ليس جديداً ما نشاهد اليوم من دوامة التعصب والتعنصر الهائجة بين صفوف المسلمين، وإن فاضت حجماً وازدادت عمقاً، فهذه الظاهرة القاتلة لها جذور تمتد إلى ما قبل الخليقة، حيث رفع إبليس شعار أنا خير منه، فكانت هذه الخيرية أو الأفضلية أول ولادة التعصب، ثم رفع شعار العنصرية عندما قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾، وبهذين الهدفين سكن في الأرض، ومضى يحقق هدفه عن طريق القعود على الصراط المستقيم لإغوائهم عنه، فقام بكل جهده، وأتاهم «من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم»، وكان مسعاه وهدفه غواية الأكثرية، وطيها تحت عنصر الشر. وما نراه اليوم من اشتعال نار العنصرية ووحل طينة التعصب على الناس، ليس إلا تعبيراً عملياً عن التحكم فيهم «من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم»، ولن تجد تصويراً أروع للحالة المعاشة من هذا التصوير.
وفي تاريخ الإسلام تمكن الرسول الكريم والخالفة الراشدة من تنويم التعصب والتعنصر بـ: «ليس منا من دعا إلى عصبية، ودعوها فإنها منتنة، وأكرمكم عند الله أتقاكم، وكلكم لآدم وآدم من تراب». وعلى أنقاض العصبية والعنصرية رفع الإسلام مبدأ الأخوة المتساوية، فألف بين قلوب الناس، لكن نظام الخلافة الراشدة المدني، لم يكن قد تجذر في النفوس، ولم يكن قد أصبح سلوكاً ثقافياً، فكان سهلاً لعاصفة الانقلاب الملكي الأموي أن تنتزع بسهولة غراس رابطة الإخاء والتواد، لصالح الوراثة العنصرية الأسرية، وأن تستعيد إحياء العنصرية محصنة بـالعصبية، ومن ثم قام على هذه الأسس تاريخ المسلمين حاملاً معه تراث «أنا خير منه، وأنا من نار وهو من طين»، محطماً تراث آدم الإنساني، المتمثل في مبدأ الإخاء والتواد.
وقد لبث عنصرا الشر: العنصرية والعصبية، يتوالدان ويتضخمان جيلاً بعد جيل، يمدهما الحكام وفقهاء سلطتهم بوقود مشتعل لم يتوقف، حتى بلغا ذروة جنونهما في عصرنا المشبع بالهلاك والدمار، وبشكل لم يعهده تاريخ المسلمين أنفسهم من قبل، وأرجو ألا يعرفوه من بعد.
منذ بداية تاريخ المسلمين -إلا فترات- تحول التوأم: (طين التعصب، ونار التعنصر)، إلى رصاص تكفير قاتل، استخدمه الحكام وفقهاء سلطتهم لصالح ترسيخ الحكم الفردي الوراثي، وتحقيق أطماعه السياسية، وطموحه الشخصي، متخذاً من التكفير مجناً ضد من يقاومه فكرياً، أو يخرج عليه سياسياً. فكان التكفير هو الطريق الأقرب للتخلص من الخصوم. و ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾، كما قال الله تعالى.
