افتتاحية العدد التاسع والخمسون

يسر العدد التاسع والخمسون من «مجلة المسار» أن يفتتح صفحاته بمقال العلامة محمد يحيى سالم عزان «بوابة الاجتهاد: أصول الفقه وإسهام علماء الزيدية فيه»، وهو كعادته في أبحاثه؛ يحيط بموضوعه إحاطة شاملة، ويتمكن بها من إبراز موضوعه في صورة متكاملة مترابطة، مهما كان البحث عسيراً، أو متشعباً.

بدأ العلامة (عزان) بحثه بالجذور التاريخية، من بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وآله، ثم تحدث عن أسباب نشأته وعن العوائق التي اعترضت خُطاه، والعوامل التي أسهمت في تشكله وتطوره.

تاريخ الاجتهاد يبدأ في عهد الرسول صلى الله عليه، والثابت أن الاجتهاد كان يمارس على عهده، وخبره مع الصحابي الجليل معاذ بن جبل (ت17 أو 18هـ/38-639م) عندما أرسله مرشداً إلى اليمن معروف.

بعد وفاة الرسول -كما يقول أستاذنا- واجه المسلمون تساؤلات كثيرة، وكان من الطبيعي أن يختلفوا في استنتاج بعض الأحكام، وتحديد المواقف العملية تجاه بعض القضايا؛ لأسباب كثيرة تقرأها في المقال، ويوضح عالمنا أن أول من أملى قواعد هذا العلم هو الإمام محمد بن علي الباقر (ت114هـ/732م)، وأن أول من صنف فيه هو الإمام أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة (ت182هـ/798م)، وقيل الإمام الشافعي المتوفى سنة (204هـ/819م).

 ثم مضى يشرح ما حدث من تطور وتنوع، إلى أن وصل إلى: «الفقه الزيدي.. أصوله وملامحه»، فأرجعه إلى الإمام المؤسس زيد بن علي (الشهيد عام 122هـ/750م)، الذي «يظهر أنه استمد أصوله في الدرجة الأولى من منابع التشريع الإسلامي، حيث اعتمد في فقهه على نصوص (القرآن الحكيم)، وقد رُوي عنه أنه قال لسائل سأله: من جاءك عني بأمر أنكره قَلْبُك، وكان مبايناً لما عهدته مِنِّي، ولم تفقهه عَنِّي، ولم تره في كتاب اللّه عز وجل جائزاً، فأنا منه بريء. وكذلك ما استخلصه من روايات عن النبي الكريم، وما ثبت عن الإمام علي، … ولم يكن يفرق بين الروايات التي سمع عن مشايخه سواء كانوا من أهل بيته أم من غيرهم».

ثم تحدث عن أصول الفقه في تراث الزيدية ونشأته، وأنه عانى الكثير من محاربة الأمويين والعباسيين له لكونه يمثل مدرسة يتبناها خصومهم السياسيين، ومع ذلك فقد ألف الإمام زيد كتاباً في الفقه، وألف الإمام محمد بن عبداللّه النفس الزكية (استشهد 145هـ/762م)، كتاباً في الفقه السياسي.

ولم يُتقبل الاجتهاد بالترحيب عند الكثير من المذاهب؛ بل ذهبت في التعامل معه طرائق شتى، فمنها من منعه، ومنها من ضيق الخناق عليه، ومنها من توسع فيه، وكان من المتوسعين فيه والآمرين به المذهب الهادوي- الزيدي.

ويبدو لي أن الفقه السياسي والعبادي بقيا على عهدهما الزيدي أيام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد (ت260هـ/873م)، والإمام عبد الله بن موسى بن عبدالله (ت247هـ/861م)، والإمام أحمد بن عيسى بن زيد (ت247هـ/861م)، والإمام محمد بن منصور المرادي (ت بعد 290هـ/903م). حتى إذا جاء الإمام المجتهد القاسم بن إبراهيم الرسي (ت246هـ/861م)، ابتعد عن الفقه السياسي الزيدي باجتهادات خاصة به، سميت «الزيدية القاسمية»، وتبعه في هذا المسلك الإمام المجتهد يحيى بن الحسين (ت298هـ/910م)، وسمي أتباعه «الهادوية الزيدية»، وفي أوائل القرن الرابع دخل الفقه الزيدي مرحلة أخرى على يد علماء أئمة الزيدية في طبرستان، وبالذات على يد الإمام المجتهد الناصر الحسن بن علي الأطروش (ت304هـ/916م)، وسميت المدرسة «الزيدية الناصرية».

