من خصائص عالِمنا الأستاذ: «محمد يحيى عزان» أنه يملك ما يمكن تسميته بـ«الدراسة المتوازنة» أي الجمع بين الرأي والواقعية، وبين الدراية والرواية، وقلة هم الذين ملكوا ناصية الجمع بينهما وساقوهما بقلم واحد. من هنا تأتي آراؤه متوازنة مع الواقع التاريخي فلا ترى فيها هضمًا لأي من الجانبين، أو تسمع نشازًا في أي منحى منهما، وإنما هو اطراد موزون فيما يتناوله من أبحاث، وبهذه الروح العلمية المطمئنة تناول عالمنا الجليل مواضيعه، فحلّق بها بجناحين قويين.
وهذا الكتاب «الصَّحابة عند الزَّيدية» هو من ذاك الطراز الذي حلق فيه عاليًا فوق أودية متشابكة ودروب متشعبة، ثم آبَ من رحلته العلمية وملء يديه بحث ثريّ، قوَّم فيه المعوج، وأزال عن الحقيقة ما علق بها من أتربة وغبار.
وقد يتساءل بعضهم: لماذا اضطر عالمنا الجليل إلى توضيح موقف الزَّيدية من مسألة كان فيها مؤسس الزَّيدية عليه السلام واضحًا كل الوضوح؟ بل كان موقفه منها أحد الأسباب التي تسببت في خسارته المواجهة المسلحة!
والحق أنه لم يكن الأمر بحاجة إلى هذا البحث، لولا أن أفكار مؤسس مذهب آخر هو «أبو الجارود» قد تسلّلت وتماهت في أفكار الزَّيدية وتقمصتها وظهرت بمظهرها، وتكلمت بلغتها إلى درجة أن فصلها عنها وإفرازها منها يحتاج إلى جهد كبير.
وضاعف من تعقيد هذه القضية أن كثيرًا من المؤرخين قد وقعوا في واحدة من الأغلاط الكبيرة عندما اعتبروا الجارودية من مذاهب الزَّيدية، ثم زادوها شططًا عندما وقعوا في تناقض لا تخطئه العين، ففي الوقت الذي أثبتوا فيه زيدية الجارودية أثبتوا اختلافها جوهريًا عنها، ومع ذلك أصروا على إلحاقها بالزيدية وقسرها عليها، على الرغم من الفوارق الجوهرية، فـ«النوبختي» الجعفري تحدث عن الجارودية بفروعها وقال: «سمّوا كلهم في الجملة زيدية إلا أنهم مختلفون فيما بينهم في القرآن والسنن والشرائع والفرائض والأحكام»([1]).
ويثبت «الشهرستاني» أن الجارودية من الزَّيدية، ثم يقول عن أبي الجارود: إنه في موضوع خلافة الراشدين – وهو موضوع مركزي – «خالف أبو الجارود في هذه المقالة إمامه زيد بن علي، فإنه لم يعتقد هذا الاعتقاد»([2]).
وينسب د. العمرجي إلى «فخر الدين الرازي» و«قاضي القضاة» و«ابن شاكر الكتبي» و«البغدادي» أن الجاروديين «يطعنون في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويفسقونهما، وقال بعضهم بتكفيرهما ويكفرون أكثر الصَّحابة»([3]) فأين هذا من رأي زيد فيهم؟! ولم يفلت الدكتور المعاصر العمرجي من إسار هذا الإطار، فهو ينسب الجارودية إلى الزَّيدية ثم يقول: «وقد خالف أبو الجارود إمامه زيد بن علي في كثير مخالفة تجعله بعيدًا عن مذهب الزَّيدية»([4]).
والحق أن أبا الجارود لم يكن أصلًا من الزَّيدية حتى يخالفها، ولكن تَقَبُّل رواية زيديته بدون فحص قد أبقى على هذا التناقض الحاد.
وهكذا ظهرت آراء «أبي الجارود» وكأنها شريحة من أفكار الهادوية الزَّيدية “على وجه التحديد” وانعكاس – في بعض الأوجه – لآراء الزَّيدية نفسها، مع أنها بالتأكيد ليست منها، لكنها لسبب سياسي قد التصقت بها، واندست فيها، وأظهر بعضهم من متأخري الهادوية تبني رأيها السياسي، وتباهوا بالانتماء إليها، فعمّق هذا الادعاء ذلك التماهي.
