اترك تعليقاً

افتتاحية العدد الحادي والأربعين

لأن هذا العدد من “المسار” يخرج في هذه الفترة بين جمادى الآخرة – وشعبان/أبريل- يونيو فسنتوقف هنا عند سقوط “الثورة الدستورية وما تركته ورائها من ملاحقة الهاربين من زعماء “الثورة الدستورية” “عبد الله بن علي الوزير”، “الفضيل الورتلاني”، “محمد الزبيري”، “يحيى زبارة”.

سقطت “الثورة الدستورية” ليلة الجمعة بعد صلاة العشاء في 3 جمادى الأولى1367هـ/ 12 مارس1948م([1]) وسيق زعماء “الثورة الدستورية”من مناطق عدة تباعا بالسلاسل والأغلال إلى “حجة”([2])، معقل الإمام “أحمد”، ولم يكد يمض 24 يوما حتى استهل الإمام “أحمد” بداية جزر الرقاب بدون محاكمة  سوى برقية يرسلها إلى نائبه: أن اقطعوا رأس فلان، فيؤخذ الضحية إلى “ميدان حورة” أمام المسجد الكبير لتقطع رقبته، وباستثناء إمام الدستور “عبد الله بن أحمد الوزير” والمناضل الكبير “زيد الموشكي “الذين قطع رأساهما في ساحة السجن المغلق صباح يوم الخميس28 جمادى الأولى 1367هـ/ 8 ابريل 1948م. وما عداهما فقد كان “ميدان حورة” ساحة لإعدام الشهداء.

كان إعدام الإمام “الوزير” والمناضل “الموشكي” بداية المذابح وتبع تلك الدفعة تساقط رؤوس شهداء الثورة الدستورية من كبار المدنيين، وكبار مشايخ “بكيل”، ففي يوم الجمعة 29 جمادى الأولى 67/ 9 أبريل – أي في اليوم التالي لمصرع إمام الدستور “و”الموشكى”– قطف سيف الإمام الحاد رقاب كل من “مُحمد بن علي الوزير” و”أحمد البراق” والنقيب” محمد بن حسن أبوراس” -كبير “بكيل”- وابن عمه “عبد الله بن حسن أبوراس” والنقيب “حسن بن صالح الشايف” كبير قبيلة “ذو حسين” البكيلية. وفي يوم الأربعاء 5 جمادى الآخرة/ 14 أبريل جال سيف الإمام في رقاب كل من “عبد الله بن محمد الوزير” و”محمد بن محمد الوزير” و”أحمد المطاع”  و”عبد الوهاب نعمان”. وفي أول يوم من رجب/12 مايو ت ([3]) قطع سيف الإمام رقاب كل من “حسين الكبسي” و”محمد صالح المسمري” و”محيي الدين العنسي” و”أحمد الحورش”. وفي 19 شعبان/ 27 يونيو دُس سمُّ الإمام لسيف الحق “إبراهيم” كما أشيع بقوة. وفي يوم الثلاثاء 22 شعبان/ 29 يونيو جز سيف الإمام رقاب كل من “علي بن عبد الله الوزير” و”الخادم غالب”. وبمصرع هذين الشهيدين توقف سيف الإمام فترة رمضان، ليعيد قطاف رقاب آخرين، ففي يوم الجمعة 22 شوال 1367/27 أغسطس 1948 التهم السيف وجبة أخرى مكونة من “محمد قايد الحسيني” و«مصلح محسن هارون». وفي يوم الجمعة 22 القعدة 1367/25 سبتمبر 1948 قتل «أحمد حزام العنجبة». و«محمد حسن عزيز. وتوقف السيف ليهضم وجبته، ثم استيقظ ليلتقم وجبة جديدة ؛ ففي 7 ربيع الثاني 1368/ 5 فبراير1949 استهل الإمام بمناسبة ذكرى مصرع أبيه الإمام «يحيى» أعماله الدموية بقتل كل من «علي سنهوب» و«محمد الحسيني» بـ«صنعاء». وفي اليوم التالي مباشرة 8 ربيع الثاني/ 6 نوفمبر أمر بقتل «محمد سري الشائع» بـ«تعز» وكل من «محسن هارون» و«عزيز يعني» بـ«حجة» .ومضى اليومان بخمسة شهداء. وفي 3 جمادى الأولى/ 1 إبريل استشهد في “تعز” كل من «محمد ريحان» و«الذيب» و”الحسيني».