 بتنوع الاجهادات منذ الإمام القاسم، تطور الفقه العبادي دون أن يخالف أصوله الزيدية، إلا بموجب الظروف المستجدة، بينما ابتعد الفقه السياسي عن أصوله، بفكرة حق «البطنين» في الخالفة[1] ديناً لا سياسة، ولكنه بالرغم من ذلك الابتعاد القاسمي، فقد أعطى بالنسبة للمذاهب الأخرى القائلة بتغلب القوة، شروطاً ممتازة لتبوؤ الإمام كرسي «الخالفة».

نمت حركة التجديد لقواعد الفقه عند الزيدية، كما قال شيخنا، «في كل عصر، حتى صار المذهب الزيدي من أثرى المذاهب الإسلامية وأكثرها فقهاً. وعند مراجعة تراث الزيدية في هذا المجال، نجد أنهم قد خلفوا سلسلة طويلة من الكتب التي تناولت مواضيع الفقه وأصوله بكيفيات مختلفة وأساليب شتى».

وانتهى طواف شيخنا الممتع بالحديث عن طبيعة الفقه الزيدي وأصوله. ومن خلال هذا الطواف نعلم أن وجوب الاجتهاد عند الزيدية قد خلق انفتاحاً واسعاً بين الرؤى العلمية، ففقه الإمام القاسم بن إبراهيم السياسي يخالف فقه الإمام زيد، وكذلك فقه الهادي. مما أوجد بحوثاً كبيرة تؤيد الاتجاه السياسي الجديد المخالف لاجتهاد الإمام زيد. أما في الفقه العبادي فقد خالف الهادي جدَّه القاسم، وخالف الإمامان المرتضى والناصر أباهما العظيم. ولهذا أرى أن الإطار الشامل الجامع للزيدية لا يلتمس في الفقه، وإنما في علم الكلام.


2

أنتقل من الحديث عن إسهام علماء الزيدية في الاجتهاد، إلى مقال الدكتور اليمني الأصل: يوسف يوفال طوبي، عن «الديانة اليهودية في اليمن القديم مملكة حمير»، بترجمة وتعليق الدكتور الأستاذ: حميد العواضي، الذي صدره بمقدمة توضيحية عالجت فيما عالجت مقولة: «الإسلام يَجُبُّ ما قبله»، وأشار إلى أنها «تحولت من مفهوم التوبة إلى مفهوم القطيعة مع الماضي بأمجاده ومنجزاته الفكرية على وجه الخصوص، وصارت المقولة تملي نوعاً من التوجه إلى طمس ما يدل عليه ذلك الماضي، أو يذكّر به. وكأن أمجاد الفترة الإسلامية لن تحظى بالاعتراف إلا بزوال ما قبلها. وهذا –لعمري- من سوء التقدير وخطل التفكير، وهي حرب على الذاكرة وعلى الحقيقة التاريخية، اختلطت بكثير من الجهل، وأفضت إلى كثير من التجهيل، ولا مبرر لذلك سوى قصر النظر وسوء الفهم، فالتاريخ الإنساني قائم في أساسه على التحول والتبدل، وعلى تراكم المنجزات المادية والفكرية، ولا معنى لإنكار ذلك إلا من باب مقاومة ناموس الطبيعة وسننها، والإمعان في البداوة والجهل».