فما هي الأفكار التي تسربت إلى الهادوية الزَّيدية؟ في موضوعنا هذا يبدو أن القول بالنص عن طريق الوصف، وحق الخلافة في البطنين، قد تسللتا إلى الهادوية الزَّيدية، ووجدتا لديها ترحيبًا، وبناء على ذلك اتخذ المتعصبون منهم موقف الجارودية موضوع السب والشتم. وهذا يعني أن هناك تلبس واضح بملامح ليست أصلًا في الفكر الزَّيدي السياسي، ويعني أيضًا أن أوراقًا ليست منه قد دخلت عليه، وأن صفحات غريبة قد أضيفت إلى كتابه، وأن الموضوع بحاجة إلى تنقيح وتصحيح.
لهذا السبب اضطر عالمنا الجليل أن يكتب حول هذه النقطة المتشابكة، وأن يفرز الصواب من الخطأ، وأن يجلو الصدأ المتراكم عن حقيقة الأمر في أسلوب يعبق بروح الإنصاف، وليس الإنصاف منه بغريب، فقد سبق له في منظومته عدة بحوث: (حديث الافتراق تحت المجهر) و(قرشية الخلافة) و(عرض الحديث على القرآن) و(قراءة في نظرية الإمامة عند الزَّيدية) أن صدع بالحق، وأن قام بعملية ترميم الجسر المصدوع.
وبتلك العدة والعتاد وبالروح المنصفة والأسلوب المتوازن، تمكن عالمنا الجليل من فرز المتماهي، وإبراز النظرة الأصيلة والمستقلة والمتميزة، فكان كتابه تجسيدًا لذلك كله، وقد أوضح في مقدمته هذه المعاني.
إن الوسطية والاتزان الذي عبر عنهما عالمنا الجليل هي مؤهلات الزَّيدية الفذة لتكون جسر اللقاء بين المذاهب الإسلامية كلها والتي أعلنتها ثورة الإمام زيد بوضوح، فالتف حول رايته أهل المذاهب، وأهل الحديث، وأصحاب الإرجاء قبل أن يتحولوا إلى مرجئة، وحتى الخوارج النافرين من كل مذهب، فكان ذلك الالتفاف هو التعبير العملي عن تجسيد «الجسرية» التي التقت عندها الآراء المتنوعة، في واحدة من اللقاءات التي لم يعرف التاريخ الإسلامي لقاءً ولا التفافًا مثله، لكن ظهور ملامح الجارودية وما تحمله من فكر متشدد صدع الجسر العظيم بما حُمِّل من أثقال، وما أضيف إليه من ألوان حتى لم يعد يظهر منه إلا الشيء اليسير من خلف ستار كثيف.
من هنا أدرك عالمنا الجليل أن إعادة بناء الجسر المصدوع -كما كان في الأصل- ضرورة لا غنى عنها، من أجل إعادة روح التجربة الزَّيدية الأولى ضمن “اتحاد فدرالي” – إن صح هذا التعبير – يجمع الأفكار المستقلة في إطار واحد، ومن أجل هذه الغاية النبيلة لا بد من رفع تلك الأثقال عنه، وإزالة الملصقات الغريبة منه لتُعرف على حقيقتها.
ويبدو لي أن دوافع عالمنا الجليل تلك – وقد خبرتُ طريقته ومنهجه – لم تكن وحدها وراء عمله، بل إن هناك عاملًا آخر لا يقل أهمية، وهو أنه أراد أن يصقل حقًا تَعَتّم، بغض النظر عن انتماء هذا الحق إلى هذا المذهب أو ذاك؛ وإنما كان همه هو إعادة تركيب الوقائع الفكرية على نحو ما كانت عليه، فكان -إلى جانب كونه فقيهًا- مؤرخًا حصيفًا، وبهاتين العدتين بحث هذا الموضوع ودرسه وتوصل إلى ما توصل إليه، لا لأنه زيدي يدافع عن مذهبه، بل لأنه عالم مجتهد يفتش عن الصواب، ثم لأنه مؤرخ متخصص في الفكر والفقه الزَّيدي؛ فهو يصفي آثار حقيقة مشوهة، ومن ثم فطلب الحقيقة عنده – كشأن المنصفين – يسبق الانتماء، وهو لهذا السبب سعى بكل جهد في هذا الاتجاه، فنزح ما علق بالنبع الصافي من غثاء السيل. وأنا أعتقد أن من أوليات إزالة الغثاء هو النظر في حقيقة انتماء الجارودية إلى الزَّيدية، حيث شكل هذا الانتماء المزعوم في – نظري – معضلة تاريخية بحاجة إلى تنظيف، فتسلل الجارودية إلى الزَّيدية قد أوقع بها أضرارًا ولا شك، ويكفيها ضررًا أنها ليست من الزَّيدية في شيء، ومع ذلك فهي محسوبة عليها ظلمًا.