1

إحياء لتلك “الثورة الدستورية” ولأولئك الشهداء العظام الذين ذكرناهم هنا، والذين لم نذكرهم، يبدأ هذا العدد بما كتبه الدكتور الأديب الكبير والشاعر الناقد، “عبد العزيز المقالح” عن “مجموعات شعرية”، لصديقه الشاعر الأديب الناقد الكبير “قاسم بن علي الوزير”، ويلتقي الشاعران الكبيران  في مسار متناغم منذ تعارفا منذ زمن بعيد، فكلاهما أبناء “الثورة الدستورية، وكلاهما ناضلا منذ شبابهما الباكر، وكلاهما شاعران كبيران، وناثران مترسلان، وأديبان محللان، وكما يقال لا يفهم الشاعر إلا الشاعر، ولا الناقد إلا الناقد، والشاعر الذي تغنى بـ”ما ليس معقولا ولا مقبولا” في مجريات السياسة هو نفسه الشاعر الذي يتغنى نثرا بـ”ما ليس معقولا ولا مقبولا” في الشعر، ولهذا فإن لمقال الدكتور “المقالح”- رغم إيجازه- مذاقًا خاصًّا، وميزته أنه يتحدث بمعرفة عمن يعرف ظرفا ونشأة وتاريخا معاصرا، وثباتا في الرؤية، ووقوفا مع المعتقد، ومن ثم فشاعرنا يتناول ديوان صديقه عن قرب، ويتحدث عنه بمعرفة، وإذ نقرؤه نقرأ فصلًا من المعرفة التامة عن شخصية الشاعر بكل أبعادها، ومن الناحية الفنية فإننا لم نقرأ  في هذا المقال شعر “قاسم الوزير” فقط، بل نقرأ شعر “المقالح” فوق صفحات ديوان “مجموعات شعرية”.

وتدفقا فكلاهما بحر.


2

ويأتي بعد هذا مقال “الصمود والتحدي، وفيه كتبتُ- بالمعاينة والمعايشة والمشاركة والحزن والألم- ما رأيته بالعين، ولمسته باليد، وسمعته بالأذن، عن تولد فجر المقاومة من شفق المغيب، وعن تولد الصمود والتحدي من قلب الإحباط واليأس، وفيه شرحت أهوال ذلك الأسبوع الذي اجتاح “صنعاء” كالوباء العاصف، أو كـ”التسجير” الهائج، فيما يسمى اليوم “السونامي”، ورويت بأمانة -كنموذج لما أصاب غيرنا- ما أصابنا من سهام الحياة ونبالها ومخالبها في نلك الأيام الكالحة، والليالي السود: فقرا، وجوعا، وحرا، وقرا، والله يشهد أني لم أبالغ في شيء مما رويته وعايشته، أما ما سمعته فالله أعلم بصحته. ولن أطيل فيما كتبت، فغيري أولى به قبولا أو رفضا.


3

وتكريما للرجل العظيم الذي وهب حياته كلها للمسلمين، كتب المؤرخ المدقق مدرس التاريخ في “جامعة خميس مليانة” الأستاذ” آيت بعزيز عبد النور” عن هذا المصلح الكبير المتميز، تحت عنوان (دور الشيخ الفضيل الورتلاني (1906- 1954) في مساندة القضايا العربية والإسلامية- القضية اليمنية أنموذجا (1366-1367/ 1947-1945م)، وخيرا فعل، وجزيلا أسدى؛ فالمصلح “الفضيل” بحاجة إلى دراسات منوعة، تبعا لشخصيته المتعددة الآفاق، ولمجالاته العملية في رحاب المسلمين، وما كتبه الأستاذ المؤرخ-رغم اختصار ما كتب بالنسبة لسعة حياة شيخنا “الفضيل” إلا أنه  قدم لنا السيد “الفضيل” في إطار ينبض بإيقاع تحركاته الواسعة في مساراته الكبرى، في عالمه الرحب، وقد تمكن الأستاذ بأسلوبه الجميل لما يملكه من علم واسع بالسيد الكبير، صورة نابضة بالحياة، وكما علمت فإن مؤرخنا يشتغل الآن في إعداد كتاب عنه، أتمنى منه أن يسمح لـ”مركز التراث والبحوث اليمني- بشرف طبعه إسهاما في تكريم ذلك الزعيم العظيم.