وهذا المقال حلقة من سلسلة أبحاث وعد الدكتور (الحميد) بمتابعتها، كما وعد إرجاء التعليقات على ما جاء بها من أخطاء إلى أن تكتمل، «وقد نقلتُ ما كتب دون تدخل أو تعليق من أي نوع، ففي تقديري أن المسألة لم تكتمل بعدُ لفهم ذلك الماضي، ومازال في الوقت متسع للعمل والنظر، ويمكن القول إننا مازلنا في مرحلة جمع الوثائق العلمية والدلائل الآثارية».

وبدوري أحب أن أعالج هنا موضوع القطيعة مع الوضع الحالي لليهود، وذلك بسبب العدوان الصهيوني العنصري المغتصب، مما أخفى صورة اليهودي، وأبرز وجه الصهيوني البشع حتى لا يبقى مجال للتعامل معه حيث يمثل كذباً اليهودية المسالمة، وإلا فقد كان لعلماء اليهود إسهامات في الحضارة الإسلامية، وكان لهم فيها مكان مرعي الجانب أووا إلى ظله ليقيهم من قيظ التعصب المسيحي الحارق، وهم قد شاركوا بكل حرية في النشاط الفكري في كل من المدينة المنورة ودمشق والأندلس وبغداد والقاهرة، وكان (ابن ميمون) -كمثال- (ت 20 ربيع الثاني 601هـ/13 ديسمبر 1204م)، من أكبر المفكرين في الحضارة الإسلامية، وقد دعا اليهود في كتابه «دلائل الحارين»، إلى أن يقتبسوا التوحيد النقي من الإسلام.

إذن، فالتفريق بين الصهيوني العدواني، وبين اليهودي المسالم، حقيقة تاريخية، ومن هنا فلن نظلم أحداً بسبب دينه أو عنصره؛ لأن الله سبحانه لا يحب أن يُظلم أحد من عباده قولاً أو عملاً. ويهود اليمن عرب صرف ينطقون نفس اللغة، ويعيشون نفس العادات والتقاليد، ولدوا في اليمن وتهودوا في اليمن، وأجدادهم يمنيون يمنيون خلص، ومع ذاك فلم أرَ فريقاً من الناس نفى نفسه من وطنه، وفعل في نفسه ما فعل كمثل اليهود اليمنيين الذين تنكروا لوطنهم ومنشئهم، وذهبوا إلى بلد ليسوا من أهله الأصليين، ولا تربطهم بمن وفد مغتصباً رابطة، ولا هم نبتوا في تربته، ولا استنشقوا نسيمه، ولا أكلوا من طعامه، ولا شربوا من مائه.

وقد يكون هذا المقال تعبيراً عن الحنين الخفي، خلف غلالة إلى العودة إلى الوطن الحقيقي، كتبه صاحبه بموضوعية، تناول فيه مواضيع شيقة عن ظهور مملكة حِمْيَر نحو (110 ق.م)، وعن مملكة ذي نواس اليهودية (375-525م)، وعن اضطهاد المسيحيين والحرب مع مملكة أكسوم، وعن انهيار مملكة حِمْيَر (525-530م)، واختتمه بحديث مفيد عن البحث الأثري.

وككل بحث ممتاز، فهو ليس بمعصوم عن الخطأ، وأشار الدكتور ” (الحميد) فيما علق به على قول الكاتب: «وفي عام 629م، سقط اليمن بالكامل تحت وطأة جيوش الإسلام». فقال: «إن الجيوش الإسلامية لم تفتح اليمن عنوة، ولم تتعرض اليمن للغرو على غرار ما حصل في بلاد الشام والعراق ومصر مثلاً، وإنما بحكم وشائج القرب والقربى بين مكونات الجزيرة العربية تاريخياً، وقع ابتعاث دعاة من اليمنيين أنفسهم، كما وقع إرسال وفود إلى يثرب ومكة، والتحقت عدد من قبائل اليمن بالإسلام طوعاً. وكما أشرنا في التقديم سوف نحتفظ بالتعليقات إلى مرحلة لاحقة من تقدم جمع الوثائق الثابت تاريخياً أن اليمن أسلم طواعية بدون إرسال جندي واحد من خارجها). ومن الثابت أن اليمنيين دخلوا طواعية في الإسلام أفواجاً، وأنهم أجهزوا على رِدة الأسود العنسي (ت 11هـ/632م) وصفّوا حركته قبل وصول النجدة من المدينة».


