يحمل عدد 55 من (مجلة المسار) للقراء الكرام مواضيع ستة، لا يخلو واحد منها من جديد..
(1)
فبحث «مساهمة أسرة بني الوزير السياسية والعلمية والاجتماعية من خلال كتاب (ثبت بني الوزير) للهادي بن إبراهيم» جمع ما ليس مجموعاً وما هو متناثر في كتب التراجم التي تقوم على الأبجدية فتتباعد زماناً، وتتفرق مكاناً، وتنفصل تاريخاً، لذا رأيت أن أجمع تلك التراجم كتاريخ متسلسل مترابط، لتظهر مساهمتها في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتقرأ تاريخاً، وليس لوامع برقٍ هنا أو هناك.
وكما قلت في نفس المقال أنه إذا ذُكر الأمير العفيف محمد ذُكِرت المطرفية تلقائياً، ومن هنا تحدثت عن المطرفية من زوايا لم يذكرها محاورو كتاب (حوار عن المطرفية.. الفكر والمأساة) الثلاثة، إلَّا ما لا يمكن تجاوزه، لأسرة اتخذت من تحصيل العلوم هدفها، ومن ثم لم تؤازر إلَّا عادلاً، ولم تنابذ إلَّا ظالماً، لم يكن لها حظٌ مرموق في عالم السياسية منذ جدها الإمام يحيى بن الناصر والإمام يوسف بن يحيى اللذين أخفقا في هذا المجال، فكان درساً استوعبه الأبناء استيعاباً فانصرفوا عن السياسة إلى العلوم فنجحوا فيها، ويجسد هذه الظاهرة الأمير محمد بن المفضل، التي عرضت عليه الإمامة، وكان الوحيد المرشح لها، فعافها فلُقِّب العفيف، ثم استمر هذا التباعد إلى القرن الثاني عشر الهجري، حيث قام الإمام محمد بن عبد الله الوزير وفي القرن الرابع عشر الهجري، حيث قامت الثورة الدستورية برياسة الإمام عبد الله، وكلا التجربتين السياسيتين أخفقتا، ومن ثمَّ لم يكن لدي هذه الأسرة تراكم الخبرة بالإمامة السياسية من نهاية تجربة الإمام يوسف بن يحيى؛ لأنها انصرفت في طلب العلوم واستقت من ينابيعها الوفر الكثير، وألَّفت وأبدعت في فنون مختلفة.
(2)
ونبقى مع المطرفية، وتشاء الأقدار بدون تنسيق بيننا أن يُخصِّص الأستاذ الكبير عبد الباري طاهر مقاله عن المطرفية في كتاب (تيارات المعتزلة) للدكتور علي محمد زيد، والحقُّ أنَّ أستاذنا قد انتقى كتاباً ليلخصه فأحسن الاختيار، وعرضه للقراء فأحسن العرض، وألمَّ بأغراض الكتاب فتوفق، حتى ليمكن القول بأنه لم يترك نقطة هامَّة إلَّا وعرضها بأسلوبه الشيِّق المتميز. وأنَّ القارئ يخرج من مقاله وقد ألمَّ بشجونٍ للمطرفية وما لاقت وعانت وكيف وُئدت، وبدون ذنب قتلت.
وكتاب د. علي محمد الآنف الذكر يُعتبر في رأيي من خيرة الكتب عن المطرفية، وأكثرها إلماماً بأفكارها ومعتقداتها، واطلاعه الواسع على كتب المخترعة وكتاب المطرفية (البرهان الرائق) الوحيد الباقي من كتبهم حتى اليوم، فقام بدراسته دراسة موضوعية وقارنه بالفكر المخترعي بموضوعية عالم رشيد. ولعل ممَّا طرحه د. علي محمد أنَّ كُتب القاضي المخترعي الكبير جعفر بن عبد السلام كانت بمثابة فتوى بكفر المطرفية، للإمام ابن حمزة وإباحة قتلها وسبي نسائها وحز رقاب قوم مؤمنين. وأُضيف هنا أنَّ القاضي العلامة المخترعي عبد الله بن زيد العنسي (ت 677ه/64-1365م) بعد إبادة المطرفية بحوالي 66 عاماً، يحمل نفس المسؤولية الأخلاقية، حيث صال وجال في ميدان ليس فيه أحد من فرسان المطرفية يجادله ويقارعه، فكان كمن جال أمام جثث مدفونة، لقد كانت تلك الكتب بمثابة التبرير لما حصل؛ بل وإبقاء نار الكراهية مشتعلة ضد أناس أبادهم سيفٍ قاسٍ.