4

بعد ذلك نأتي إلى بحث الأستاذ”عبدالله صالح القيسي” “تعدد الزوجات: دراسة نقدية للقراءة المعاصرة”، وأشهد أنه كان موضوعيا في نقاشه، وقد يكون أصاب في كل ما عرض، أو في بعض ما استعرض والعكس صحيح، إلا أنه من المؤكد أن طريقة حواره مع واحد من أشهر الدكاترة، أصحاب الجرأة العلمية “محمد شحرور” وغيره قديما وحديثا علمي وموضوعي يستحق عليه الثناء.

والحق أن هذا لموضوع يشكل-بسبب عدم فهمه ومقاصده الشرعية- مشكلة اجتماعية وإنسانية مزمنة، طالما تحدث عنها الباحثون من زوايا مختلفة، أفرط فيها البعض، وفرط فيها البعض، وجاء هذا الزمن فأصبحت فيه المتعة الجنسية للرجل هي غاية الغايات، بدون أسباب داعية لذلك، سوى الاستشعار بالامتلاك المطلق،  ولا مراعاة لمشاعر وعواطف المرأة الإنسانية، التي تملكها بفيض أقوى، ومشاعر أسخى، وبدون الحاجة إلى ذلك، سوى إشباع رغبة بدون إحساس برغبة الآخر، وبإهمال كامل لواجبات المودة والرحمة، وخضوعا لطغيان الذكورة، وغرورها، وظلمها.

وأحب أن أوكد على نقطة مهمة لا تراعى، وهي أنه ما دام هناك حق “التفاهم” في الزواج الأول، فهناك حق “الرضى” في الزواج الثاني، فإن قبل أحد الأطراف فذاك وإن لم يقبل فالانفصال هو الحق، وبطبيعة الحال فما يحق للرجل يحق للمرأة سواء بسواء، وهن يملكن حق الطلاق إذا طلبت ذلك عند العقد، أو في حالة الكراهية أو عدم قيام الزوج بواجبه الجنسي، كما يبيحه الشرع النبوي، لكن لا أحد في هذا العصر وعلى مستوى “العالم العربي” يعمل به؛ لأن “العرف” صرع “الشرع”، وكما كان هناك “فقهاء سلطة” لصالح الحكام، هناك “عرف ذكوري” لصالح الرجل، تولى ضرب “الشرع” عرض الحائط، وأفرط في تجاهل القيم الإنسانية.


5

إلى جانب هذا ننشر في هذا العدد برقيات -أمكن العثور عليها من بعض الأصدقاء الأعزاء-دارت بين الإمام “أحمد” وأخيه “عبد الله” ووزيره المفوض في “القاهرة” عن “الثورة الدستورية” ومنها حول “يحيى زبارة” ومحاولة تسليمه للحكومة اليمنية لقتله حيث وجد عليه الإمام-كما يقول- رسائل تثبت اشتراكه في التخطيط لقتل الإمام “يحيى” أو إخراجه من القاهرة، كما أن هناك برقيات بينه وبين وزيره في “بريطانيا” لوضع الشباك لـ”عبد الله الحكيمي”؛ ليقع فيها، وقد نجاه الله منها، وهناك برقيات بينه وبين والي “عدن” و”محمد علي جناح” – رئيس “باكستان”- معظمها يدور حول “الثورة الدستورية” وتداعياتها وثورة العدين ومطاردته العنيفة لـ”عبد الله بن علي الوزير” و”للفضيل” و”للزبيري” و”أحمد محمد الباشا” و”يحيى زبارة”، ومحاولة تسليمهم إليه أو منعهم من دخول أراضيهم، مما يكشف الستار عما كان غامضا.