استهل الخوارج التكفير، منذ بداية نشأتهم، فكفروا الخليفتين الراشدين: عثمان (ت35هـ/656م) وعلي (ت40هـ/661م)، وبقية الحكام، باستثناء أميري المؤمنين عمر بن عبدالعزيز (ت101هـ/720م) وزيد بن علي (ت1 صفر122هـ/740م)، وأوجبت على نفسها الخروج عليهم، تحت هذا الشعار التكفيري المنكر، وبعد فترة يسيرة استهل معاوية بن أبي سفيان (ت60هـ/680 م) الشتم والسباب، وسال نهر التكفير جارفاً ضد كل من يخشون منه ضرراً، فلم تمضِ أعوام حتى استخدم هشام بن عبدالملك (ت125هـ/743م) تكفير كل من يؤمن بـحرية الإرادة، وبأن الإنسان مخير لا مسير، لما في هذا الفكر من خطر على ملكهم القائم على الجبرية المطلقة، فكان استخدام التكفير وسيلة قاتمة لتصفية أصحاب الفكر الحر والإرادة الحرة، فقتل كل من معبد الجهني (ت80هـ/669م) والجعد بن درهم (ت105هـ/724م) وغيلان الدمشقي (ت106هـ/742م)، وفي العهد العباسي استهل أبو جعفر المنصور (ت158هـ/775م) تكفير من سماهم «الزنادقة»، فقتل الكاتب الكبير عبدالله بن المقفع (ت141هـ/759م) وغيره، وأفرط ابنه المهدي (ت169هـ/785م) في قتل الكثيرين تحت هذ الشعار القاتل.
ولم يكن حال أتباع المذاهب أفضل من حال الحكام، وفتاوى علماء السلطة، فقد وقف معظم قادة المذاهب المتأخرين من مظالم الحكام إما صمتاً وعدم إنكار، أو تأييداً وتعضيداً، ولم يمضِ كبير وقت حتى غاصوا في موج التكفير، واستخدموه ضد بعضهم بعضاً بقوة وبعنف. وإذا كنا نفهم أطماع السياسيين وإغراقهم في استباحة الدماء، من أجل حكمهم، فإننا نجهل سبب استخدام أتباع المذاهب له بكثرة مفرطة، مع أن المفترض أن يكونوا دعاة سلام ووئام وانفتاح؛ لأنهم – كما يفترض – أيضاً أكثر الناس فهماً لرسالة التسامح في الإسلام النقي، ولكنهم تحجروا في قواقعهم، وأرادوا أن يحجُروا واسعاً، فكان التكفير وسيلة لانغلاق كل منهم في قبوه.
وهنا أطرح سؤالاً: لماذا انساقت المذاهب ذات الينابيع النقية إلى وحل التعصب ونار التعنصر، بعد أن كانت مثلاً للنقاء والصفاء؟ وفي محاولة للجواب أقول: إنه كما حدث انقلاب سياسي بالقوة على الخالفة الراشدة، حدث انقلاب على المذاهب بالإغراء، فانقلب أتـباع الإمام الأعظم أبو حنيفة (ت150هـ/767م) على مدرسة الرأي الحر، ونجح أتباع إمام السلام والتسامح في الانقلاب على داعية التسامح أحمد بن حنبل (164-241هـ/ 780-855م)، وسال التكفير على أيديهم وشاع وذاع، واستخدمه بشكل مفرط الإمام ابن تيمية (ت728هـ/1328م)، والإمام محمد بن عبدالوهاب (ت1206هـ/1791م)، وقل كذلك في بقية المذاهب التي لم تبخل باستخدام التكفير على الآخر، ولا ننسى عامل السلطة في هذا التوجه، وليس الأمر السياسي بحصر المذاهب بأربعة إلا تدجين المذاهب بصالح الحكام، ومن هنا ثبتت طاعة الحاكم طاعة مطلقة.
سؤال آخر: لماذا توسع التكفير واستعر؟ والجواب باختصار يعود إلى انقطاع الحوار العلمي بين الأطراف، وإلى أحياء التكفير ليصد عن منهج الإثراء والتفكير، وليُسهم بقوة في الانغلاق، وليس من شك أن مبدأ أنا خير منه، قد عمق لصاحبه ملكية الصواب واحتكار الحق، وبطلان ما عند الآخر، واعتبار أن ما عند الآخر ليس إلا ضلالاً مبيناً، وبهذا الفهم الظالم والمظلم قامت الأسوار المانعة، وانطلقت من خلفها قذائف التكفير والتفسيق.
