقة والدعم الدائم للإمام، سواء أكان عادلًا أو ظالمًا، تقيًّا أو فاسدًا، إلاّ في حال مخالفته أصل الشريعة. ونسي الإمام الجليل أن الظلم والفساد هما مخالفة للشريعة الإسلامية أصلًا وفصلًا، ثم أفاض الكاتب في الحديث عن آراء «الحنفية» و«الماتريدية» و«الشافعية» بما ستقرأه في بحثه هذا. ثم تحدث البروفيسور عن القرشية وقدسيتها عند المذاهب، لكنه أشار إلى أن الماوردي أجاز حكم الوزراء والسلطنات إلى جانب القائم العباسي.
وبعد حديثه عن السنة تحدث عن آراء المعتزلة التي دعت المجتمع إلى إزالة الإمام الظالم، بالقوّة عند الضرورة. وعلى الرغم من أنّهم كانوا ينظرون إلى الخلافة الأمويّة بشكل عام باشمئزاز، إلاّ أنّهم اعتبروا الأمويّين عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد بشكل عام إمامين عادلين. أما موقفهم من العباسيين الأوائل، فقد دعم البعض الآخر الثورات العلوية، وفي وقتٍ لاحق، أصبح المذهب المعتزلي مؤيّدًا للعلوية، وأصبحت إمامة الحسن بن علي عقيدة مشتركة بعد أبي علي الجبائي (ت303هـ/ 915-916م). وفي كتاب «المغني» يناقش القاضي عبد الجبّار (ت415هـ/ 1025م) مسألة إمامة العلويين: الحسن، والحسين، وزيد بن علي، ومحمّد بن عبد الله (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، وذهب معظم المعتزلة إلى أن تعيين الإمام واجب على المجتمع؛ غير أنّ مجموعة من المعتزلة الأوائل، الميّالين إلى الزهد، اعتبروا أنّه يتوجب على المجتمع اختيار قادة للجهاد، ومحتسبين مؤقتين لغيره من الوظائف الضرورية، وذلك لإحباط أي طموح للسلطة الدنيوية. اعترض معظمهم على وجهة النظر التي تعتبر تعيين الإمام أمرًا واجبًا عقلًا، كما اعتبر الجاحظ، وأبو القاسم البلخي، وأبو الحسين البصري. وشدّد هؤلاء على وجوب تواجد إمام واحد في أي وقت. في المقابل، فضّل «أبو بكر الأصم» -بسبب الانتشار الواسع للإسلام- أن تختار كل بلدة إمامًا خاصًّا بها.
بعد ذلك تحدث عن «المدرسة الزيدية» وعن فروعها، ولاحظ أن الزيدية الأولى لم تعترف «بنسل وراثي للأئمة، لكنهم كانوا يؤيدون دعم أي فرد من أهل البيت يدّعي الإمامة، بشرط خروجه على الحكّام غير الشرعيين. في حين اعتبر بعض الزيديين -في أواخر القرن الرابع هـ/ العاشر م- جميع أحفاد أبي طالب، والد «علي»، مؤهّلين للإمامة، لكن المذهب السائد حصرها بأحفاد الحسن والحسين». وتحدث عن الجارودية فاعتبرها أكثر تطرّفًا، وقد أوردها ضمن حديثه عن الزيدية وهي ليست منها، كما حققت ذلك في مقال سابق في «مجلة المسار»، لكنها في فترة متأخرة انتشرت آراؤها عند كثير من الهادوية. وقد ذهب البروفيسور إلى أن انتشارها كان منذ القرن الثالث هـ/ التاسع م، وأجد نفسي أخالفه في تحديد هذا القرن، إذ كان ظهور الهادوية الزيدية في نهاية هذا القرن، ولم تكن تكفر صحابيًا؛ بل إن الهادي جلد رجلًا سب الراشدين الثلاثة، مما يدل على أن الجارودية سبقت الهادي في الظهور في اليمن، وهذه نقطة تستوجب البحث، ومن المؤكد أن علماء الهادوية الزيدية الكبار والأئمة العظام لم يسبوا الراشدين، بل نهوا عن السب، لكن الجارودية تسللت إلى من هم أقل علمًا.
