يحمل العدد الرابع والخمسون من “مجلة المسار” كعادته أبحاثاً جديدة، سنمر عليها واحداً واحداً. ولكن قبل ذلك أريد أن أشير إلى أن الأبحاث الجديدة الجادة هي التي تصحح – بموضوعية وعمق وتوثيق – خطأً قائماً، أو تفتح باباً مغلقاً، أو تستشرف آفاقاً غير مطروقة، وإلا فهو تكرار معاد.
إن الحالة النائمة على مفاهيم خاطئة، أو مقيدة بمعطيات زمنها، هي التي عاشتها كثير من “المذاهب” ودان بها أتباعها، وتمسكوا بها كحقائق ثابتة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ومن ثم إذا سمعوا صوتاً آخراً، أو لاح لهم ضوء جديد، فأنهم يُصمّون آذانهم عن سماعه، ويغلقون أعينهم عن رؤيته، لأنهم وجدوا ما يناقض ما ألفوه، وما تعودوا عليه، وتمسكوا به، ولم يكتفوا بذلك بل تراهم يحملون معاولهم بأيديهم ويهدمون ما يرونه حتى قبل أن يتفهموا جديده، ثم يضعون عل آذانهم وقراً حتى لا يسمعوا فوائده، وبذلك يحجبون أعينهم عن رؤية ضوء جديد، ويغلقون آذانهم عن إيقاع مبتكر، ذلك لأنهم لا يرغبون في سماع أي شيء الا ما تعودت آذانهم عليه، ولا يرضون حديثاً إلا مع ما يتلاءم مع المألوف المغلق، ويصرّون على الحفاظ على تأسّنه إصراراً. وهذا القول ينطبق على ما سيواجه مقالي العلامتين “محمد يحيى عزان” و”أحمد محمد الدغشي” إذ عالجا قضيتين مثار خلاف صاخب بكل انصاف.
1
يصل مقال: «وأقفل ملف مواد الدّعان» إلى نهاية خُطاه بعد بحث طويل، كان حصاده أن المواد العشرين التي وُقِّع عليها في «الدَّعَّان» قد وجدت أصولها – أو نسخة طبق الأصل من أصولها – في الوثائق المحفوظة في «الأرشيف العثماني» التي عثر عليها كلٌّ من الدكتور “فؤاد الشامي” والدكتور “عبد الكريم العزير”، ومع ذلك فإن بقية من حديث – ليس عن المواد فقد أنجز القول فيها – عن غياب اسم المشير “أحمد عزت” وتوقيعه، وغياب توقيع الإمام “يحيى” وحضور اسمه في الوثيقتين “المعلنة” و”السرّيّة”؛ فهذا الغياب بحاجة إلى بحث تحليلي يكشف أسبابه. وقد أذهبُ إلى القول: إنه ربما تكون التواقيع والأسماء موجودة في “النسخة الأم” التي لم يعثر عليها بعد، إذ إنما ما وجد هو نسخة طبق الأصل عنها. وبالنسبة لما هو بين أيدينا فيبقى تساؤلٌ مثيرٌ وهو لماذا غاب اسم “المشير” وبقي اسم الإمام في “الاتفاقية السرّية” على وجه الخصوص؛ لأن أكثر موادها هي بمثابة تعهّد من “العثمانيين” للإمام بدفع مرتباته ومساعدته سلماً وحرباً مادياً وعسكرياً، وليس العكس، وكان من المفروض أن يوقع على الوفاء بذلك التعهد “المشير” لا “الإمام”.
وكما قلت في المقال إن أهمية دراسة اتفاقية الدعان – بالإضافة إلى أنها تحمل مؤشرات ملامح “الحكم المتوكلي” القادم – أنها شكلت بداية طيبة، ونهاية غير مريحة، فأما البداية فأنها أوقفت سيل الدم وساد بموجبها السلام، وأما النهاية غير المريحة فقد أفضت إلى حكم استفاد من تعاونه مع العثمانيين لمدة ثمان سنوات لترسيخ حكم مُنغلق، كان الحكم العثماني أكثر تطوراً وأوسع خدمات، مما يحتم القول أنها كانت سلاحاً ذا حدين، ومن ثم يوجب الاهتمام العميق بدراستها بروح منصفة.
2
نقرأ في مقال علامتنا الكبير محمد يحيى عزان: «ميراث التّركات.. التشريعات والضوابط» وإذا بنا نجد أنفسنا ضمن الصراع الحادّ بين «المتجدد والمتأسّن»، فهو كعادته ينشر ما توصل إليه واقتنع به، مهما كانت المصاعب، ومهما اختلف مع الأخرين.