1
تلك مقدمة موجزة أفرشها أمام مقال البروفيسور الدكتور «بركات محمد مراد»، أستاذ الفلسفة الإسلامية، في «الحوار منهج التواصل الإنساني»، الذي طاف بنا معه في أودية تتكسر فيها الأجنحة، ليسهم بجهد العلامة المطلع على العوائق التي حالت وتحول دون حوار إنساني جديد، يلغي نار العنصرية وطينة التعصب، وليس أمام الإنسانية كلها من ملاذ إلا عبر الحوار النقي لإطفاء نار العنصرية، وتنقية طينة التعصب من أوحاله وجراثيمه.
ويوضح البروفيسور الوقور: «إن الحوار في معناه الصحيح لا يقوم ولا يؤدي إلى الهدف المنشود إلا إذا كان هناك احترام متبادل بين الأطراف، واحترام كلِّ جانبٍ لوجهة نظر الجانب الآخر. وبهذا المعنى فإنَّ الحوار يعني التسامح واحترام حرية الآخرين، واحترام الرأي الآخر لا يعني بالضرورة القبول به. وليس الهدف من الحوار مجرد فكِّ الاشتباك بين الآراء المختلفة أو تحييد كل طرف إزاء الطرف الآخر، وإنما هدفه الأكبر هو إثراء الفكر، وترسيخ قيمة التسامح بين الناس، وتمهيد الطريق للتعاون المثمر في ما يعود على جميع الأطراف بالخير، وذلك بالبحث عن القواسم المشتركة التي تُشكِّل الأساس المتين للتعاون البنَّاء بين الأمم والشعوب. والحوار بهذا المعنى يُعد قيمة حضارية ينبغي الحرص عليها والتمسك بها وإشاعتها على جميع المستويات.
ولا جدال في أنَّ الحوار قد أصبح في عصرنا الحاضر أكثر إلحاحاً من أيِّ وقتٍ مضى، بل أصبح ضرورة من ضرورات العصر، وليس فقط على مستوى الأفراد والجماعات، وإنما على مستوى العلاقات بين الأمم والشعوب المختلفة. وإذا كانت بعض الدول في القرن الجديد لاتزال تُفضِّل شريعة الغاب بدلاً من اللجوء إلى الحوار، فإنَّ على المجتمع الدولي أن يُصحِّح الأوضاع، ويعيد مثل هذه الدول الخارجة على القيم الإنسانية والحضارية، إلى صوابها، حتى تنصاع إلى الأسلوب الحضاري في التعامل مع الحوار. فليس هناك من سبيلٍ إلى حلٍّ المشكلات وتجنُّب النزاعات إلَّا من خلال الحوار».
ثم توسع البروفيسور في الحديث عما للتعارف من الأهمية البالغة في النسيج الإنساني، وأن القرآن الكريم أمر به، وحث عليه وأوجبه، ثم شرح ضرورة الحوار، في إقامة العلاقات الإنسانية الحميدة، ثم تحدث عن علاقته بالحضارة والثقافة، وبحوار الحضارات، كما توسع في الحديث عن الحضارة الإسلامية وانفتاحها على الحضارات الأخرى، والتعددية الموجودة فيها، وأفرد عنواناً للحديث عن الإسلام والتسامح، وموقف الحضارات الأخرى من الآخر، وموقف الإسلام من الآخر، وعن «صحيفة المدينة» أو دستور المدينة، التي تعتبر أول ميثاق للتعايش في الاجتماع الإسلامي بين مختلف الأديان.
2
ومن أجواء الحوار النقي نفسه، كان مقال الدكتور «حميد العوضي»، أستاذ اللسانيات، عن «لهجات الجزيرة العربية كما يصفها الهَمْدَانِي». وكان هذا المقال قد سبق نشره، لكن مؤلفه أعاده منقحاً مزيداً مزيناً بالخرائط العلمية، مما استدعى إعادة نشره، لجدة ما أضيف إليه، ولأهميته.