ثم تحدث بعد ذلك عن الإمامية التي رفضت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وأصرّت على أن النبي قد عيّن عليًّا وصيًّا له، وتذهب إلى أن الإمامة بعد الحسن والحسين تُنقل إلى أحفاد الأخير عبر التعيين من الأب إلى الابن حتّى الوصول إلى المهدي.
ومن الإمامية انشقت الإسماعلية بعد وفاة الإمام جعفر، لكنها «حافظت على المفهوم الأساس للمعتقد الإمامي، أي الحاجة الدائمة إلى إمامٍ معصومٍ كمرشد سياسي وديني للبشر». ومن المهم الإشارة إلى ما تم في نظره من تعديلات متتابعة بعد ظهور الخلافة الفاطمية من الستر إلى العلن، كما فصله في مقال له عن الإسماعيلية نشرته «المسار» في العدد الماضي.
ثم تحدث عن الخوارج التي تشددت في شرعية الإمام بشكل جذري بعدله «فمن خلال أيّة مخالفة للقوانين الإلهية، يخسر الإمام شرعيته، ويجب إزالته بالقوّة إذا لزم الأمر»، وأضيف هنا أن مشكلة الخوارج أنها حصرت الإسلام وفق رؤيتها هي، فمن ليس منهم فهو خارج عن الإسلام مرتد عنه، ويجب إقامة إمام منهم، ولم يخالفهم من فرقهم في هذا القول «سوى فرق النجدات تعتبر أنّ المسلمين غير ملزمين بتأسيس إمامة إذا تصرّفوا بعدلٍ في ما بينهم»، وأجمعوا على عدم شرط «القرشية»، وأجاز أتباع «شبيب بن يزيد» في زمن الحجاج استثنائية، إذ رأوا أنّ المرأة مؤهلة للإمامة.
وذكر أن مؤهلات ووظائف الإمام الأخرى ولا تختلف -إلى حدّ كبير- عما هي عند أهل السنّة، و«من بين فِرق الخوارج المتعددة، يمكن دراسة الإباضية -فقط- من خلال كتاباتهم. ولم يجرِ أيّ تحرٍّ ممنهج حتّى الآن»، والحق أن الإباضية كما نراها اليوم أقرب إلى المعتزلة والزيدية.
ختم البروفيسور بحثه الممتع بالتطوّر اللاحق في نظرية الإمامة، فأكد أن الفكر السنّي حول الإمامة -الذي كان مرتبطًا بالخليفة العبّاسي المُعاصر في عصر الماوردي- قد اتسم بالتقلّب حسب التغيّرات، وتحت تأثير سلطنة السلاجقة، كان الغزالي جاهزًا أساسًا، لاعتبار الخليفة مجرّد ممثّل أوّل للإسلام، تم تعيينه عبر مبايعة الحاكم الفعلي، والذي تمّ تشريع حكمه -بدوره- من خلال اعترافه الرسمي بدور الخليفة.
وفي القرن الثامن الهجري/ 14م أكّد التفتازاني «أنّه لا يمكن أن تعتمد شرعية الأعمال القضائية على وجود إمام قريشي في وقت من المستحيل تعيين هكذا إمام، بسبب غلبة الاستبداد. وتمّ تجاهل خليفة الظلّ العبّاسي، الذي أقامه سلاطين المماليك في القاهرة، حتّى من قبل القضاة السنّة الذين يعملون في ظلّ حكم المماليك، مثل ابن تيمية وابن جُماعة».
ثم تحدث بإسهاب عن تغيرات حدثت في مفهوم الإمامة ابتداءً من القرن السابع هـ/ الثالث عشر الميلادي.
وأنتقل إلى موضوع تاريخي هام هو «العلاقة الرومانية بجنوب الجزيرة العربية في ضوء النقوش والوثائق التاريخية»، لـكاتبه الدكتور «مايكل ألكسندر شبايدل»، وترجمة الأستاذ عُمَر الدُّعَيْس.
