افتتاحية العدد الثاني والأربعين

يصدر هذا العدد في ظل ظروف حزينة أيضًا، لفقد روابط “الأخوة الإسلامية” و”العربية” حيث تتمزق تلك الروابط تحت ضربات المذهبية البغيضة، فيسيل الدم غزيرًا، فيزيد من نمو أشواك التعصب السامة، وتزداد ضراوة الصراع المذهبي بين أبناء المذهب الواحد في البلد الواحد، ضمن دين واحد، وإله واحد، ولغة واحدة، وضمن مواطنة واحدة، وعادات واحدة. إن البيت يتشقق من داخله، وإن جوانبه تتصدع وأركانه تتهدم، وإذا لم يتداركه العقل الحكيم بسرعة فسيتحول إلى أطلال تذروه الرياح ، وعندئذ لا تنفع الشكوى، ولا يجدي الصياح.

 ومن أجل مواجهة هذا السيل الداهم كان مقال ” التسامح عند الإسماعيلية الفاطمية” محاولة لصد هذا التيار الجارف، وإنها لمحاولة ضعيفة لا تقوى على مواجهته، لكنها جهد المقل، أو بالأحرى نداء لمن يسمع، فيسعى بكل جهده لصد هذا التيار الجارف. إنَّ كلمةً من هنا، وكلمةً من هناك، وحرفًا يعانق حرفًا، وجملة تحتضن أخرى ستشكل منها في النهاية “بيان التسامح” فينير الطريق للتائهين في الظلمات.

تأبين الراحلان إسماعيل الوريث وإبراهيم مثنى

شهر الحزن
مال أحبابه خليلًا خليــلا * وتــولَّى اللّدات إلَّا قليـــلا

نسلوا أمس من غبار الليالي* ومضى وحده يحث الرَّحيلا

في شهر واحد رحل صديقان في فترتين متقاربتين، وكان خبر رحيلهما فاجعًا، أصمى فأوجع، وأصاب فجرح، وكان الوجع أليمًا، والجرح عميقًا، لقد تفننت الأحزان منذ صباي الباكر حتى شيخوختي الغاربة، في ألوان الحزن، وسُقيتُ الألم كاسًا بعد كاس: عند سقوط “الثورة الدستورية”، وعند استشهاد الأحرار، عند رحيل أبي، وأمي وبعض إخوتي وأخواتي وأصدقاء العقيدة ورفاق النضال حتى ظننت أن الأحزان قد انصهرت في كياني، وأصبحت من عناصر مكوناتي فلا أحس لها وخزًا، واعتقدت أنني قد تعودت عليها ألمًا، وأن حزنًا قادمًا لن يزيد في اللهب اضطرامًا، فقد تكسرت السهام على السهام، والنصال على النصال، وظننت أن كل سهم آتٍ قد عودني عليه، ولا يزيد في شغاف القلب المكلوم جرحًا؛ وظننت صدق المثل القائل: من تعود على السم أكله.

ولكن ظني لم يكن صائبًا، فعندما يصعقني خبر بمثل هذا الخبر فإن الجراح تسيل من جديد، وعندما صعقني خبر وفاتهما أحسست وكأنه السهم الأول، والحزن الأول، والجرح الأول، وكأنني على ميعاد مع بداية جديدة أتلقى خلالها أحزانًا جديدة، فتأكد لي أن ليس من الحزن فرار، وأن ناره تتجدد.

لقد مضى “إسماعيل” أولًا فصمت القلم الشاعر، وناح عليه الناي الساحر، وصَمَتت الكلمة الحرة، وخسره البيان، وافتقده اليراع، وبكاه الشعر والنثر معًا، وضجت عليه روائع الكلم. لقد كان شامخًا في شعره، شامخًا في نثره، شامخًا في سلوكه، امتدادًا لتاريخ عابق بالعلم، عاطر بالأدب، فواح بالشعر، صادع بالحق، وارث لدعوة الإصلاح التي أذن بها في فجر العصر الرابع عشر الهجري من منارات اليمن شهيد اليمن “أحمد بن عبد الوهاب”، فليس بدعًا أن يكون الراحل الحبيب جوهرة في عقد فريد. لقد نشأ غلامًا زكيًّا، صادقًا نقيًّا، وعاش مكافحًا أبيًّا، وكان فراقه على الأدب غير هين. إنه البلاء المبين.