إن حياة لسان اليمن الهمداني تعاوره متناقضان: محب غال، ومبغض قال؛ محب لا يرى فيه عيباً، ومبغض لا يرى فيه حسناً، فجاء الدكتور العواضي في هذا المقال وفي ما كتبه، بين ذلك قواماً، وهذا ما ينبغي للباحث أن ينهجه ويتخذه سبيلاً، فلا يرى بعين واحدة، ولا يسلب حسناً هو في صاحبه، ولا يضيف إليه ما ليس فيه. إذ إن لكل إنسان عالم أو جاهل محاسن وعيوباً، وللهمداني سلبيات وإيجابيات سياسية، وله إيجابيات وسلبيات علمية أيضاً، وبعملية توازن تجد أن إيجابياته تفوق سلبياته بما لا يقاس، «وأي الرجال المهذب»؟! و«كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه»، وهذا بالضبط ما يقف عليه الدكتور المنصف العواضي، فحديثه عنه حديث إنصاف، ومقولة عدل، فلم يغل، وكان بين ذلك منصفاً. وإن إنساناً في حجم الهمداني وما أعطاه للغة والجغرافيا، ليستحق البحث بإنصاف، وليس من شك عندي أن التعصب من كلا الجانبين قد أحاط به الدكتور خبراً، فتجنبهما.
كان الهمداني عالماً لغوياً وجغرافياً كبيراً وشاعراً جيداً، وهذا ما يهمنا أن نقرأه وتستفيد منه، ومن سلبيات وإيجابيات مواقفه السياسية ما يبرز كإنسان بكل ألوانه، ونحن نعرف أنه تعرض لود الصديق فغالى فيه، ولعداوة الخصيم فأسرف. وأتمنى من دكتورنا أن يتناول تاريخه بطريقته العلمية.
بالنسبة للمقال سنجد الدكتور قد تناول بإنصاف الهمداني اللغوي المتفوق، فأبان في مقاله عن كفاءة ممتازة ملكها الهمداني الجليل، وقد اهتم دكتورنا بما كتبه الهمداني عن اللغة العربية واللهجات اليمنية وبقايا الحميرية، فكشف عن ساحة يجب أن تتوالى الأبحاث فيها، لأن الاهتمام باللسان هو اهتمام أيضاً بالكشف عن الحضارة الإسلامية والحضارات القديمة، وكما نعرف، فدراسة الألسنة طريق مهم للكشف عن الحضارات الغاربة، ولعل من أهم ما قدمه الهمداني هو أنه في كتابه صفة جزيرة العرب قدم «وصفاً لجغرافيا اللغات، أو اللّهجات كما صِرْنا نسميها اليوم. وهي اللهجات التي كانت سائدة على أيامه في الجزيرة العربية». وهذا في حد ذاته توفير ساحة واسعة للبحوث فيه، ومن المؤكد أن من ليس له لسان، فليس له حضارة، وقد وفر عالم اللسان العربي الهمداني الفصيح، إلى جانب ما فهمه من «قلم المسند»، وإن لم يكن في مستوى الباحثين المتخصصين والدارسين المعنيين، ومع ذلك فما أعطاه في هذا الباب إضاءة مفيدة.
وقد حدد الدكتور – وهو من علماء الألسنة – أن هدفه من هذا البحث «تحقيق النص تحقيقاً علمياً بإخراجه مضبوطاً لغةً وأعلاماً، ثم تحليله للتَّعرف على واقع اللغات في جزيرة العرب كما يصفها لسان اليمن أبو محمد الحسن بن أحمد الهَمْدَانِي (280-360هـ/ 893-971م)، والكشف عن خصائص طريقته في وصفها، وبيان جغرافيتها، بحيث يمكن إِضَاءة ما أَشْكَلَ من المواقف حول لُغة اليمن وعلاقتها بالفصحى. كما يهدف البحث إلى التعريج على مواضع الاختلاف بين ما جاء عند الهَمْدَانِي، وما ورد في كتب التراث حول وصف اللهجات أو تلقيب بعض ظواهرها. كما يهدف إلى إسقاط الوصف على خرائط تقرِّب المادة إلى الأفهام، وتشرع لدراسة جغرافية تاريخية أوسع وأدق».