ولعل القراء الكرام يخرجون من قراءته بفوائد جديدة كما خرجت أنا، وذلك أن اليمن بما يملك من حضارة وامتداد على شواطئ البحر، وتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر؛ أصبح هدفًا مقصودًا لمطامع الدول الكبرى، ومن الثابت تاريخيًا أن لا أحد من الدول الكبرى والصغرى تغلب على اليمن، بل كان هو المنتصر دائمًا.
ثم تناول الكاتب بالبحث ثلاث قضايا؛ الأولى: اهتمام الرومان بجنوب الجزيرة العربية. والثاني: شواهد التواجد الروماني في العربية السعيدة. والثالث: طبيعة علاقة الإمبراطورية الرومانية باليمن.
وكما ترى فالبحث آخذ بعضه ببعض في تناسق وترابط. بدأ بمقدمة، وأفضى إلى نتيجة، وعالج خلالها أهم الآراء التاريخية، وتلك هي طريقة البحث العلمي مهما يوجد من خلاف حول الرأي والاستنتاج.
ومن الملاحظ أن النقوش المسندية لم تشر إلى حملة «أيليوس جالوس»، فحتى الآن فلم يُعثر على ذكر الروم (ر م ن) إلا في أربعة نقوش من اليمن لا غير، وبطبيعة الحال فإن البحث حتى الآن لم يصل إلى نتيجة حاسمة لا في الغزوة الرومانية ولا في حملة الأنباط على «مأرب». واستعرض ما ذهب إليه كرستيان مارك حول ما ذهب إليه «سترابو» من فشل حملة «يوليوس»، معتمدًا على أمرين، الأول: أنه لم يستلم أي تقرير من القائد الفعلي. والثاني: أنه لم يستلم شهادة موثوقة من أحد المشاركين بالحملة. ويشكك في مصداقية سرد «سترابو» لمجريات في روايته، كما شكك في قول «سترابو» من أن ممالك العربية السعيدة كانوا حلفاء للرومانيين، معتبرًا أن الباحثين لم يلقوا إليه بالًا في العادة. على أني أقول إن البت في هذه القضايا يعود إلى استكمال ظهور نقوش يمنية جديدة.
ثم تحدث عن شواهد على الهيمنة الرومانية، وعن العلاقة الرومانية بجنوب الجزيرة العربية، وحول نقوش رومانية جديدة من جنوب الجزيرة العربية، كما ستقرأه في هذا البحث الممتع والمفيد والشامل.
وأعود بعد الفاصل التاريخي إلى تحقيق الدكتور جمال الشامي لكتاب «حكم التعامل مع أئمة الجور عند الزيدية»، للأمير الحسين بن بدر الدين بن محمد اليحيوي الذي يعتبر من علماء اليمن وفضلائهم ومنصفيهم. وهذا الكتاب عبارة عن تحليل دقيق لموضوعه، وضمنه ذكر آراء أئمة وعلماء الزيدية في توصيف الحاكم الظالم وأحكام التعامل معه.
وهذا البحث القيم يتناول ثلاث قضايا ينسجم بعضها مع بعض كلوحة فنية تناغمت فيها الألوان والظلال، وهي: 1- الاختلاف في حكم التعامل مع حكام الجور. 2- الجمع بين الأقوال، وتصويب الاجتهادات. 3- حكم الأخبار الظنية الواردة في الموضوع، والاجتهاد في تفسير النصوص.
وبدأ البحث عن موقف الزيدية الصارم تجاه أي حاكم جائر، مهما كان نسبه ومذهبه وتاريخه، وسيجد القارئ فيه تفصيلًا لآراء عموم علماء الزيدية، في جوانب التعامل مع الحاكم الجائر.