عن معظم هذا كلِّه تحدث الأستاذ الكبير عبد الباري طاهر بحيادية تامَّة، فأنجز صورة عامة واضحة المعالم.
(3)
ومن حديث صراع “الأنس” وأعمالهم ننتقل إلى حيث “الجن” مع الأستاذ الدكتور مراد بركات أستاذ الفلسفة الإسلامية، قسم الفلسفة والاجتماع بـجامعة عين شمس، من خلال مقاله الشيِّق والمفيد: «إبليس عبر الثقافات والعصور» وهو حديث جمع بين الدين والفلسفة والأساطير، حلَّق فيه بجناحين قويين لبروفيسور في عالمٍ غير مرئي، لبث يتابعه في عالمٍ واسع منذ نشأته الأولى حتى اليوم، حيث تزامنت النشأة في لحظة واحدة. وكما يقول البرفيسور «لا يزال ملف عالم الشيطان بغرائبه وقصصه الأسطورية مفتوحاً منذ اللحظات الأولى لخلق الإنسان، ورغم ظهور الدين الحق، وتقدُّم العلم وتطور الفكر الفلسفي، فإنَّ الإنسان لا يزال متخبطاً – على مدى التاريخ، وإلى اللحظة الحاضرة – في فهم عالم الشيطان المثير، وفي كيفية التعامل مع إبليس ومختلف صور الشيطان وتجسداته السفلية»! وقد ألمَّ البروفيسور في حديثه بموضوع فلسفي معقَّد، فتعرض لـمشكلة الشر، وضرب فيه بقلم عَالم، وطاف في الأفاق الرحاب منذ النشأة الأولى منذ صورة الشر مع أبي البشر آدم عليه السلام، وعن الجن والشياطين في الأدب العربي القديم، وعن الشيطان في الحضارات القديمة، وعن الشيطان عند اليهود، وعن المسطورات السحرية المكتوبة بالقلم المسماري عند الآشوريين، وعن الشيطان والكونفوشيوسية، وعن بوذا وانتصاره على الشيطان، وعن الشيطان عند الأفريقيين، وعن الشيطان في الثقافة الغربية، وعن التصور الفلسفي للشيطان في العصر الحديث، وعن شرقنة الشيطان، وعن الإسلام والمسلمين في التاريخ، ثم عن نظرية موت الشيطان، وعن عبادة الشيطان والحداثة، وعن الشيطان والرؤية الإسلامية، وأخيراً ختم طوافه الكبير بـالمواجهة القديمة المتجددة.
لقد كانت رحلة رائعة بكلِّ ما فيها من عواصف ورمال وواحات وأنساماً غاصت عمقاً في الزمن، وتوسعت عرضاً في المكان، فكانت هذه الدراسة رائعة الجوانب.
(4)
ومن الشيطان وحديث الشيطان، ووساوس الشيطان، نلوذ بمقالٍ شجاعٍ دبَّجه قلم الأستاذ عبد الله صالح القيسي في مقاله عن «قراءة في مشكلة الحديث»، ولكن للحديث حديث، إذ لم يتعرض حديث للتزوير والكذب، كما تعرَّض الحديث النبوي كما هو معروف، ومن ثمَّ فأنا أقف مع الأستاذ الكريم في تفريقه بين “الحديث” و”السُنَّة” قال «من الأمور الشائعة في تراثنا الحديثي أنَّ الروايات المدونة في كتب الحديث هي السنة ذاتها، وبذلك تمَّ الخلط بين الحديث والسنة، وبين ما هو قولي وما هو عملي، بعكس ما كان سائداً إلى بداية القرن الثاني الهجري، والذي كان يُطلق “السنة” على الفعل المتكرر و”الحديث” على الكلام، وكانوا يقولون: فلان أعلم بالسنة وفلان أعلم بالحديث، وفي ذلك قال عبد الرحمن بن مهدي (ت 198هــ): “سفيان الثوري إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، والأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، ومالك إمام فيهما جميعاً». وقد لا أتفق مع قول عبد الرحمن في توزيع الاختصاصات إلَّا أنَّ التقسيم نفسه جديرٌ بالاهتمام.