ومما بدا – على أن الدكتور فحص كتاب صفة جزيرة العرب فحصاً دقيقاً – أنه عثر على نص نشر ضمن كتاب صفة جزيرة العرب، مفصولاً عن سياقه، «وقد اعتمدنا تحقيق القاضي محمد بن علي الأكوع، طبعة مركز الدراسات والبحوث اليمني، وهي طبعة أُصِيبت بعيب يخص هذا النص، من حيث إنها وضعت شطراً منه في صفحة (ص248)، ثم قطعت استمرار الكلام فيه بصفحة (ص249)، ثم استأنفت النص في الصفحة التالية (ص250). ولا نعلم بالدقة مدى الأخطاء الشبيهة أو الأكثر خطراً أو الأقل على نصوص الهَمْدَانِي مما اعتور هذه الطبعة. لذلك فالدعوة ملحة للمراجعة والنظر في كل ما نشر من تراثه إلى الآن، دون نكران للجهود التي بُذِلت، بل بالعرفان لها بسبق الفضل وجميل العمل».
ثم يقول مدققاً فاحصاً: «ومع هذا فقد رجعنا إلى طبعة المحقق نفسها الصادرة عن دار اليمامة في الرياض، سنة 1974م، ص277-279، التي لم تختلف عن الطبعة المعتمدة هنا، كما رجعنا إلى تحقيق العلامة داود هنريك موللر D. H. Müler (ت1912م)، وهي الطبعة التي نشرت في دراسات سابقة».
وقد أشرت إلى هذا النص -عمداً- لما في تحقيق الكتب من أهمية بالغة، وأمانة مسؤولية ثقيلة، ولما في الحرص على الدقة كما يدعو إليها دكتورنا من واجب علمي صعب، وليس هو نافلة مسترخية.
وهنا أترك الحديث لعالم الألسنة، ليسبح القارئ معه في بحر عميق يلتقط منه الجواهر.
3
نعرج الآن إلى طراوة بحث ممتع، قدمته الأستاذة «عُلا الحوثي»، مقالاً واسعاً عن «تقنية السرد في الخطاب الشعري عند إسماعيل المقري». والحق أنها ألمت بموضوعها في سرد وصفي جميل، مما دفع بي إلى طرح سؤال عن تفوق قدرات النساء على الرجال في التذوق الوجداني للشعر والنثر، إذ إن بواكير هذا التفوق تطلع الآن أزاهيرها الجميلة، ولعله من الثابت عند العلماء أن النساء يتفوقن على الرجال في غزارة العواطف، وعمقها، والعواطف ميالة إلى المتع الفنية، وإلى تذوق جمال الكلمات، وإلى الشعور بمرارة الحزن وشجى الألم، فهي -على هذا الحال- أقدر على تذوق متعة الأدب ومرارته.
سيقول المعترضون من الناس إن النساء لم يبلغن مبلغ الرجال في هذا الفن بالذات، ولا الإحساس به! وأقول لو أنه سمح للنساء بالتعليم كما سمح للرجال، وسمح لها بالحرية كما أعطيت لهم، لكان الوضع مختلفاً، ولما احتيج إلى طرح مثل هذا السؤال، لكن -وليس ينكره أحد- أن النساء عشن حيناً من الدهر لم يكن فيه شيئاً مذكوراً، فكيف لها وسط ذلك الجدب أن تزهر؟! وكيف لها بدون الحرية أن تنطق؟! وإنا لنلاحظ أنه لم يمضِ على تعليم النساء إلا قليلاً من الوقت، ومع قصر المدة فقد أنجبت وتفوقت، فكيف لو كان المجال أمامها مفتوحاً منذ مئات السنين.
