افتتاحية العدد السادس والخمسين

في الوقت الحارق، والمحرق، والمتوحش، والضاري، تلوذ النفس بمحراب الروحية، فترتل فيه أدعية الخلاص، من لهب الرصاص، ولتلتمس من الروحانية قوة مُشعَّة لمواجهة المادة اللاهبة والملتهبة. فما تشاهده المنطقة من ضراوة متوحشة لم تخطر على بال بشر، ولم تعهده الحروب التدميرية السابقة، فالنيران مشتعلة في أكثر من مكانٍ مُسلِم، والأمراض المعدية منتشرة في أكثر من منطقة، والسماء تُمطر موتاً، والبحار تتسجّرُ زؤاماً.


(1)

لهذا بدأ هذا العدد من “المسار” بمقال الأستاذ الدكتور “مراد بركات” عن “جلال الدين الرومي.. سيرة حياة وفلسفة تصوُّف”، ليجد عنده قوة الروح وجلال الروحانية في أسمى معانيها، وليجد في ظلالها القوة الكامنة في الصبر والصمود ومقاومة الشر، ومكافحة الشيطان، والارتقاء بالإنسان إلى مصافٍّ لا تؤثر فيه قوة مادية، أو إغراء مالي، أو منصب سياسي، وإنما هو الطهر كله، والاقتراب من الكمال، والتخلُّص من النفس الإنسانية الأمارة بالسوء، وبذل النفس في سبيل الحق.

وفي هذا المقال نقف باحترام كلِّيٍّ أمامَ واحدٍ من أشهر مهذبي النفس السيئة والمسيئة، لنراها وهي تتطهر في أشعة “جلال الدين” النقية، فتخرجها من الفساد إلى الصلاح، ومن الجشع إلى الاقتناع، ومن البغض إلى المحبة، بغية إصلاح المجتمع، وتطهيره من الأوبئة، وتنظيفه من الأنانية. لقد خطّ “جلال الدين” بسلوكه وكُتُبِه للإنسانية منهج الخلاص، ليبعدها عن البغضاء والحقد، ولتلين قسوتها، ولتصبح ناعمة الملمس، طيبة الأثر. ذلك أنَّ قوة الروح أقوى من المادة، وأهدى سبيلا، وأبقى أثراً، ومن هنا أدرك مولانا “جلال الدين” الطريق الحق إلى الوصول بالإنسانية الى مصافِّ النقاء، والارتفاع بها من جشع المادة -بكل أشكالها- إلى مصافِّ الإنسان، ليتجنَّب سفك الدماء.

ومن هنا قابل “جلال الدين” مكر الشيطان بـ”رقصة المولوي” الهادفة بما تحمل من تعبيرات رمزية إنسانية كان لها الأثر الرحيم في الفتوحات، ولا يستطيع أيَّ مؤرخٍ منصفٍ أن ينكر ما للصوفية الإيجابية بمختلف فروعها من دورٍ إيجابي في الفتوحات “العثمانية” على وجه الخصوص، من أجل عالَم السلام وعالَم المحبة.

كم هو عظيمٌ “جلال الدين” الذي تحدَّث عنه أستاذنا “بركات” في أسلوبٍ يكاد يضيء روحانيةً وصفاءً: «اعتصر مولانا معارف الإنسانية في مسيرتها المديدة نحو كشف المجهول، وجهودها المتراكمة لتربية النفس الأمارة بالسوء، فغدت رائعته الموسومة بحقٍّ “المثنوي المعنوي” دائرة المعارف الإسلامية والإنسانية. إليها انتهت جهود المسلمين قبله في التفكير والتعبير، بدءاً بتفسير القرآن، مروراً بتفهُّم الحديث النبوي، عبوراً إلى أحكام أصول الدين والفقه ومسائل علم الكلام والحكمة، أخذاً بما آلت إليه علوم الأوائل أيضاً في ميادين الرياضيات والهندسة والفلك والطب والتاريخ والأدب وحياة المجتمعات وسواها مما له صلة بجسم الإنسان وعقله ونفسه وروحه وُبعده الغيبي».

فسلام على مولانا، وحفظاً لدكتورنا.


(2)

والحديث عن عالَم الروح يقضي في المقابل الحديث عن عالَم العقل، حيث إنهما يُكمِّلان بعضهما بعضاً، ويقاومان شرَّ النفس وخبث الطباع معاً، وإذا كان مولانا “جلال الدين” يُمثِّل “الروحانية الإيجابية”، فإنَّ إمامنا “صالح بن مهدي المقبلي” يُمثِّل العقلية الراشدة، فكلاهما بلغ مرحلة عالية في فنِّه، وكلاهما نوَّرا الطريق لمن اتبعهما.