وقبل أن تخف رواجف القلب المحموم، أصابه سهم جديد فنكأ كل الجراح. جاء الخبر صاعقًا بأن “إبراهيم مثنى”، – وهو في عمره الباكر، قد ترجل ورحل، وفقده الشباب الثائر ووجل، وخسره اليمن العاثر فعثر، وهو في أمسِّ الظروف للخروج من عثراته، وكانت “اليمن” – كل “اليمن” – أحوج ما يكونون إليه مناضلًا وقورًا ومجادلًا صلبًا، وإنسانيًّا ذا أفق رحيب. فأي إنسان كان وهو ابن الرابعة والعشرين من عمره؟! وأي إنسان سيكون عندما يعيش زمنًا أطول؟!، أستطيع أن أقول بكل صدق: لقد عمل “إبراهيم” في الأربع وعشرين سنة ما سيعمله غيره لمئات السنين، يدل على ذلك ما ترك من صدى تردد في الصحف العالمية، واسى وحزنًا رجعته الصحف المحلية، وتغريدات “الفيس بوك” و”تويتر”. لقد تجاوز ذكر “إبراهيم” حدود بلده، وفاض اسمه كما تفيض خاشعات صوفي عميق التفكير في الرحاب الفساح، وليس بمستنكر أن يحمل ابن الرابعة والعشرين هموم بلده وإنسانيته، فكثير من الناس كان نبوغهم مبكرًا، وتركوا تراثًا رائعًا. وقد كان “إبراهيم” من هؤلاء النوابغ. وبقدر ما كان الابتهاج بنجاحه، كان الحزن عليه غائرا، وكل من خبر “إبراهيم” وعرفه أكبره، ومن صادقه ائتمنه، فبكاه كل من عَرفهُ، بل بكى على “اليمن” لفقد هذا الفارس الشاب.

وفي مثل هذا الموقف الحزين الأليم أراني ألوذ بحديث “نبي الله” عندما فقد “إبراهيم” تسلية للقلب الموجع – (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإني على فراقك يا إسماعيل ويا إبراهيم لمحزون).

مقالات العدد


1

اخترت الكتابة عن ” التسامح عند الإسماعيلية الفاطمية” عن عمد، لا لأنها حكمت “اليمن الكبرى” في فترة زاهرة فقط، بل لأن الناس يأخذونها مذهبًا متعصبًا متطرفًا، لكن عند التحقيق فهي – عندما حكمت امبراطورية واسعة – أبدت تسامحًا مذهلًا مع المذاهب الأخرى، ومع الطوائف الدينية الأخرى فحققت – بتولية “نصارى” و”يهود” المناصب الرفيعة – المواطنة الحديثة قبل أوروبا بمئات السنين وحققتها كما لم تحققها دولة إسلامية أخرى، فقلت في نفسي لماذا لا يُتخذ من محاسن هذه المذاهب نموذجًا للتعامل؟ فإذا كانت “الإسماعيلية” قد ضربت هذا النموذج الجيد؛ فلماذا لا يحتذى وقد أثبت نجاحه؟، والجواب أن التعصب قد استبعد هذا المذهب من دائرة الإسلام، وهذا الاستبعاد أصبح عند معظم الناس رأيًا عامًّا متقبلًا فلا يقبل منه شيئًا، ويقبل عنه أشياء ليست من إنتاجه، ومن ثم ما يأتي به وإن كان صوابًا فهو مرفوض، مع أنه مذهب علمي إسلامي بحاجة إلى إبرازه بالشكل الذي هو عليه لا على ما صورته “السلطة السياسية” و”علماء السلطة” وفي سبيل هذه الغاية فنحن بحاجة إلى قيام ورشة علمية تنقض ما بني على التعصب الأعمى، والبغض الأطرش، وتقيم علاقات مذهبية صحيحة، تنفث الخبث من النفوس المتعصبة المأزومة، ومن ثم تعيد الحوار العلمي الموضوعي، من أجل أن تتعارف المذاهب ببعضها بعضًا على أسس الوقائع والحقائق، وليس على أسس الاتهامات.


2

ويأتي مقال البرفسور د. ويلفريد ماديلونغ” عن العلويِّين في جيلان وديلمان يكشف جانبًا آخر من آفات الشقاق، وهو جانب سياسي لا يخلو من تمذهب، وهذا المقال يتحدث عن رقعة صغيرة – هي “جيلمان” و”ديلمان” بعد ضعف “الدولة الزيدية” هناك، وقد حاول “الثائر بالله” أن يعيد للدولة الغاربة صعودها، فلم يقدر لأسباب كثيرة، ما يهمنا منها هو جانب الخلاف المذهبي داخل “الزيدية” نفسها في تلك الفترة، فالخلافات بين “الناصرية” و”القاسمية” قد كانت إلى حدٍّ ما سببًا من الأسباب في إذكاء الصراع، من ناحية، وإنهاك الدولة الزيدية المتهاوية من ناحية ثانية. ولعل هاتين المقالتين تساعداننا على تفهم أضرار الخلافات على وحدة أي كتلة كبيرة كانت أو صغيرة؛ داخل أي مذهب ومع المذاهب الأخرى.