هذا مجرد تساؤل أطرحه لمعرفة كيف يجفف الظلم ينابيع الإبداع والتفوق، ويثبت «أن النساء شقائق الرجال» في كل وادٍ ودرب.
عرّفت الكاتبة السرد تعريفاً لغوياً بقولها: «فلان يسرد الحديث سرداً إذا كان جيد السياق به، وإن دلالة مصطلح السرد في الممارسة النقدية الحديثة لم تبتعد عن دلالته في المعاجم اللغوية، وإن مفهوم السرد يشمل أجناساً أدبية وغير أدبية».
وعلى ضوء هذه التعاريف، مضت الكاتبة في معالجة تقنية السرد عند الشاعر المقري، بما يقتضيه المصطلح من معنى، وهي ترى أن «تجليات السرد في التراث العربي قديمة، وقد تحققت صور شتى للسرد في التراث العربي المنجز، على الرغم من أنه مفهوم حديث، وقد اكتسب الخطاب الشعري أبعاداً جديدة، واستطاع الشاعر أن يجسد موقفه من واقعه المعيش ورؤيته له، فانفتح الخطاب الشعري على الفنون الأخرى، واتكأ الشاعر العربي القديم على الحكاية، واستخدم شيئاً من معطيات السرد، وقدم مشاهد وأحداثاً قصصية في عشرات من القصائد العربية، وأن قصائد المقري (تضمَّنت) التقنيات السردية المختلفة، ما أمكن الشاعر التعبير عن رؤاه بطرق متعددة، أتاحت لـه هذه التقنيات السردية طرقاً مختلفة في التعبير، وفتحت للمتلقي آفاقاً واسعة لقراءة خطابه الشعري من خلال ما حمله الخطاب الشعري من نظام قصصي صاغه الشاعر/ السارد بأبعاد دلالية مختلفة تثير انفعالات ومشاعر المتلقي». وتعرضت في بحثها القيم إلى تقنية الحوار الخارجي (الديالوج) وإلى تقنية الحوار الداخلي (المونولوج)، فطرحت توصيفاً جديداً.
4
وفي هذا العدد، نولي شطر الجزائر الشقيقة، ومن نافذة الدكتور «عبد النور أيت بعزيز»، نطل على مروجها العلمية الخضراء، وقلاعها الحصينة، فنلج بصحبته قلعة علم، لنرى فيها «أعلام الفكر والأدب في قلعة بني حماد»، حيث «تزخر الجزائر بالعديد من المدن والحواضر التي كانت منارات يشع منها العلم، وعواصم لدول إسلامية كثيرة، كالدولة الرستمية والفاطمية والحمادية».
مهّد الدكتور لبحثه هذا بمقدمة شرح فيها مشقة البحث في موضوعه. ومن أهم الصعاب التي واجهها متابعة تشتيت الحروب الداخلية لرجال العلم والفكر والأدب «إلى الهجرة من مدينة القلعة نحو مدينة بجاية بالخصوص، وإلى عدد من المدن والبلدات الجزائرية الأخرى، وإلى الأقطار العربية كالمغرب الأقصى وتونس ومصر والحجاز والشام والعراق».
ويؤكد الدكتور أن القلعة «أصبحت قبلة للعلماء والأدباء وطلبة العلم.. وارتحل إليها طلاب العلم وهواة الفن والتجارة من الثغور والبلاد القاصية، واستوطنها أرباب الصنائع والحرف، فكانت الرحال تشد إليها من مصر والشام والحجاز والعراق وسائر بلاد المغرب.. يُعملون عقولهم في ميدان التعليم والتدريس والكتابة والتأليف».
وتحدث عن شعرائها وعلمائها وتراثهم حديثاً يعطينا صورة مجسمة لما كان يجري في تلك القلعة العلمية، وهي تشبه في نظري ما كان عليه حصن ذي مرمر اليمني، وبالذات عهد الأمير العلامة علي بن الإمام شرف الدين (ت978هـ/1570م)، وبمعرفتنا برجال قلعة بني حماد ورجال حصن ذي مرمر يبدو التلاقي العلمي بين الجزائر واليمن متماثلاً.