وكان للدكتور جمال الشامي فضل تحقيقه، ودقة صوابه، ولـ«المسار» طبعه في عددها هذا. والناظر إلى المراجع التي عاد إليها يدرك سعة اطلاعه وطول تعبه من أجل تصحيح كلمة أو ترقيم آية أو إخراج حديث، وهو ولا شك قد بذل جهدًا في موضوع من أهم المواضيع التي ترتكز فيها الزيدية والهادوية الزيدية، والتي لا يختلف عليها أحد من علمائها الكبار، إلا من رأى في القرب منهم ومخالطتهم منفعة شخصية.
وهذا الكتاب عبارة عن سؤال وجواب أفاض المؤلف في شرح كل سؤال بطريقة تعكس سعة علمه وإحاطته بما سئل عنه، ولست بمتتبع هنا المواضيع التي طرقها الكتاب، وسوف أكتفي فقط بالإشارة إلى الأسئلة، كطعم يثير شهية القارئ، وكان السؤال الأول عن: ما يجوز وما لا يجوز من مخالطة الظلمة. وقد قسمهم المؤلف إلى قسمين؛ قسم نابذ الظلمة منابذة حاسمة قاطعة، فلم يشايعهم أو يقاعدهم أو يواكلهم أو يشاربهم أو يصاحبهم، أو نحو ذلك، وهم كثر. والصنف الثاني «كانوا يأتون الظلمة الفجار ويأخذون عطاياهم بلا إنكار». وذكر مجموعة من أفاضل علماء البيت ممن كانوا يأخذون عطاياهم، ويجدر بي توضيح الفرق بين أخد العطايا وبين المعاضدة والتولي، فأخذ العطايا لا يعني الموالاة باعتبار ما يأخذونه منهم هو من حقهم، أما المعاضدة والمعاونة، فهي تعني مشاركة الظلمة في ظلمهم. وهو ما تنكره الزيدية والهادوية بخلاف موضوع العطايا التي أجازها كبار من العلماء، وحرمها كبار منهم، وعلى رأسهم الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، المتشدد في المقاطعة والمنابذة.
وقد تعرض المؤلف لقضية تكفير مكاتبة أعداء الإسلام، فقال هذا معلوم حظره شرعًا ضرورة، ويبقى الكلام حول من يقوم بذلك، هل يكفر أم يفسق. وأجاب: إن ظن أنه لا يضر في الدين فلم يكفر. وأما إذا فعل ذلك فاعل وقصد به مضرة الدين وأهله ونفع الكفر وأهله، فإنه يكون كفرًا.
وتناول موضوع إطعام الكافر واليتيم منهم، فأجازه لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ». ومنها: إطعامهم مكافأة على جميل قد تقدم منهم، وذلك جائز؛ لقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ومنها: إطعامهم على وجه دفع شرهم عن المسلمين، وكف بأسهم، ومنها: قضاء حوائجهم طلبًا للثواب أو مروءة حملت الفاعل على دخول هذا الباب.
وتناول موضوع مكارم الأخلاق، التي مثلها الإمام الأعظم أبو حنيفة مع جاره اليهودي الذي كان يسكر ويعلي صوته ويغني: أضاعوني وأي فتى أضاعوا، فلما كان ذات ليلة خفي على أبي حنيفة صوته، فسأل عنه، فأعلم أنه شرب فسكر فخرج ووقع في الحرس فحبسوه، فشفع فيه حتى أخرجه، وقال له: هل أضعناك؟ قال: لا أو كما قال. وكل ذلك من مكارم الأخلاق. وعلى الجملة كل ما كان من مكارم الأخلاق جاز فعله مع الفسقة الأشرار.
وتناول موضوع الهجرة عن الأوطان إلى بلاد غير إسلامية ومعادية، وجعله قسمين: فمن هاجر فعمر بلادهم وكثر سوادهم، فهذا يخرجه من دائرة الإيمان، ويوجب خلوده في النيران. وبحسب رأيه، فإن الدول الإسلامية التي تستثمر أموالها في العواصم المعادية من أجل أغراض سياسية بغية تثبيت حمايتهم، فيدخلون القسم الأول. أما إذا كانت الهجرة من أجل هدايتهم إلى الدين، فالمعلوم جواز ذلك من الدين، كما ناقش قضية دار الحرب ودار الجبرية، كما ستقرأه.