كما هناك برقيات دارت بينه وبين “والي عدن” حولا الاضطرابات في “الجنوب”، وقد أرفق “والي عدن”  ببرقياته برقيات دارت بينه وبين الإمام “يحيى”. وكان الوالي يطالب فيها بوقف الأمير “حيدرة بن نصر ” من النشاط في “اليمن”، فأجابه الإمام بأنه سيأمر بذلك، وأشار إلى المعاملة بالمثل (إن لنا على حكومتكم  مثل ذلك) مشيرا إلى تواجد “حزب الأحرار” في “عدن”، ولكن “الوالي” لم يجب في برقيته عليه بهذا الخصوص، واستمر يلح على الإمام في إيقاف الأمير “حيدرة” فوعد الإمام بذلك، ولكنه ذكره مرة أخرى بمن لديهم من الأحرار بدون تصريح بأسمائهم، ولما لم يجب “الوالي” سكت الإمام “يحيى” عن تحريك هذه القضية، واستمرت البرقيات حول نشاط الأمير “حيدرة”.

وفي هذه البرقيات بدا الإمام “أحمد” خائفا من أن تعاد تجربة “الفضيل الورتلاني” فعندما اقترح أخوه عبدالله أن يأتي بخطيب مصري يعظ الناس ويبين لهم جرائم “الثورة الدستورية” ويُبغّض زعماءها عند الناس ويكرههم فيهم أجابه أن: (الخطيب المصري سيكون ورتلاني ثاني)،ومن الملاحظ -على غير عادة الإمام “أحمد”- هو الطلب إلى أخيه “عبد الله” بمحاولة إيجاد اثنين من اليمنيين يغتالون “الفضيل(وإذا وجدتم اثنين من اليمنيين دبرتم) وهذا دليل على حقده على الرجل إلى حد خالف فيها طبيعته المواجِهة، وقد وقى الله  السيد “الفضيل” تلك المحاولة.

ومن الملاحظات أن الإمام بدأ متحمسا  للنهضة  ببلده فقد أبرق لأخيه في مد خطوط التلفون بين المدن الكبيرة وفي تنويرها بالكهرباء، وفتح الصيدليات  لكن هذا التطلع ما لبث أن خبا ولم يتحقق من ذلك شيء إلا على نحو محدود في آخر عمره، وبفضل جهود ولي عهده -الإمام التقدمي فيما بعد-” البدر” رحمه الله. 

وكذلك بدا نشيطا في تقوية “الجيش”، بالمعدات الحديثة، فطلب من أخيه شراء خمس عشرة طائرة حربية ومدنية، قد علل سبب رغبته في شراء الطائرات الحربية خوفا من “القبائل” التي سلحها “الوزير”- حسب تعبيره- ومقدارها عشرين ألف بندقية، وبآلاف صناديق الذخيرة، وكان في نفس الوقت قد أمر باسترجاع كل ما صرف لهم، وكان قلقا من ردود فعلهم، ولما أرجعت “القبائل” كلما تسلمته  اطمأن ونام عن طلب الطائرات العسكرية لتسليح “الجيش” بها وبقي التسليح نائما إلى أن جاء “ولي العهد”–”البدر”-  فسلح “الجيش” بأسلحة تشيكية.

ومما يلاحظ أن أخاه السيف “عبد الله” قد طالب في برقية بتعويض من نُهب من “أهالي صنعاء”، ونصح أخاه بأن يُحمّل نهب صنعاء وما خلّفه من مرارة، إلى “الثورة الدستورية” وأنها هي التي تتحمل المسؤولية؛ لأنها أيقظت ما كان نائما، وقد اعترف الإمام “أحمد” نفسه في جوابه عليه بأن ما حدث في “صنعاء” كان زيادة على “معرة الجيش”، وأن القتلى من “أهل صنعاء” قليل، وأنه أمر بصرف صدقات وقروض “للتجار”، ولم يشر إلى أنه هو من أباح “صنعاء” وأمر “القبائل” بنهبها، وأثار شهيتهم في سلبها  في المنشور المشهور.