ومضى الكاتب فسجَّل أنَّ أول من جمع المعنيين تحت مسمى واحد هو الإمام الشافعي (ت 204هــ) ونقل عن المرحوم الدكتور طه جابر العلواني معاني “السنة”. وعن الشيخ محمد أبو زهرة وأبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروزي (ت 275 هـ) ثم مضى يضرب في أفاق الحديث ويُلم بأهم طرقه فتحدث عن “المتواتر” ويذهب مع الإمام “شلتوت” إلى وجود إسراف في وصف الأحاديث بـ “التواتر” وتحدَّث عن “الظني” و”القطعي” و”التدليس” وعن اختلاف علماء الجرح والتعديل «ولهذا سنجد أنَّ البخاري قد روى عن رجال ضعّفهم مُسلم، كما أنَّ مسلم روى عن رجال ضعّفهم البخاري ولم يرو لهم». واعتبر تدخل التمذهب في التّقييم إضعافٌ لقاعدة التعديل وتعرض للأحاديث المخالفة لصريح القرآن، ولصريح العقل وغيرها من المواضيع الهامة، والخلاصة فبهذا البحث نستطيع أن نلوذ بكنف السنة النبوية الصحيحة ومن ﴿شر الوسواس الخناس* الذي يوسوس في صدور الناس* من الجنة والناس﴾.
(5)
بعد تلك الجولات في التاريخ القديم وفي الجانب المستور من العالم، نعود الى الحديث عن التاريخ المعاصر من خلال ما كتبه الأستاذ لطفي نعمان عن (اليمن الخضراء.. شعاعٌ من تجربة النعمان التنويرية)، وأُقدِّر للطفي لطفه في عرض ما يراه صواباً، وفي تقبُّله للرأي الأخر، لقد جسد بالفعل اسمه.
الحديث عن التاريخ لا يعني الحديث عن شخص، وإنما عن وقائع، وإذا اعتمدنا على هذه القاعدة فإننا نبتعد عن الشخصنة إلى التاريخ المحض، لكوننا نقف أمام واقعة لا إزاء شخص، وبهذا نجد أنفسنا نتحدث عن تاريخ لا أشخاص، ويصبح الحديث تتمات لناقصٍ أو تلوينٍ لصور لم تكتمل عند هذا أو ذلك، وما طرحه لطفي فرؤية رآها وتلمَّسها بطبيعة الباحث، وما أطرحه أنا فرؤية من زاوية أخرى قد تكون تتمة لصورة أراها أو توضيحاً لجانب من الصورة التي بين أيدينا قد تكون صائبة أو خاطئة، ومنذ البدء يجب ألَّا نفترض سوء النية في أحد، فكلٌّ أدَّى دوره كما يعتقد، وقدَّم أفضل ما عنده، فنحن – لطفي وأنا وربما غيرنا – ندرس الصواب وندرس الخطاء في شكل وقائع وبعيداً عن الشخصنة.
ثمة أمور لم تتعرض للتوشيح نحو رواد الحركة الإصلاحية والوطنية معاً جديرٌ أن تتوضح كمثل مصطلح “حركة الأحرار” الذي ارتسم في الذهن أنه بدأ بحركة الأحرار في “عدن”، وفي هذا التخصيص إجحاف و احتكار شاعري يصادر جهاد الرعيل الأول كالشماحي وأبو نيب والمحلوي والعزب والمطاع.. الخ، وجهود “البريد الأدبي” و”مجلة الحكمة اليمانية”؛ بل وجهود الأستاذ حيدرة. مما كان سبباً في أننا لم نصل إلى اليوم إلى دستور يُطبق ولا إلى حرية تُقال وما يزال النّضال من أجلهما مستمراً.