ثم أجاب على سؤال عمن يأمر الظلمة بحبس الفساق وإهانتهم، ثم على سؤال عن توبة من فعل ذلك هل تصح إذا لم يعتذر؟ وعن نكاح الزوجة البالغة والقاصرة.
وبالجملة فقد أجاب المؤلف المجتهد بتصافٍ وعمق على قضايا عالقة، فأوجد لها حلًا قد يستفيد منه علماء اليوم.
وفي الختام، أجد نفسي منجذبًا إلى الاطلاع على ثقافة منطقة من أحب المناطق إلى نفسي، ومن أكثرها شغفًا وإعجابًا، وأقصد بها منطقة «تهامة» ذات الكنوز المتعددة التي بدأت تظهر خباياها اللؤلئية بشكل لم يسبق له مثيل، والحمد لله، ويسعد «المسار» أن تشارك في «النهضة التهامية» بكل ما لديها من طاقة وسعة.
في هذا العدد مقال عن «الملابس في الثقافة الشعبية التهامية -الجذور التاريخية والأبعاد الدلالية»، للأستاذ المتخصص في تاريخ تهامة، والشاعر والناثر والباحث «علي مغربي الأهدل»، الذي سبق له أبحاث حول عطاء تهامة الفكري واللغوي. واليوم تناول في مقاله مقالًا يتحدث فيه عن زينة ملابس أهل تهامة، إذ نقرأ ذلك تحت ثلاثة مواضيع هي: 1- أدوات الزينة وتاريخ اللباس وتطوره. 2- الملابس في المجتمع اليمني القديم. 3- الزي الشعبي التهامي أشكاله ودلالاته.
وليس من شك عندي أن تلك الملابس هي انعكاس لحضارة غاربة، بل من قبل تلك الحضارة ومن بعدها، والمتتبع لتلك الملابس يجد فيها تاريخًا لمراحل مختلفة.
بدأ بحثه الممتع عن السبب الذي جعل الإنسان يرتدي الملابس، وماذا كان ثوبه الأول، وكيف وصلت الملابس إلى هذه الدرجة من التنوع والتعقيد في اللون والشكل والحجم والغرض والتأثير ليس في اليمن فقط، ولكن في مواطن كثيرة من العالم، وعن الزينة والرغبة في التزين لدى البدائيين.
وبما أنني أقرأ بحثًا أجهل معظم جوانبه، فلا يسعني إلا أن أستمتع بما كتبَ، وأستفيد مما قدم، كسائر قراء «المسار» الكرام. ولا شك أنهم سيستمتعون بما فيه كما استمتعتُ، وأنهم سيطلعون على شي جديد ومفيد.
على أني أريد أن أعلق على من وصفهم الكاتب بالبدائيين وبالمتوحشين الذين كانوا يسكنون جنوب أوروبا وغيرها في المغارات، فأقول أما البدائيون فلا تعقيب عليها، وأما المتوحشون فلا أعتقد أن تلك الكلمة تصيب حقيقتها، فلم يحدث منهم -مهما كانت الوسائل– ما حدث من متوحشي هذه القرون المتأخرة الذين قتلوا فيه الملايين من البشر، لا لشيء سوى الرغبة في الاستحواذ على الأرض والمال، فأية وحشية تفوق الوحشية التي تعرض لها الهنود الحمر في أمريكا، والمواطنون الأصليون في أستراليا بيد البريطانيين، وفلسطين بيد الغرب كله، وتلك المذابح احتلها الغربيون؟
وإذن، فإن كلمة الوحشية لا تنطبق على أولئك الذين كانوا يعيشون في المغاور والكهوف، وإنما تنطبق بكل معانيها على ساكني ناطحات السحاب، وليس أولئك الذين يعيشون فوق التراب، وهل هناك وحشية أقسى من وحشية الغربيين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما قبلهما من حروب تديينية. وإذ أقول ذلك فلأنني من قوم يحرصون على تعريف المصطلحات وفق معانيها وسلوكها
رئيس التحرير