هناك إشارات إلى وجود “شفرة” كان يتم بها أو بعضها التبادل لكن ما لدينا غير مشفّر، ولعلها ما استخرج من “الشفرة” في معظم البرقيات فقد يكون بعضها بغير شفرة لكنا لم نتمكن من معرفة المشفّر من غير المشفّر.

من حسن الحظ أن كتابة البرقيات واضحة في مجملها مع وجود كلمات لم نتمكن من قراءتها، وتركنا فراغا في مكانها هكذا …..، وقد وضعنا المعكوفين [ ] إما لقراءة ما كان يمكن أن يكون في الفراغ، وإما زيادة في التوضيح، أما الهلالان ( ) فهي من الأصل تركناها على ماهي عليه.

وكان معظم التواريخ بالهجري، ونادرا بالميلادي والهجري، أو بالميلادي فقط، والأكثر ندرة بدون تاريخ؛ ولهذا قمت بوضع التاريخ الميلادي بجانب الهجري، والعكس صحيح، وأنا ممن يؤمن بأن التاريخ الهجري قد ظلم ظلما فادحا بتناسيه من قبل أبنائه، وأصبح المعتمد هو التاريخ الميلادي. ومن ثم فأنا دائما أعتمد كتابته والعكس صحيح؛ لأن الناس قد ألفوا التاريخ الميلادي فقط، وعندما أذكره بجانب الهجري يفهمونه زمانه أما بدون التاريخ الميلادي فهم لا يتفهمون زمان الهجري، وبذلك نستعيد التاريخ الهجري المنسي الذي غلبه التاريخ الميلادي، كما غُلبنا أمام الغرب في معظم قضايانا.

 كما قمت بالتعريف بالشخصيات اليمنية باختصار شديد، ولم أتعرض للشخصيات الأخرى الشهيرة إلا إذا أشير إليها باسم العائلة كـ”الوزير” أو”زبارة” أو”العمري”، حتى يعرف من هو المقصود بالضبط،  فتتجلى الصورة بشكل أفضل؛ تاركا بقية الشرح  إلى أن تصدر كل الوثائق في كتاب.


6

والشيء بالشيء يذكر فما دمنا قد تحدثنا عن الوثائق والتوثيق، والحرص على نشر الوثائق بدقة متناهية. فإني سأعرج مستعجلا على تعليق جاء في “مذكرات الرئيس القاضي عبد الرحمن بن يحيى الإرياني” حول ما جاء عنه في كتيبي “مؤتمر الطائف”، وفيه فهم مغلوط.

وقبل توضيح هذه النقطة لا بد من الإشارة إلى أن تسمية الكتاب -كما يبدو لي- كان من وضع المشرف أو الطابع، أو كليهما معا، وليس “الرئيس القاضي” هو من وضع هذه التسمية، فمن يعرف أستاذنا الجليل، ويعرف تواضعه الجم، وأدبه الراقي، وتعامله  المهذب، لا يشير إلى نفسه بـ”الرئيس القاضي”، ولا يفتخر بالرئاسة السياسية، على القاضي المجتهد، فهو في ذاته جبل علم راسخ، والكل مجمع على سعة علمه، وليست الرئاسة هي التي يفتخر بها هو، وخاصة في هذا الزمن على مستوى العالم العربي الذي سام الرئاسة كل مفلس، وإنما القاضي الجليل بمكانته العلمية الشامخة.

كان “القاضي الرئيس” -وأنا أقولها مفتخرا بهذه التسمية- يتحدث عن” مؤتمر الطائف” بحيادية وإنصاف، وروى أشياء كثيرة، توافق ما قلته في كتيبي “مؤتمر الطائف” بإضافة ما كان يجري في “القاهرة” ولم أعلم شيئا منها، وأنا أتفق معه فيما قاله إلا قليلا جدا تجازوها ولم يوضحها.