وهو في هذا المقال تناول قضية الإرث والوصايا، من خلال منظار نصوص القرآن الكريم، مناقشاً ما اعتمد عليه الفقهاء من حديث يقيدّها ويخصصها، وإلى جانب آيات القرآن التي اعتمد عليها ناقشهم بحجج عقلية تنطبق تماماً مع آيات الكتاب الكريم.
يرى عالمنا أن القرآن الكريم – الذي هو مرجعية التّشريع الديني في الإسلام – يعتبر الميراث «بمثابة مَغنم غالباً ما يؤول إلى الورثة دون جهدٍ منهم ولا عناء، فهو في الواقع حقّ المُورِّث تفضّل به على الورثة، ويحق له في حال حياته أن يتصرف فيما يملك ويصرفه لمن يشاء وكيفما يشاء ومتى ما يشاء، وليس لمن يفترض أنه وارث بعد الموت أن يشترط على المورث مقداراً محدداً أو كيفية معينة».
ويثبت أن الشريعة الإسلامية جعلت «لكلِّ شخص الحق في التصرف فيما يملك، كما يشاء ومتى ما يشاء، ما دام حياً راشداً، والمُورِّث يعلم أكثر من غيره بحال أقاربه ومن يستحق العطاء منه، فكما أجاز له الشرع أن يتصدق بما شاء ويَهَب لمن يشاء ويُوقِف ما يشاء، أجاز له أن يوصي بما يشاء ولمن يشاء، المهم أن يكون ذلك في وجوه الخير، وليس لأحدٍ حق الحجر عليه، إلا إذا فقد عَقله أو أنفق المال في مُنكر صريح يحكم به العقل ويقضي به الشرع والقانون».
ويؤكد على أن القرآن: «شدّد على وجوب تنفيذ وصية الموصي كما هي، وحذر من أي تلاعب بها أو التفاف عليها» ومن ثم ناقش حديث «لا وصية لوارث» بعمق فقال: «نص آية الميراث صريحة في أن الوصية للوالدين والاقربين ولم تفرق بين وارث وغير وارث، ثم ظهر حديث يروى عن النبي جاء فيه أنه «لا وصية لوارث». وبسببه أخرج أكثر الفقهاء كل وارث من الاقربين من دائرة الوصية، بحجة نسخ الحديث لآية الوصية، وأن آية المواريث قد أعطت كلَ ذي حق حَقّه. وهذا الحديث من الأحاديث التي بدأت برواية مرسلة ضعيفة، ثم انتهى له المطاف إلى دعوى تواتره».
وسترى في بحثه الممتع والشجاع أدلته القوية وشجاعته الفكرية حيث يقول: «نحن نحترم اجتهاد من ذهب إلى أنه لا وصية لوارث، خصوصاً وأنهم جمهور الفقهاء، ولكن لا ينبغي أن يُرهبنا ما خلصوا إليه فيصرفنا عن إعادة النظر فيه، لاسيما أننا نراه غير دقيق ولا مُلزم، وليس مُجمعاً عليه كما يدّعي البعض. ونعتقد أن شرعية الوصيّة باقية وأحكام الآية قائمة لم تُنسخ، وبالتالي تجوز الوصية للوارث وغير الوارث بـ«المعروف» كما قال القرآن – مشيراً إلى أنه – ليس بمقدور أحد أن يسقط حكم آية صريحة برواية مختلف فيها».
وهكذا واصل نقاشه العلمي عن تقييد الوصية بالثلث على نفس المنوال، ولم يخش في العلم لومة لائم.
3
بعد الحديث المثير أدخل إلى مقال التاريخ والترجمة للكاتب الغربي “لين لونغ” ترجمة الدكتور العربي “حميد العواضي”، وأشهد أن الكاتب جمع فأوعى، وأن المترجم أحسن الترجمة، وأجاد العرض، ولا غرو فالمترجم هو أستاذ اللسانيات، ومن المعلوم أن بين اللغة وترجمتها اتصال عضوي لا ينفصم، وهو فيهما متمكن حتى أنني لمّا قرأته، لم أحسُّ أنه مترجم، وإنما كتبه الدكتور العواضي بأسلوب عربي محض، لكأنه تقمصه فصاغه صياغة عربية لا تحس أنه مترجم قط، وتلك ميزة لا يقدر عليها إلا من أعطي بسطة في اللغة وقدرة على كلما تتطلب الترجمة من إحاطة وشروط ومقومات ومع ذلك فقد قال: «إن جِدَّة موضوع علم الـتّـرجمة نسبيّاً، وطبيعتَه متعدّدة الاختصاصات تعنيان أنّ البحث في تاريخ الـتّـرجمة مازال في مراحله المبكِّرة ولـمّـا تجتمع أشتاتُه بمعنى من المعاني. ومؤدّى هذا أنّ ثمّة عملاً كبيراً يجب القيام به وكذلك نطاقاً واسعاً للباحثين المتحمّسين للإسهام في هذا الحقل. والمشكلة الأولى هي تحديد موضوع الدّراسة؛ وبعد ذلك هناك حاجة إلى قراءة واسعة حول الموضوع لالتقاط أيّ مسار يمكن اختطاطه».