لا أعتقد أنَّ أحداً قادر على إنكار دور الأستاذ نعمان في التنوير، ولا أعتقد أنَّ أحداً ينكر أنَّ الأستاذ تطور وطوَّر، ولا أحد ينكر شجاعة مذكراته والكشف عن سيرة حياته بوضوح، ولكن من الخير أن ننظر في أيِّ حقلٍ كان تنويره أكثر، ولن يلتمس تنويره في الجانب السياسي – وله دورٌ – لأنَّ السياسة تشغل السياسي بالحق وبالباطل، وتترك أثارها على كل سياسي تٌقلل من دوره التنويري ، وإنما يُلتمس تنوير النعمان في نضاله من أجل التعليم ونشر المعرفة، وتاريخ حياته يؤكد هذه الحقيقة/ من هنا يمكن رصد توجهه من المواقف المبكرة من أثر تعاليم “زبيد” إلى أثر الأستاذ “حيدرة” التي يعتبرها الأستاذ نفسه أول تنويرٍ له، ولا شك أنَّ أزهريته واتصالاته وما يراه وما يسمعه في القاهرة كان من عوامل تطويره، لكن المدرسة الزبيدية والجامعة الأزهرية ظلت تتحكَّم فيه وخاصة في طاعة ولي الأمر فهو كان مع الإصلاح والتغيير ولكن ضمن النظام نفسه. ومما يؤكد لي أنَّ تنويره كان تعليمياً أنه لم يكن ميالاً إلى العنف، ولم يكن ثورياً مندفعاً.
اتفق مع الباحث أنَّ إصدار “اليمن الخضراء” بمحتوياتها التي ذكرها الباحث باختصار كانت شعاعه الأول للتنوير. وكان فراره من تعز مع الزبيري وأخرين إلى عدن بداية الجهد التنويري السياسي عنده، فقبل هذه الفترة بقي للزبيدية والأزهرية في نفسه أثرٌ واضحٌ وكانت قمة التّنوير هو إنشاء كلية بلقيس في عدن.
ومن هنا تراني لا أتفق مع ما ذهب إليه الأستاذ الناقد عبد الودود سيف من إدخال “الأنَّة الكبرى” من كتب التنوير، لأنها لا تمتُّ إلى التنوير؛ بل تنتمي إلى فترة التوتر والخصام التي شهدتها تلك الفترة وشهدت الخصام الشديد بين ولي العهد والأمير علي الوزير، الذي رفض ولاية العهد من الأساس وجاهر بعدم صلاحية ولي العهد للإمامة، وقد مال المرحوم نعمان آنذاك إلى ولي العهد ضد الأمير وأصدر في تلك الفترة (الأنَّة الأولى): «أبناء اليمن يشرحون أسباب الهجرة للأمير سيف الإسلام، ولي العهد المحبوب أحمد بن أمير المؤمنين نصره الله» فهو أقرب إلى الكيد السياسي منه إلى التّنوير.
إذن فلا يُنكر أنَّ للإستاد دوراً كبيرا في التنوير السياسي، وبالأخص منذ عام 1944م فما نقرأه في (صوت اليمن) وفي المحاضرات والمقالات آنذاك هي من النوع التنويري، ومثلت نقلة عن “الزبيدية” و”الأزهرية”، وإن لم تقطع حبالها بها بالكلية.