قال عن وصول “محمد نعمان” إلى “جدة” وأنه يحمل رسالة شفوية إلى المشايخ بإقناعهم بالتمسك بالنظام الجمهوري: (وبدلا من أن يقنع المشايخ اقنعوه بتوقيع الاتفاقية التي وقعوها) ثم أضاف حاشية رقم 2: (أحب أن أنبه هنا إلى أن السيد زيد بن علي الوزير قال في كتابه “مؤتمر الطائف” إن “الإرياني” و”نعمان الأب، و”محسن العيني” قد وقعوا على الاتفاقية، وهو محض اختلاق، وكأنه نسي أنه أورد صورة للاتفاقية وعليها توقيع “محمد” الابن فقط، وتوقيعات الشيخ “سنان أبو لحوم”، والشيخ “نعمان بن قائد” والشيخ “أحمد المطري”)([4]).

ولتوضيح الحقيقة فأنا لم أقل قط إنه والأستاذين “أحمد نعمان” و”محسن العيني” وقعوا على “اتفاقية الطائف”، وإنما قلت بالحرف الواحد خلال حديثي عن ردود الفعل: (نرى القاضي “عبد الرحمن الإرياني” يعلن في مؤتمره الصحفي الذي عقده في “القاهرة بتاريخ 18/4/ 1385هـ- 15/8/ 1965م : “أن رجال “الطائف” مناضلون وطنيون لا يشك في إخلاصهم”. كما نرى  الأستاذ “محمد أحمد نعمان”-مبعوث والده و”الإرياني” الذي وصل إلى “جدة” عقب التوقيع على “ميثاق السلام- ، يؤكد في رسالته إلى الملك “فيصل” مباركة والده والقاضي “الإرياني” لـ”مؤتمر الطائف”، ثم يؤكد كل ذلك بتوقيعه على “ميثاق السلام”)([5]) فأنت ترى أنني لم أقل إن الثلاثة وقعوا، وإنما قلت إن الأستاذ محمد في  الرسالة إلى الملك أكد مباركة والده، فأين التوقيع من المباركة؟! ثم إني لم أذكر الأستاذ “محسن العيني”  وإنما ذكره المرحوم “محمد نعمان” في الرسالة التي للملك والتي وقعها هو و””سنان “أبو لحوم” و”نعمان بن راجح”  و”أحمد المطري” تحت اسم  الوفد الشعبي الجمهوري اليمني، وجاء في الرسالة (وقد وصل الأخ “محمد أحمد نعمان” من “القاهرة” عن طريق “بيروت” وبلّغنا موافقة إخواننا في “القاهرة” على “ميثاق السلام” الذي وقعه ممثلو الفئات اليمنية المختلفة في “الطائف” وبالأخص موافقة القاضي “عبد الرحمن بن يحيى الإرياني” والأستاذ “أحمد محمد نعمان” والأستاذ “محسن العيني”) ومضت الرسالة تقول: (وعلى هذا فإن ما يأتي من هؤلاء منافيا اتفاق “الطائف” فإنما هو ناشئ من ظروف غير طبيعية وفي هذه الحال فإن من الضروري السماح لهم بالانتقال إلى “بيروت” لاستطلاع رأيهم الحقيقي البعيد من تلك الظروف غير الطبيعة وتحديد الموقف منه)([6]).

وفي ظل هذا التأكيد، بلغ اليقين ذروته بمباركة القاضي والأستاذين. ولم يبق لدينا شك في ذلك ولم أقل أنا، ولا الرسالة قالت: إنهم وقّعوا؟ وكيف يمكن أن يوقعوا وقتها وبين “الطائف” و القاهرة” البحر الأحمر؟.