3، 4

فإذا انتهينا من الحديث عن التعصب المؤلم نريح أنفسنا المرهقة على ضفاف الأدب والنقد، وهذا العدد يحتوي على مقالين عن البلاغة والشعر، الأول: للأستاذ الدكتور الأديب الشاعر المحقق “أحمد الماخذي” عن “مفهوم الحقيقة والمجاز (في المعيار) عند الإمام “يحيى بن حمزة”دراسة فنية كتبها شاعر متفوق بريشة فنان، وقلم عالم. والإمام العظيم “يحيى بن حمزة” كان إلى جانب علمه الواسع ناقدًا عميقًا، وله كتاب “الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز” في ثلاثة أجزاء، وهو من الكتب البلاغية التي قدمت جديدًا وخالفت طريقة “السكّاكي” في النقد التقليدي، وقد جاء الإمام فيه بما لم يأتِ من سبقه. ومن المؤكد أنه لا يقدم على الكتابة عن هذا الإمام – الذي يضاهي “سقراط” و”أفلاطون” كما يقول كبير علم الكلام” د. “أحمد صبحي” – إلَّا من يملك العدة والعتاد الكافيتين لمن يكتب عن هذا الإمام المهيب العظيم. وأشهد أن دكتورنا “أحمد الماخذي” يملك هذه العدة والعتاد.

والثاني مقال الأديب الناقد الفنان “حمدي الرازحي” شاعرية الثورة وثورة الشعر عند “قاسم الوزير” ومع أنه قد كُتب عن هذا الشاعر الكبير عدة مقالات قبل نشر ديوانه “لابد من صنعاء” وبعده، يبقى لما يكتبه أديبنا نكهة خاصة، وعبير متميز، وأديبنا “حمدي” يؤذن بفجر جديد يمثل مع كوكبة من الشباب الجديد: الأدبَ الجديد والذي أرجو أن يلقى الأدب والنقد على يديه طورًا جديدًا ومرحلة متقدمة وأنا على يقين أنه وأمثاله من الشباب الجديد يشكلون ضمانة لاستمرار التطور والإبداع.


5

نخرج الآن من دائرة الأدب إلى دائرة السياسية فنجد شابًا آخر، له مواهب واعدة في الأبحاث السياسية، ويملك قلمًا موضوعيًّا واعيًا. كتب عن “الدولة والتعدد المذهبي” كتابة موضوعية، وهذا المقال الممتع له صلة أيضا بالمذهبية من خلال السياسة، فهو تتمة للمقالين السابقين من ناحية ولكن من خلال منظور آخر من ناحية ثانية، فهو يطرح شيئًا جديدًا، يعكس معاناة الشباب الواعد في تناول القضايا بروح جديدة، وكما قال شاعر الإسلام “أحمد شوقي”:

شبابٌ قنّعٌ لا خير فيهم              وبورك في الشباب الطَّامحينا

و”عبدالله السالمي” من هؤلاء الشباب الطامحين إلى ثقافة متمكنة تخلق غدًا باسمًا، ومستقبلًا زاهرًا، ذلك أن الطريق إلى المستقبل المعمور يولد من فكر ناضج، يعالج الجذور العائقة في الأعماق، ولا يكتفي بمعالجة الندوب الظاهرة، والتغيير الحقيقي لا يأتي عن طريق التغيير السياسي فقط؛ لأن “الساسة” و”السياسة” يعيدون خلقهم وخُلقهم من طينتهم نفسها مع أصباغ وألوان جديدة، لكن أعماقها المظلمة ستظل تنضح بسواد، ومن المعلوم أن الثقافة تلد السياسة، وليست السياسة هي التي تلد الثقافة، والحضارة لا تقوم على المدفع والسيف، وإنِّما على القلم والبيان، وكاتبنا “السالمي” وأمثاله بنشاطهم هذا سيسهمون في إنتاج هذه الثقافة الجديدة، ومن ثم المستقبل الجديد.


6

ونختم هذا العدد – وختامه مسك – بمقال “تجنب الربا” للأستاذ ليندا بوكسبرجر وترجمة أستاذنا البرفسور الدكتور “أبو بكر باقادر” وكم لدكتورنا الكبير من يد سلفت ودينٍ مستحق على “المسار”. لقد أعطى الكثير وما زال يعطي بسخاء جم، لا تستطيع “المسار” ولا “أصحاب المسار” الوفاء به. وليس سرًّا القول إن “المسار” تدين له بالتعريف عن منطقة حضرموت وشعرائها ومهاجريها وعطائهم، ولن أتكلم عن موضوع ما ترجمه وهل لما بعد ما اختاره وترجمه من كلام.

وسلام عليكم