هناك ثلاثة مواضيع على باحثنا الرصين “لطفي” جلاءَها وتوضيحها، وهي موضوع إغلاق مدرسة الحجرية، والثانية المدرسة التي أنشاها الأستاذ، والثالثة نادي الإصلاح الأدبي. وهي مواضيع كثر فيهما اللغط بدون توثيق مما يستدعي من الأستاذ الباحث “لطفي” تحقيق هذه القضية، وأول ما يحتاج إلى التدقيق هو كما أتصور وجود “مدرسة الحجرية” وهي سابقة لتخرُّج الأستاذ من “زبيد”، وهي المدرسة التي عُيِّن فيها مدرساً، ففي المذكرات لم يشر الأستاذ “نعمان” إلى إغلاق “مدرسة الحجرية” وإنما قال «جاء أحد أبناء الإمام إلى الحجرية -الأمير القاسم – وقال : ذبحان هذه ستكون كـ”لبنان”، وذهب إلى الإمام الذي أمر بسحب الأستاذ حيدرة فأخرجوه حالاً، وأتوا بمعلمين آخرين إلى المدرسة. بعد هذا الحادث سحبت نفسي وقرَّرت أن أذهب إلى الحج» (ص 34).
فالمدرسة أولاً لم تغلق وإنما استبدل أساتذتها، وثانياً إنَّ الذي أمر بإخراج “حيدرة” هو الإمام نفسه، وثالثاً أنَّ الأستاذ هو الذي قرَّر السّفر إلى الحج.
والمدرسة الثانية هي التي أسسها، هي المدرسة التي ذكرها الأستاذ عقب حديثه عن خصام الأمير له ولأسرته وأنه كان «يقيم العراقيل أمامهم، كل ذلك نكاية بهم لأنهم مرتبطون بالإمام وبأولاد الإمام ولأنهم يثيرون المعارضة له، وجاءت أيام علاقتي بولي العهد، فتعرضت للعقاب من علي الوزير عندما فتحت مدرسة وبقيت أدعوا الناس للصلاة وانشر الدين فكتب يمنعني من هذه الدعوة، وقال: أين نعمان ليس معنياً بالإسلام» (ص189).
والثالث “نادي الإصلاح الأدبي”، ولعل النادي كما يبدو لي مرتبط بهذه المدرسة وبمكتبتها والتي لعلَّها سُميت فيما بعد بنادي الإصلاح الأدبي. وقد جاء ذكر النادي على لسان الأستاذ عرضاً عند ما بعث برسالة إلى ولي العهد إلى حجة ضد علي الوزير«لنكون تحت حمايته، وتكون هذه المدرسة تحت إشرافه، ويكون النادي تحت إشرافه، فعملت هذه الأمور عند الوزير شيئاً في نفسه ضدَّنا وظل يتعقبنا إلى أن وصل الأمر إلى إغلاق هذه المدرسة»(ص131).
وقد ذكر مؤلف حياة الأمير أنه لم يسمع بهذا النادي. (حياة الأمير ص76 ).
ولم يصرح الأستاذ بأنَّ الأمير هو الذي أغلقها وإن جاءت العبارة بصيغة توحي بذلك.
ولعل لأيِّ باحث – والصراع كان على أشدَّه بين الأمير وولي العهد – أن يرى في ذلك صراعاً بين نهجين كلٌّ له مؤيدوه، وقد انضم الأستاذ إلى ولي العهد في معركة ولاية العهد و جوازها، ومن المقبول أن يعارض الأمير كلَّ من يؤيد ولي العهد ويواليه ويعادي من يعاديه، ويجعل من مدرسته منبراً لطاعة الإمام وولي عهده وهو ما لا يحب الأمير سماع ذلك، لأنه يعرقل مسعاه لمقاومة ولي العهد. وقد ذكر الأستاذ نعمان شهادة الأمير له بعلمه بعد نقاش بينهما على علمه ونباهته «وصدر الأمر في ذلك الوقت من السيد علي الوزير في شكل رسالة إلى الإمام يحيى يقول فيها: «إنه وصل إلينا الفقيه أحمد محمد نعمان الذي تعلَّم في “زبيد” وهو نبيه ومن أهل الاستحقاق نرجو أن تعيِّنوا له ما ترونه مرتباً شهرياً ليقوم بالتدريس في الحجرية» (ص169).