بلغ الإمام “المقبلي” مرحلة الاجتهاد المطلق، وتحرَّر من الارتباط من كلِّ “مذهبٍ فقهيٍّ” ومن كلِّ “فرقةٍ كلاميةٍ”،  بحيث لم أجد من علماء الزيدية مَن يماثله إلَّا قليلا قليلا، ذلك أنَّ بعض العلماء بلغوا مرحلة الاجتهاد المطلق، ودعوا إلى نبذ التقليد، لكنهم مع ذلك أبقوا حبالا خفيَّةً مع مذهبٍ ما، أما “المقبلي” فقد غاص في “علم الأصولين”: “علم الفقه” و”علم الكلام”، وخرج منهما برؤيةٍ ليس للمذهبية ولا الفِرَق أثرٌ عليها، وبهذه القدرة نقد أراء لأهل المذاهب وبعض أفكار علماء الكلام، وأبان ما “فيهما من عَوَار، وأشاد بما وجد من وقار”، فكان كاسمه صالحاً مَهدِّياً، حاول إصلاح الخلل في المذاهب، وحاول هداية الأمراء والأئمة، ودافع عن آرائه دفاع مؤمنٍ صابرٍ كما سنقرأه فيما كتب الأستاذ المُحقِّق الموضوعي “عبد الله بن يحيى السرحي” عن «العلامة المقبلي ودوره التنويري في شمال القوقاز».

لم يحصر العلامة “السرحي” مقاله على تأثير الإمام “المقبلي” في “اليمن” و”مكة” و”شمال القوقاس”، بل شمل بإنصافٍ تأثيره في “اليمن” و”مكة”، وأبان لنا القسمات المضيئة -وكلُّ قسماته مضيئة- في تاريخ هذا العلامة المفكر صاحب العقل المبدع، والتفكير الخلَّاق، والرفيع الأخلاق..

ومن الملاحظ أنَّ “المقبلي” لم يُعطَ حقَّه من الكتابة كما يليق بعلمه، كما أعطى المترجمون والباحثون- على تفاوتٍ- كلًّا من العلماء “ابن الوزير” و”الجلال” و”ابن الأمير”، وخاصة “الشوكاني”، وذلك يعود إلى أسباب أُجملُها في ستةِ أسبابٍ:

الأول: أنَّ معظم المترجمين والباحثين ألصق بعلم “أصول الفقه” وهم به معجبون، وعلى مقياسه ينهجون، وبه يتحكَّمون ويحكمُون، ومن المعروف أنَّ المذاهب تقف -بصفةٍ عامةٍ- خلف معظمهم.

الثاني: جرأته على قول الحق، سواء في حواره مع الأئمة والعلماء، أم في تصديه لفقه المذاهب المتأخرة وما وصلت إليه من انحدار.

الثالث: مجافاته للحكام، ومصارحتهم بآرائه الحرة، وعدم مسايرتهم والتملُّق لهم، وعدم الخوف منهم، حتى حوكم في “مكة” من قبل علماء أوفدهم السلطان العثماني من “الأستانة” للنظر فيما اتهمه العلماء به من تهم، لكن ظهرت براءته، ونجا من أحابيل التضليل والتغرير.

الرابع: أنه لم يُحَطْ برعاية دولة تشهره، وتُسهِّل ذيوع صيته، وهذه قضية رآها الإمام “الشوكاني” من أسباب الشهرة، ففي ترجمته للعلامة الكبير “أحمد بن سعد الدين” (محرم 1079ه/1668م)، عدَّها من الأسباب القوية، فقال: «له شهرة كبيرة بالديار اليمنية إلى الآن، ولعل ذلك بسبب متاخمته للأئمة وارتفاع حظه في تلك الدولة ومشيه في جميع مباشرته على طريقة العلماء». ويبدو أنَّ هذا التحليل يَصدُق أيضاً على شهرة الإمام “الشوكاني” الذي توظَّف مع ثلاثة أئمة متغلِّبين ظلمة كانوا له حماة، وكان لهم داعية، ونستروح من قول الإمام الشوكاني ومشيه في جميع مباشرته على طريقة العلماء، أنه يُبرِّر موقفه لتولِّيهِ مع أئمة ظلمة. مع أنَّ أئمته لم يكونوا مثل أئمة “سعد الدين” عدلا وأخلاقاً وسلوكاً.