3

وسأبقى أحلق في أجواء القديم، مع د. أحمد زيدان الحديدي، وهذه المرة، وفي أجواء بعيدة جغرافياً عن اليمن، متصلة به فكرياً، وأجد نفسي سابحاً بين «العلاقات الآشورية البابلية (ما بين 911 و745 ق. م)». متمتعاً بما أرى، منتشياً بما أسمع. شاكراً باسم «مجلة المسار» مقاله، مرحباً به وبما لديه من علم ليست اليمن ببعيدة عنه، فالعلاقات القديمة والحميمية بين اليمن والعراق، وعلى مختلف العصور، ومنذ ما قبل الهجرة النبوية وما بعدها حتى اليوم، ضاربة جذورها في التاريخ، ولم تنقطع، ولم يكدر صفو الإخاء بينهما في أي مجال حتى مجرد سحابة صيف، فأهلاً به وسهلاً على صفحات مجلته المسار.

حدد الدكتور الحديدي مجال مقاله بأنه يدرس «العلاقات السياسية والعسكرية لشمال العراق القديم مع جنوبه إبان النصف الأول من العصر الآشوري الحديث، أي ابتداءً من السنة الأولى لاعتلاء الملك آدد- نيراري (الثاني) العرش الآشوري، في العام (911 قبل الميلاد)، وحتى العام الأخير من حكم الملك آشور- نيراري (الخامس)، الذي صادف (745 قبل الميلاد)، بهدف إخضاع بلاد بابل بصورة خاصة والمدن العراقية الجنوبية القديمة بصورة عامة، سياسياً وعسكرياً، للتاج الآشوري».

وفي ظلال هذا المجال تحدث الدكتور عن نوعين من مصادر بحثه كانا دليله ليضرب في عمق التاريخ باحثاً في ميادين حضارة واحدة كبرى عاشت في ظلالها دول متتابعة منذ أول حضارة عُرفت في التاريخ هي الحضارة السومرية، ومع أن ما كشف عنها حتى الآن ليروع الإنسان المعاصر مما وصلت إليه تلك الحضارة من تطورات في حقول شتى، فإنها ماتزال تخفي الكثير من كنوزها، والكثير من أسرارها، فالنقوش الثمانية التي استشهد بها الدكتور ترينا كما لو أن وروداً وزهوراً متنوعة نثرت خلف سور مرتفع يدل على وجود حديقة غنّاء خلفه.

في ظل تلك الحضارة نشأت دولتان معاصرتان دولة آشور ودولة بابل، وكان بينهما من التقارب والتباعد والسلام والاقتتال، ما نراه اليوم بين دول الحضارة الغربية، مما يدل على أن الحضارة لا تتجزأ بتجزؤ الدول، فالحضارة ثابتة والدول متغيرة.

وهذ المقال أخيراً، تحدث عن موضوعه حديث عليم به ملم بجوانبه، مزوداً بخرائط فنية وجغرافية وممرات وطرق، الأمر الذي يفتح شهية البحث للمزيد.


4

وأراني الآن أخرج من بين غبار الأطلال القديمة، لأشرف على واحة ظليلة، يقتعد فيها قلمان يفوحان منافع للناس؛ مقال الأستاذة أميرة علي زيدان «صورة البطل الإشكالي في الرواية النسائية اليمنية»، ومقال الأستاذة علا الحوثي عن «ظاهرة الرفض والتمرد عند شعراء القرنين 11 و12 للهجرة»، فنستروح فيهما -بعد السفر المضني- روحاً وريحاناً يحتوي على غذاء مفيد.