على أن “الرئيس القاضي” أعطانا تفاصيل وقائع حدثت في “القاهرة” كنّا نجهلها، ولكنها على  كل حال تكمل صورة ما كان يجري على الضفة الأخرى من البحر الأحمر في “القاهرة”، قال ما خلاصته إنه في14 /8/ 1968م  اتصل به مكتب السيد “أنور السادات” وأخبره أنه سيزوره في المستشفى، فلما وصل (اقترح إيفاد الأستاذ “محمد أحمد نعمان” بوصفه قادرا على تعديل الموقف) وعرض عليه ما يمكن تسميته بالصفقة: (إذا قام  بالمهمة كما يجب فسوف تبدأ مصر ومع والده صفحة جديدة، فوافقت على ذلك وطلبت أن يأتي الأستاذ “محمد” إليّ، لأتأكد منه، وأوكد عليه، ضرورة بذل كل جهوده في إقناع المشايخ بالتمسك بالنظام الجمهوري، ولكنه، أي “محمد نعمان” في اليوم الثاني اجتمع بالمشير “عامر” في استراحته بـ”المعمورة” ثم جاء إلي بعد اتفاقه مع المشير، وقد اتفقت معه على ضرورة دفع المشايخ على التمسك بالنظام الجمهوري، وقد سافر إلى “السعودية” عن طريق “أسمرة” [الحقيقة بيروت] وسمعنا فيما بعد أنه بعد وصوله إلى هناك تأثر بالموقف، وبدلا من أن يقنع المشايخ أقنعوه بتوقيع الاتفاقية التي وقعوها)([7]).

لم نكن إذن نعرف ما حدث في “القاهرة” والذي نعرفه أنه جاء-رحمه الله – باسم الثلاثة متحمسا لتأييد “اتفاقية السلام” ومعه القاضي والأستاذان وإخواننا في “القاهرة”، وقد أخذ تصريح القاضي “عبد الرحمن” بالإشادة  بإخواننا الجمهوريين وشرطه  التمسك بالجمهورية واستبعاد أسرة حميد الدين([8])- بحسب ما أشارت إليه الرسالة- بأن (ما يأتي من هؤلاء منافيا اتفاق “الطائف” فإنما هو ناشئ من ظروف غير طبيعية) كما تقدم، وفي الوقت نفسه لم يكن قوله بضرورة التمسك بـ”النظام الجمهوري” يخالف “اتفاقية السلام” فـ”اتفاقية السلام” لم تنص على إلغاء “النظام الجمهوري”، ولم تكن “الدولة الإسلامية” هي البديل للنظامين، ولكنها كانت دولة مؤقتة حتى يبتّ “المؤتمر الوطني” المقترح فيهما من هنا، فدعوته إلى التمسك بـ”النظام الجمهوري” أمر طبيعي ، ولكن يبدو أنهم ظنوا أن “الدولة المؤقتة” هي تقاسم نفوذ، بين “مصر” و”السعودية” وأن “الملكية”، ستنصر، ويؤكد هذا الشعور أن الرئيس الإرياني قال إن الأستاذين “محسن العيني” و”محمد نعمان” جاءا إليه وطرحا عليه(فكرة التفاهم مع “الملكيين”  وذلك للخلاص من الحرب، ومن أي تقاسم “سعودي- مصري”  للنفوذ في “اليمن”، وزاد “العيني” بأنه قال إنه من الممكن الثورة على الملكيين المشاركة في الحكم فيما بعد، وقد استغربت جدا أن أسمع منهما مثل هذا الكلام، ورفضت بشدة، ولما سألني الأستاذ “محمد نعمان” على ماذا تعتمدون؟ قلت: على سبعين ألف جندي مصري)([9]).

بعد هذا أحب أن أقف  مع جملة وهو محض اختلاق ، وردت في الحاشية رقم 2، فهذا  تعبير ليس فيه نكهة أستاذي الجليل، كما عرفته وعشت معه أياما في “سجن حجة” وبعدها عندما كان معارضا وكان رئيسا، وكان فيهما ذلك الرجل الذي لا تبطره نعمة، ولا تفزعه نقمة، ولا يستفز الآخر بكلمات قاسية. ولا يمكنني أن أختلق على أستاذي وشيخي، ولا أجازيه بالكذب عليه، فأنا والحمد لله ممن يحفظ المعروف، ولا أجرؤ أن أقول عنه سوى أنه محض انفعال من أستاذي الجليل.