فسابق الرعاية من الأمير للأستاذ لن تنقطع بسبب إلَّا إذا كان من الخطورة بمكان، خاصة إذا أدركنا أنَّ صلة الود مع مشايخ آل نعمان بقيت عامرة، وكان والد الأستاذ صديقاً حميماً للأمير ويرى فيه «رجلاً متديناً عادلاً وينظر إليه نظرة تقديس» (ص188).
وكانت علاقته مع المرحوم الشيخ الجليل محمد أحمد نعمان (عم الأستاذ أحمد) عامرة ولم يفصله عن عمل قط، وكان يعتمد عليه في معاركه ضد البريطانيين والسعوديين.
طرحت هذه المواضيع التي تحتاج إلى مزيد دراسة، والمطلوب من الصديق الباحث “لطفي” أن يجلو لنا هذه القضايا الغامضة لتستوي على قرار مكين للاستفادة منها.
( 6)
نخرج من تلك الأجواء إلى عالم الشعر كما يخرج الرحالة من الصحراء الغامضة المترامية إلى واحة فيها ظلال ظليلة، وأشجار وغدير جارٍ، ومنظر حسن، فنستقر فيها نستروح أنفاس نسيم عابر. وليس مثل الشعر ما يُريح النفس اللاهثة، ولهذا سنتفيأ مع الآنسة الأديبة “علاء علي” في واحة الشاعر “المُقري” من خلال مقالها «تقنية التناص في الخطاب الشعري عند إسماعيل المقري».
تناولت الكاتبة الحديث عن التناص بمعرفة كاملة به، ملمَّة بأنواعه، شارحة لمعانيها. وقد بدأت بتعريف مصطلحه بأقسامه الثلاثة، وذكرت أنَّ هذا المصطلح جديداً، ولهذا فهو ما يزال يتعرض للتحولات، ولتعدَّد التعريفات الذي لم يكتمل بها بعد أو على حدِّ قول الآنسة الكاتبة «ما يزال مصطلحاً مراوغاً ليس له تعريف محدد؛ إذ يُعدُّ مصطلحاً جديداً لظاهرة نقدية قديمة». ومن خلال طوافها على أراء النقاد الغربيين ومن خلال تقسيمها التناص إلى اقتباسي، وإحالي، وإيحائي خلصت إلى القول «إنَّ التناص تقنية فعَّالة في فهم النص وتحليله من خلال تفاعل النصوص فيما بينها» و«أنَّ الخطاب الشعري لإسماعيل المقري يزخر بالتقاطع النصي مع نصوص أُخَرْ، نجده محكوماً بطابع كلاسيكي تقليدي كما هو الشأن في تلك الفترة». وأنَّ «اللغة الدينية تتمتع بتأثير وحضور في الوعي الجمعي»، و«أنَّ النص القرآني شكَّل مكوناً جوهرياً من مكونات الخطاب الشـعري لدى المقري، حيث استثمر مفردات “القرآن الكريم” ودلالتها ووظفها في النص الشعري محملة بدلالات تنسجم مع النص الشعري وفق رؤياه الذاتية».
وبعد أن تُلم بهذا النص في حالة تطبيقه تتحول إلى التناص الإحالي، وتعرفه بأنه «الفهم العميق وإمعان النظر فيما تختزله مضامين التناص المكثفة، وملاحظة العلاقة بين النص الحاضر والنص الغائب من خلال إحالة التركيب أو المفردة للنص الغائب» وتمضي فتطبِّق عليه ما طبقته مع سالفه، ثم تتناول التناص الإيحائي، الذي يعتمد على الإيماء دون التصريح، والمعنى دون اللفظ. وكما عملت مع الأولين طبقت الثالث على نصوص من شعر المقري.
الخلاصة فما قدمته الآنسة الأستاذة “علاء علي” أنها ناغمت معنى المصطلحات بما عرضته من شعر ووفقت في ذلك خير توفيق وعالجت شعر المقري من خلاله معالجة تقنية التناص بحذق ومهارة.
رئيس التحرير