مقال الأستاذة أميرة يشكل «صورة خيالية تخلقها بنية الكاتب الفكرية، وتستمد وجودها من مكان وزمان معينين، حيث تعكس نسق واقع اجتماعي يؤثر في تحديد هوية البطل. كما أنَّ البطل الإشكالي يمثل شخصية روائية، وظاهرة سردية تتجلى في بعض الروايات الفنية». وعليه فقد توسعت في شرح ما أجملته، ومضت تنسج شيئاً فشيئاً صورته، حتى تكاملت الملامح وانتظمت الصفات، وإذا بنا أمام بحث تكاملت عناصره، ومن خلال هذا التكامل تناولت الأستاذة رواية «حرب الخشب»، لهند هيثم، ورواية «في تابوت امرأة»، لسيرين حسن، ورواية «بئر زينب»، لندى شعلان. ومع أن الروايات الثلاث تتنوع أغراضها، لكنها تصب في النهاية حول إشكالية البطل، وقد تمكنت من خلال ذلك من إبرازه بمواصفاته المرتبطة بمجتمعه: «إن صورة البطل الإشكالي -رجلاً أو امرأة- هي شكل من أشكال المقاومة لبعض أعمال المجتمع، فيصبح جوهره مسكوناً بين عالمي الذات والواقع، إذ يحمل قيماً يفشل في تثبيتها في عالم مليء بالقهر والاستلاب»، فربط تلك الروايات بمقاومة بعض أعمال المجتمع، لهو رسالة نضال من أجل الحقوق المسلوبة.


5

وعلى أريكة أخرى، وعلى نفس المستوى، يقتعد مقال الأستاذة علا الحوثي» ظاهرة الرفض والتمرد عند شعراء القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين في اليمن»، مكانة ممتازة عالجت من خلاله دوافع الرفض -بمعنى معارضة الحكم- بأسلوب صريح. ويلتقي مقالا الآنستين الكريمتين في مقاومة أعمال مجتمع غير عادل، حيث رأت الأستاذة: (علا) أن الشعر ارتبط «في مضامينه بظاهرة الرفض والتمرد منذ تاريخ وجوده وحتى شعرنا المعاصر، وشاعت هذه الظاهرة بسبب ما تكتنفه الحياة من صراع وهموم وتناقضات، جعلت الشعراء يعبرون عن آمالهم وآلامهم بكل غضب وسخط، فتولدت تلك الإبداعات الشعرية المتأججة بنيران الرفض والتمرد».

ثم مضت تفسر دلالة الرفض في اللغة والاصطلاح، بتوسع ومتابعة، لتنطلق منه، كما عودتنا في أبحاثها القيمة، إلى توثيق ما تحدثت عنه، فضربت مثلاً بقصيدة الشاعر العلامة: عبد القادر بن أحمد الكوكباني، ضد الظلم، وما أثارت من ردود فعل، وكذلك وقفت مع قصيدتي العلامة المجتهد: محمد بن إسماعيل الأمير الهائية والرائية اللتين اشتهرتا، وكان لهما ردود فعل عالية، كما وقفت مستشهدة بقصيدة العلامة الشاعر: الحسين بن علي بن المتوكل العينية العنيفة. وعبر عنه الشاعر العلامة: علي بن أبي الرجال، في أبياته الدالية، والشاعر: أحمد الآنسي، في قصيدتيه البائية والعينية.

ومن نباهة الكاتبة أنها تعرضت لظاهرة من ظواهر الرفض، قادرة على تحويل المعطيات السلبية إلى إيجابية، وقد وجدت هذه الظاهرة واضحة عند الشاعر صلاح بن الحسن الأخفش، في قصيدته الحائية التي تجلت على صورة مغايرة.

أخلص من هذا الحديث عن هذا المقال الكثير الخصب، إلى ملاحظة أن شعراء الرفض الذين استشهدت بهم الأستاذة الفاضلة، هم من العلماء الكبار ومن الأسر الحاكمة وأبناء عمهم المعارضين ومن المقربين إلى الحكم، ولم يتعرض المقال إلى شعراء الرفض من غير هذه الفئات، كالإمام المجتهد الطلق: صالح المقبلي (ت1108هـ/1696م)، وغيره ممن لم يرتبط بحكم، وليس قريباً من السلطة، فمعارضتهم صافية من أي لبس، ومن ثم فهي أصدق تعبيراً من معظم المذكورين أنفاً.