إن الصفحات الجزائرية التي يوالي أبحاثها الدكتور عبدالنور أيت بعزيز، في «مجلة المسار»، تزيد من تعميق أواصر الروح الجزائرية -اليمنية، بفضل قلمه ومعلوماته، وكما هو معروف فإن اليمن تكن للجزائر مكانة خاصة في هذا العصر بفضل ثلاثة رجال هم الثعالبي (ت13 شوال 1363هـ/1 أكتوبر 1944م) و(الورتلاني (ت2 رمضان 1378هـ/12 مارس 1959م) ومالك بن نبي (ت4 شوال 1393هـ/31 أكتوبر 1373م)، ويضاف إلى هؤلاء الفرسان الثلاثة، دكتورنا الوقور عبدالنور أيت بعزيز، طول الله عمره، فهو بفضل مقالاته، سيظل التواصل عبر المسار مفيداً غدقاً خصباً للشقيقتين، فأهلاً به وبعلمه في يمنه.
5
تنتقل المسار الآن من حديث التحليل والتاريخ، إلى حديث الوثائق، وفي هذا العدد من المسار موضوعان؛ الأول للأستاذ «عادل محمد الحميري»، حول «استلام الإمام يحيى صنعاء من العثمانيين» – دراسة لوثيقة مؤرخة بصفر 1337هـ، والثاني ما جاء عن اليمن في الوثائق البريطانية.
في مقال الأستاذ عادل عدل وإنصاف، وتحليل للوثيقة من كل جوانبها، فقد استعرض جانباً موجزاً من تاريخ الصراع العثماني -اليمني الذي ظل بين الشد والجذب والمد والجزر، سنوات طوالاً، واستمر الأمر كذلك إلى أن هزمت الإمبراطورية العثمانية، وقامت الدولة المتوكلية.
ثم تحدث عن وثيقة تعود إلى أوائل ما أجراه الإمام يحيى من تعيينات إدارية لملء الفراغ الإداري العثماني، وتخبرنا وثيقة عثر عليها الأستاذ عادل تعود إلى بعد استلام الإمام يحيى مباشرة الحكم، عن إرسال العلامة أحمد الجرافي، إلى صنعاء لاستلام المراكز الحكومية والإشراف على أخريات.
ثم قام بتحليلها من كافة جوانبها لغوياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، أي أنه ألم بها من كل أطرافها، ولم يستبق شيئاً يقال.
6
وعن وثائق الخارجية البريطانية، فإنها تشمل في هذا العدد تاريخ 3 أشهر و6 أيام، من 23 شعبان 1323هـ/11 أكتوبر 1905م إلى 18 شوال 1323هـ/15 ديسمبر 1905م، أي أنها تحدثت عن 5 أشهر من قيام الإمام يحيى يوم الجمعة 20 ربيع الأول 1322هـ/3 يونيو 1904م.
وقد احتوت هذه الوثائق على أخبار سياسية واقتصادية واجتماعية وحربية، تعكس وجهة نظر المعتمد البريطاني في عدن ووزراء حكومة الهند البريطانية، وحكومة لندن وسفارة بريطانيا لدى الباب العالي ورؤية الإمام يحيى في صنعاء. وهنا تكمن خطورتها وسعة معلوماتها، لأن الوثائق -بصفة عامة- بحاجة إلى توثيق، لكن التوثيق فيها ليس لما فيها من أخبار، لكن لأنها توثق الرؤية البريطانية للأحداث آنذاك، ورؤية الإمام لها في نفس الوقت، فهذه الوثائق من ناحية الرؤية لا يرقى إليها الشك، لأنها تعكس تفكير الفترة بدقة وما يجري ضمنها.
وبعد هذه الجولة، أترككم مع التفاصيل على صفحات المسار..
رئيس التحرير