الخامس: ما حظي به من علم ارتفع به فوق ما اعتقده الناس وألفوه، من قبله وبعده، بسبب غلبة “الفقه” عليهم، إلَّا من نجا بقلب سليم، ومن الواضح أنَّ غَلَبَة “الفقه” كانت هي السائدة فيما كتبه “ابن الوزير” و”الجلال” و”ابن الأمير” و”الشوكاني”، بينما كانت غَلَبَة “الفكر” على الإمام “المقبلي”، والناس أعداء ما جهلوا.

السادس: لعلَّ أسلوب “المقبلي” العلمي المُركَّز قد أبعد الناس – إلَّا العلماء الكبار- عن قراءته، فليس فيه لين أسلوب علماء “الفقه” وسهولته، بل كان أسلوبه علمياً ليس له الوصف المُوَشَّى، والمقارنة بين أسلوبه وأسلوبهم كالمقارنة بين أسلوب “العقاد” البليغ المُركَّز، وأسلوب طه حسين الناعم الموسَّع. ثم إنَّ معظم أولئك العلماء لم يُكنُّوا له الحب والتقدير، وكان ثلَّة من العلماء فقط يعرفون مكانة ذلك الإمام الشامخة.

لهذا وذاك تعرَّض “المقبلي” من قبل “جارودية اليمن” إلى هجومٍ بشعٍ غوغائيٍّ، اتهموه بأقذر الكلمات بالنَصْب ظلماً وبهتاناً، فلم يردّ عليهم، شيمة الفلاسفة والمفكرين. وإنصافاً فإنَّ الإمام المتوكل “إسماعيل” -شيخ “المقبلي” – لم يُناصبه عداء، بل كان له مكانٌ مرموق في مجالسه، إلَّا أنِّ اختلافه معه في بعض الآراء العلمية قد يكون أحد أسباب هجرته إلى “مكة”، فكان كمَن استجار من الرمضاء بالنار، إذ لم يستقبله علماؤها بترحابٍ، بل شنُّوا عليه تهمة “الزندقة”، ورفعوا أمره إلى “السلطان العثماني”، فأرسل ثلَّة من العلماء لمحاكمته، فحوكم فبرؤوه، وقال كلمته المشهورة مُقارِناً بين الحالين: ناصبي في اليمن وزنديق في مكة. ومع كلِّ ما لقي في “مكة” من عنَتٍ، فقد صبر وصابر، وأنصف وثابر، واستمر على طريقته الإصلاحية، فجذب إلى مدرسته طلبة مسلمين وفدوا للدراسة في “مكة”، ونهلوا من علمه  الواسع، وعادوا إلى أوطانهم حاملين تعليمه وعلومه كما ستقرأه في هذا البحث المفيد والممتع الذي نضَّده العلامة المحقق “عبد الله السرحي” -وهو سليل أسرة علمية- وأحسن كلَّ الإحسان إلى التاريخ بكتابة مقاله هذا، الذي ألمَّ بجوانب حياته إلماماً جيِّداً جداً، وأعطى فكرة جليَّة عن هذا الإمام الأعظم، فله الشكر والثناء على ما كتبه عن علامة اليمن الأكبر ومفكره، ورحم الله “الصالح المهدي” على ما أصلح وهدى.


(3)

ولولا اللغة لما أمكن لمولانا “جلال الدين الرومي” أن يُحاول هداية النفس المادية المثقلة بأطماعها وجشعها وكرهها بغية تطهيرها وإحلال الصفاء والمحبة فيها، ولما أمكن للإمام “المقبلي” أن يضيء الطريق للتائهين، ولهذا فلأنَّ “المسار” تفسح المجال لما تخطُّه يد الأستاذ الدكتور “حميد العواضي” من كتابات قيِّمة عن اللغة العربية، بل عن اللغة نفسها، لأنَّ من ليس له لغةٌ ليس له تاريخٌ وليس له حضارةٌ، فهو موجودٌ كمفقود لم يترك وراءه أثراً. وقد تكون اللغة نقشاً على حجر، أو تصويراً على مدر، أسهمت بهما للمتأخر في معرفة حياة قوم متقدمين اندثروا، وحفظت معالم من حياتهم في تلك النقوش والآثار، وكان كلّما عُثِر عليها أكثر اتسعت وتوسَّعت مساحة التاريخ، ومن المؤكد أنَّ تلك النقوش وتلك الصور كانت هي المقدمة الأولى لظهور أعظم اختراعٍ، وهو الحرف. ولولا الحرف لما ظهرت أيَّة حضارة.