ومما تحسن الإشارة إليه، أن الشعراء يتنوعون في طرق رفضهم، إلا أنهم يلتقون عند نقطة واحدة، هي الظلم وفقدان العدل، وبطبيعة الحال فليس كل الولاة ظلمة، ففيهم العادل وفيهم الجائر، وفيهم التقي وفيهم المتهتك، وليس كل من عارض على صواب، فالدوافع كامنة المشارب، والأسباب خفية، مما يقتضي دراسة تلك الدوافع لمعرفة حلة الناقد والمنقود. ولعل الشاعر: أحمد الآنسي، قد دلنا على وجود ولاة عدول وأخرين ظلمة في قصيدتيه البائية والعينية.


6

 وقريب من حديث الشعر مقال الأستاذ الفاضل: إبراهيم بن محمد زايد عن والده «ابن زايد المقري الصنعاني، وجهوده في علم القراءات». وكلمة المقرئ تعني شهادة على إتقان القراءات السبع، ويوصف من أتقنها بـ«الحافظ» لتوسعه في (علوم القرآن)، وهذا يعني قدرته على فهم كلمات (القرآن) حسب وقته وعلى معرفة بلاغته، ومن ثم فهو يملك مدخراً من اللغة يمكنه من قراءة الأدب والشعر.

وكما هو معروف فاليمنيون بخاصة في الشمال يقرؤون (القرآن الكريم) على أسلوب نافع بن عبد الرحمن بن أبي نُعيم الليثي الكناني (ت169هـ/85-786م)، ومنهم هذا الشيخ الجليل الذي نال شهادة علماء كبار كشيخه العلامة: علي بن أحمد السُّدمي (ت1364هـ/1945م)، وكشيخه: علي بن أحمد الشرفي (ت1319هـ/1901م)، وأثنى عليه المؤرخ: محمد زبارة (ت16 الحجة 1380هـ/ 1 يناير 1961م) في «لاميته»، كما أثنى عليه تلميذه العلامة: علي بن عبد الله الطائفي (ت1390هـ/1970م)، مما يدل على أنه كان مشهور الفضل.

وقد ترك مصنفات في علم القراءات، توزعت ما بين شروح للمنظومات المشهورة وتعليق عليها، أو نظم المتون وشرحها. ويقول الكاتب الفاضل إنه نفسه لم يطلع على كتابه «شرح العقيلة» للإمام الشاطبي و«رحيق الأزهار». أما بقية كتبه فقد توسع في شرحها كما ستقرأه في هذا المقال.

إن «مجلة المسار» لتشجع الكتابة عن الغائم من التاريخ، لكي تكون صورة الماضي والحاضر حاضرة بما فيها من إيجاب وسلب، ولعل هذا المقال يفتح الباب لدراسة هذا العلم المكنون الذي لم ينل حقه من البحث، وأرجو أن هذه المقال يكون رائداً لأبحاث فيه جديدة.


7

 ويختتم (المسار) عدده هذا بجزء من «الوثائق البريطانية»، وفي هذا العدد أخبار شهر كامل من 13 القعدة 1323هـ/ 9 يناير 1906م إلى شهر الحجة 1323هـ/ يناير 1906م، تحدثت فيه عن هزيمة العثمانيين في شهارة في أعالي الشمال، وعن وقائع في جنوبه، وهي بما في جنوبه عليمة، بينما أخبار الشمال تصل إليها من بعيد غائمة حيناً واضحة حيناً آخر، ولكن قراءتها تعطي دعماً للمقارنة بين ما أرخه اليمنيون وبين ما تتحدث عنه الوثائق البريطانية، والقصد هو إضاءة التاريخ من مصادر مختلفة خاضعة هي نفسها للبحث فيها.

والتاريخ من وراء القصد والتوفيق من الله تعالى

رئيس التحرير

افتتاحية العدد 59