وقد أمكن للجارودية أن تعمق نسبتها إلى الزَّيدية، وليس إلى الإمامية؛ لأنها خرجت من الإمامية، وادعت التحاقها بالزيدية، ثم تسللت أفكارها السياسية بالفعل إلى الهادوية الزَّيدية فازداد الاعتقاد بالانتماء عند من اكتفى بالنظرة السطحية، ولم يكلف نفسه عناء البحث. ومؤرخو الفرق كثيرًا ما يلتقطون بعض الملامح فيسلكونها في هذا المذهب أو ذلك، كما بينا في غير هذا الحديث([5]).
من هنا ينبغي النظر إلى فكر الزَّيدية خارج ملصقات الجارودية، والطريق إلى ذلك يتم من خلال دراسة سيرة وأفكار أبي الجارود «زياد بن المنذر الكوفي» توفي (150/160هـ ـ 767/776م). وفي حالة التعرف عليه تظهر سيرته التاريخية أنه كان كثير التنقل بين المذاهب في عصره فكان من أتباع الإمام الباقر، ثم ابنه جعفر، ثم تركهما و”لحق” بالزيدية([6]).
وللمؤرخين فيه آراء متفاوتة بين التهجم القوي والخفيف، وما قيل عنه قد ينطبق عليه أو يدخل ضمن التقويمات المذهبية المشكوك فيها، وليس هذا مقام التفصيل، ولي إليه رجعة مفصلة. لكنا من النص السابق نمسك أول خيط في معرفة تسلل الجارودية إلى الزَّيدية، فهذا النص يدل على أنه ألحق نفسه بها، ولم ينضم – أو يُضم – إليها، ولأنه هو قد أعلن أنه التحق بالزيدية فقد أخذ المؤرخون ما أعلنه حقيقة، وجاء اقتباس الهادوية لبعض أفكاره السياسية تعميقًا لذلك التبني، ولم يكلف بعض الباحثين أنفسهم دراسة التناقض بين آرائه وآراء الإمام زيد وآراء الهادي نفسه فوقعوا في فخه، كما لم يتنبهوا إلى أن اقتباس آراء من هنا وآراء من هناك لا تمنحه حق الانتماء إلى الزَّيدية على وجه الخصوص، ولا يعطيه وضع المتطرفين له من الهادوية بين صفوفهم حق الانتماء أيضًا، فالترحيب به جاء نتيجة موقف سياسي، وليس وليد موقف فكري، وما دون الثلاثة الأفكار التي ذكرنا فليس هناك بين الجارودية والزيدية لقاء آخر.
وخلاصـة الأمر أن هذا الالتباس يتجلى من خلال ثلاث حقائق:
الأولى: أن أبا الجارود لم يكن زيديًا ولا إماميًا، بل له مذهب خاص به.
الثانية: أن موضوع تكفير وتفسيق المشايخ مرفوض عند الزَّيدية.
الثالثة: أن أبا الجارود هو الذي ألحق نفسه بالزيدية أولًا، ثم ألحقه بعض الهادوية عندما اقتبست منه موضوع النص على أمير المؤمنين، وإثبات الإمامة في البطنين بالدعوة مع العلم والفضل كما يقول الإمام المهدي([7]).
لكن هذا الإلحاق القسري، وهذا الاقتباس لا يؤهلان الجارودية لتكون زيدية أو هادوية، وإنما هو لقاء في بعض الأفكار بين مذهبين مختلفين، وكثيرًا ما يحصل بين المذاهب، وقد أمكن للجارودية أن تعمق نسبتها إلى الزَّيدية، وليس إلى الإمامية؛ لأنها خرجت منها وادعت التحاقها بالزيدية، ثم تسللت بالفعل إلـيها.
وهكذا يظهر أن إعادة ترتيب الأوراق المختلطة، وإرجاع صفحات كل كتاب إلى أصله، أمر يحتمه البحث العلمي، وبدونه لا يمكن قراءة أي فكر قراءة نقية صافية.
وما قام به عالمنا الجليل يدور في هذا الأفق العلمي، ويرتكز على حقائق العلم والموضوعية، ولم يكن فيه أسير عاطفة ولا سجين هوى، وإنما كان عالمًا باحثًا مدققًا.
وبهذه المواصفات الرفيعة يسعد (مركز التراث والبحوث اليمني) أن يقدم كتاب المسار الرابع عن (الصحابة عند الزيدية) ليقرأه الناس بمختلف مذاهبهم وتوجهاتهم الفكرية في ضوء جديد، من أجل أن يتمكنوا من إقامة جسور اللقاء على بنيان رشيد.
زيد بن علي الوزير
البوتوماك – ماريلاند:
28 ربيع الثاني1425هـ/17 يونيو 2004م