لهذا فإنَّ “المسار” تنشر ما خطه يراع الأستاذ الدكتور “حميد المسعى والمساعي” في هذا السبيل باعتباره دليلا لتلمُّس حضارةٍ سابقة، وتفهُّماً لحضارةٍ معاصرة، وإنماءً لحضارةٍ قادمة، وإحياءً لشعورٍ خامد. واللغة العربية بكلِّ تأكيدٍ غنيَّة خصبة قادرة بتفوَّق على استيعاب كلَّ ما هو جديد.

وفي هذا العدد كتب مقاله “نحو فهرس عربي لأدبيات علم الترجمة”، وقد أحسن وأصاب في هذا المقال، لأنه يتحدث عن ضرورة وجود هذا الفهرس ليُسهِّل الاطلاع على عوالم أخرى من خلال اللغة العربية نفسها. وهو لهذا السبب قد طاف في مقاله هذا طوافاً كونياً مفيداً في حدِّ ذاته من حيث إنه قدَّم لنا عرضاً شاملا، فأشرفنا من خلاله على حقلٍ واسعٍ من حقول المعرفة. ثم تحدَّث عن علم الترجمة حَدُّه ومجالاته، وعن العربية في نطاق اللغات التي توفر لمستعمليها شكلا من الاستقلال المعرفي أو الكفاية اللغوية المناسبة؛ ثم تحدَّث عمَّن أسهم في هذا الباب. وتطرَّق إلى مشروع العواضي 1994م، وعن المشروع الذي يُقدِّمه اليوم، ثم تحدث عن نحو فهرس عربي لأدبيات علم الترجمة، وبعد جولاتٍ متنوعةٍ ومفيدةٍ وصل إلى الخاتمة ليقول: «في ختام هذا التقديم لابد من الإشارة إلى أنَّ الفهرس في وضعه الحالي يشكل معطىً علمياً لدرس تطوُّر علم الترجمة عند العرب. فهو يُظهر ما كتبوا، وما ترجموا، وكيف فهموا نظريات الترجمة، وماذا أضافوا إليها. كما يكشف الفجوات التي لمَّا تمتلئ بأدبيات عربية أو معرَّبة فيها. الخ».

والحق أنَّ جهود الأستاذ الدكتور “حميد المسعى والمساعي”، تستدعي كلَّ التقدير لما يبذله من جهد وموضوعية.


(4)

لن أتحدث عن بقية مقال الآنسة الأديبة الباحثة “علا علي الحوثي”، فقد تحدَّثُ عنه في العدد الماضي، والحديث عن البقية منه قد استكمل سابقاً، وسأنصرف نحو مقال الآنسة الأديبة “أميرة زيدان” «صورة المرأة والرجل في الرواية النسائية اليمنية»، وهو مقالٌ حافلٌ استعرضت فيه صورة المرأة من جهات عدة، فاستكملت الصورةُ ألوانها وظلالها -من خلال مراجع مختلفة- بريشة مصورة واقعية ومنصفة، وفي الوقت نفسه تملك الشجاعة العقلية والفنية في حديثها وأبعاد حديثها. كما أنَّ المقال لم يقتصر على صورة المرأة في الرواية النسائية، بل عكس بوضوح صورة جانب من المجتمع اليمني بعاداته وتقاليده وتديُّنه.

تلك كانت بعض انطباعاتي عن المقال عندما استكملتُ قراءته، وأعجبتُ به، وأعترف أنني لستُ محيطاً بكثيرٍ من تلك الروايات بسبب بعدي عن الوطن العزيز، ومن ثمَّ فلا أستطيع أن أدلي برأيٍ في هذه القصة أو تلك، أو حكمٍ في هذه الرواية أو تلك، ولكني أقول إني قرأت المقال فاستفدت منه، وشوَّقني إلى قراءة مراجعه حتى أتمكن من استيعاب الغايات والأهداف، وأكوِّن لنفسي رأياً أستطيع أن أبثُّه بين الناس. غير أني مُلزَمٌ هنا بالإشادة باليقظة النسائية الرائعة في كلِّ المجالات، إذ لم يعد ثمَّة حقلٍ أدبي، أو اجتماعي، أو سياسي، أو اقتصادي، أو زراعي، أو طبِّي، إلَّا ولهن حضورٌ قوىٌّ وتقدُّمٌ ملموس. والحق أنَّ المتابع لليقظة النسائية ينبهر بسرعة تقدُّم النساء المعرفي، ومساجلتها الرجل -بعد ركود طويل واجهها- في كل تلك الحقول، وتفوُّقها في بعضها، بحيث يمكن القول الآن إنه نَبَتَ “لليمن” الجناح الموازي مما يسمح لها أن تطير إلى الآفاق العالية، محلِّقة بجناحين متساويين.