وأخيرا فهذه المذكرات من خير ما قرأت وخير ما يقرأ وأنصح بقراءتها لما فيها من كنوز وصدق وكشف ما كان وراء الستار وفيها حقائق كثيرة صادقة وموضوعية، وتعتبر من أهم المراجع عن “تاريخ اليمن” المعاصر بحق، وهي و”رياح التغيير” للسيد “أحمد الشامي” ومذكرات  الأستاذ “نعمان” و”عبد الله بن حسين الأحمر” من أصدق ما كتب، إلا أنهم – باستثناء “أحمد الشامي” – تجاهلوا أدوارا  مهمة شاركوا فيها، ولم يذكروها لسبب ما، ونحن نعرف أنهم على علم بها، وكمثال على تجاوز “القاضي الرئيس” قضايا كان هو بطلها، أو مشاركا فيها، موضوع مبايعته لـ”إبراهيم الوزير” في “قاهرة حجة” من أجل أن يستمر النضال حيا خاصة بعد نجاح “إبراهيم” و”محمد الواسعي” وغيرهما في “عصبة الحق والعدالة” قبل سجنهما، كما تغاضى عن ذكر إنشاء “حزب الإصلاح” في “قاهرة حجة” برئاسة “محمد عبد القادر” وعضوية القاضي “عبد الرحمن” و”إبراهيم الوزير” و”أحمد الشامي” وآخرين من كبار المعتقلين. مع أنه دور يثبت استمرار النضال العملي من داخل السجن، كما لم يشر أستاذي الجليل إلى تاريخ حافل جمعنا معه في مواقف كثيرة أشرت إليها في مقالات نشرتها في “جريدة الشورى”، وقد بقينا نتعاون معه، ولعل أهمها هو إقناع الأمير “سلطان بن عبد العزيز”-المسؤول عن “اليمن” آنذاك- بالتعاون الكامل مع “القاضي الرئيس” باعتباره الشخصية المتفق عليها وقد سافر أخي “قاسم” إليه لهذا الغرض، ولكن الانقلابين عليه سبقوا هذه المحاولة فأطاحوا به، ودخلت “اليمن” بعده في نفق العسكرية والقبلية، ولا أجد تعليلا لهذا الصمت عن هذه القضايا التي معنا، إلا أنه ربما حَذِر من اتهامه بـ”إبراهيمية” في وقت كان يفهق بالدعاية ضد “إبراهيم”. أما ماعدا ذلك، فكل ما رواه شيحنا وأستاذنا الجليل صادق. وليس هنا مجال للحديث عنها بتفصيل، ولعلي أعود إليها في فترة قادمة فأعمل “تكملة” لما رواه مستفيدا مما رواه من خبر مكنوز، وعلم مكنون. وبه تتكامل الصورة الناقصة. رضوان الله وسلامه على شيخي الجليل


الهوامش

([1]) في التواريخ اليمنية 3  جمادى وفي الكمبيوتر يوافق يوم الجمعة  12 مارس/ 1 جمادى الأولى، وقد أبقيت على التاريخ الهجري على ما هو عليه أنه تعومل به.
([2]) انظر تفاصيل مواكب الأسراء في أحمد الشامي رياح التغيير.
([3]) يوضح الكمبيوتر أن يوم أول رجب هو 3 رحب ويوم الأربعاء يوافق 12 مايو وقد أبقينا التاريخ الهجري على ما هو عليه أنه تعومل به.
([4]) عبد الرحمن الإرياني، مذكرات الرئيس القاضي عبد الرحمن بن يحيى الإرياني ، القاهرة: مطابع الهيئة المصرية، الطبعة الأولى، 2013. ج2، صص360-361.
([5]) زيد بن علي الوزير، مؤتمر الطائف، بدون ذكر المطبعة ولا رقم الطبعة ولا التاريخ، ص18.
([6]) انظر الرسالة في: زيد بن علي الوزير، مؤتمر الطائف،  صص42-43.
([7]) عبد الرحمن الإرياني، مذكرات الرئيس القاضي. ج2، صص360-361.
([8]) عبد الرحمن الإرياني، مذكرات الرئيس القاضي. ج2، صص360-361.
([9]) عبد الرحمن الإرياني، مذكرات الرئيس القاضي. ج2، ص357.