(5)

وتختتم “المسار” -والختامُ مسكٌ- هذا العدد بمقال الدكتور “عبد النور أيت بعزيز”: «قراءة في ألقاب عائلات بني ورتلان دلالات وأبعاد».

لا مبالغة إذا قلتُ إنَّ الدكتور بمقاله هذا يفتتح أفقاً جديداً في حقل الأبحاث الجديدة، فهو به يُطلُّ على حقلٍ جديدٍ لم يطرقه كُتَّاب العرب الشرقيين فيما أعلم إلَّا في النادر، ولم يعطوه من الأهمية ما أعطاه الدكتور، وإنني أرجو أن يُتابعه الكُتَّاب العرب بأبحاثهم ومقالاتهم، لا لأهميته كتاريخ يجب أن يُنشر فحسب، وإنما من أجل أن تُفهم تقاليد وعادات المجتمعات والمكونات في الوطن الواحد، من أجل تفكيك ما يجلبه الجهل بها من احتقانات مُتفجِّرة يولِّدها الجهل. والحق أنَّ مثل هذه الأبحاث تفيد أيضاً في معرفة سلوك المناطق المتباعدة والتعارف فيما بينها على امتداد منطقة اللغة العربية، وإذابة أيَّ خلافٍ ينجم بسبب عدم معرفة تلك التقاليد.

وقد عانى الدكتور المشاق والصعاب في بحثه عن موطنه هذا، لأنه اقتحم حقلا غامضاً لا ينابيع له إلَّا وَشْلَ جداولٍ شحيحة لا تُروي ظمأً، ولنا أنَّ نتفهم قوله وهو يقتحم هذا الحقل المجهول: «المحاولة تُعتبر الأولى من نوعها حيث لا توجد أيُّ دراسة عن المنطقة لحدِّ الآن حسب علمنا».

وذلك بسبب قلَّة المصادر، مع أنَّ الكاتب لم يتحدث إلَّا عن «ألقاب بلدية بني ورتلان فقط، والتي يبلغ مجموعها 540 لقبا».

ومن المؤكد أن اليمنيين يدينون بالشكر بصفة خاصة للسيد الدكتور “عبد النور” الذي نوَّر صفحات “المسار” بما كتبه عن الزعيم الإسلامي الكبير السيد “الفضيل الورتلاني”، والآن ينوِّرهم بما تجيش به منطقته من ألقابٍ في أرضٍ ظَهَر فيها ذلك المصلح الكبير رضوان الله عليه.

ويختم الدكتور مقاله بدعوته إلى المزيد من البحث والدراسة لهذا الحقل: «وما هذه المحاولة إلَّا لبنة أولى في صرح هذا البناء الشامخ الذي اندثرت معالمه وكادت أن تزول نهائياً، والذي يتطلَّب منَّا جهوداً معتبرة لإبرازه والتعريف به والاعتزاز بصموده وتحدِّيه وإفشاله لمشاريع المحتل الفرنسي».

وهي لفتة مهمة لمعرفة محاولات الاحتلال الغربي كلِّه لطمس معالم سلوك أممٍ حَكَمَتْها. إنه لبحثٌ شاقٌّ بالفعل، ولكن الدكتور تمكَّن بحقٍّ من تسهيل معرفة طرقه وشعبه ومنعرجاته.

وبهذه الأبحاث التي احتواها هذا العدد فإنَّ “المسار” تسير على طريق الانفتاح والتلاقي، لقد بَدَأتْ بالحديث عن رجلٍ نبغ في “الشرق الإسلامي”، وختمته عن ألقاب رجال في “الغرب الإسلامي”، لإيمانها بوحدة “الأمة الإسلامية”، وبهدف التلاقي بعد الفراق، والتوحُّد بعد الانشقاق، وامتزاج الأفكار بعد الانقطاع، وتمحو ما ارتكب من جرائر التمزُّق المُعيب لتعيد الثمر الذاوي إلى اخضراره، والذابل إلى يانع نضجه، والمنقطع إلى رائع تلاقيه. والله الموفق للصواب.

رئيس التحرير

افتتاحية العدد 56