ويقول: «وفي الأخير لا بُدّ من التّذكير أنّه لكي يتم البحث في تاريخ الـتّـرجمة بشكل ناجح فإنّ المرء بحاجة للتّعمق في عدد من الاختصاصات ذات العلاقة، ودراسة حالات نظيرة في سياقات أخرى. فالتّاريخ، أو اللّغات الحديثة، أو اللسّانيات، أو علم الكلام، أو التّربية، أو الفلسفة، أو دراسات الحضارات القديمة هي مساحات تحتاج أن تُسْتَكشف من منظور مقارن. قد يكون ذلك أمراً عسيراً ولكنّه أيضاً مناسبةٌ ممتازة للمشاريع التّعاونيّة الّتي يجب أنْ تجعل علمَ الـتّـرجمة متميزاً تميزاً إيجابياً عن الاختصاصات الإنسانيّة الأخرى».
4
وبعد هذه الاستراحة المنعشة نرجع إلى موضوع هام للغاية قدّمه الدكتور “أحمد محمد الدغشي” في مقاله: «مسوغات الخلافات الدينية وانعكاساتها التربوية»، وهو والحق يقال بحث علمي موضوعي حلّق فيه بين أودية تتحطم فيه الأجنحة، لما فيها من شعاب ومهاوي ومنعرجات حفرتها أزمنة طوال حتى غيرت معالمها وبدلت أشكالها، ومع ذلك فقد مضى شارحاً مفتشاً منقباً حتى تمكن من إبراز الأخاديد والمهاوي والمنعرجات وطرحها أمام القاري واضحة ليرى هول التغيير والتبديل والمسوغات والتبريرات، المنهٍكة والمنهَكة. لقد بذل فيه من الجهد ما يبذله المخلص في أبحاثه.
وبعد أن طاف بتلك الأودية المتشعبة خرج منها بنتيجة: «لو أن ثمّة توجّهاً جادّاً واستيعاباً تربوياً جيّداً من قبل القيادات التربوية – بمختلف مستوياتها- لجملة المعاني السابقة ودلالاتها، وانعكس ذلك عبر المقرّرات ذات العلاقة المدرسية العامة والخاصة، الرسمية وغير الرسمية، وعبر المؤسسات التربوية المتعددة الأخرى من أسرة ومسجد وإعلام وأجهزة معلوماتية وأحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني وسواها؛ لما حدث ذلك الاحتراب الديني البغيض بين أصحاب المذاهب والطوائف والجماعات والاتجاهات الإسلامية بكل عناوينها، سواء أكانت أغلبية أم أقلية، ذات جذور قديمة، أم طارئة حديثة، على نحو ما نشهده اليوم. وكان بالإمكان -لو سلمت تلك القيادات من الانغلاق والتعصب الأعمى حيناً، والتسييس الرخيص حيناً آخر-أن تتحول تلك المذاهب العقدية أو الفقهية أو الحركية إلى مدارس في البحث والطلب ذات سمات خاصة، تعمل على تقديم برامج نظرية وعملية، على نحو من الاعتدال والوسطية، بحيث تفيد من بعضها، وتنقل كلٌّ منها خبراتها إلى غيرها، وستغدو – حينها- أوجه الاتفاق محلاً للتعاون والتآزر، فيما ستصبح أوجه التباين والاجتهاد محلاً للتحفّظ ولكن مع الإعذار.
ويمكن الإفادة من جوانب مشرقة في تاريخنا الإسلامي، حيث تعايشت جموع الفرق والمذاهب، وإن حدث بينها من التباين والاختلاف ما حدث، لكنه لم يكن دوماً مصحوباً بالعنف، ولئن حدث قدرٌ من ذلك حيناً، فتظل العبرة بسلوك الكبار من القدوات والقيادات الفكرية والعلمية والسياسية والتربوية الكبرى كالإمام علي بن أبي طالب الذي رفض مواجهة خصومه من الخوارج بسلاحهم التكفيري، رغم عنفهم وتكفيرهم له، ووقوف النص الشرعي إلى جانبه، وحين سئل: أمشركون هم؟ أجاب:” من الشرك فرّوا”. فقيل: “منافقون هم؟ فأجاب:” إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً”، فسئل:” فمن هم إذاً”؟ فقال:” إخواننا بغوا علينا».
5
ونترك دكتورنا ينتظر -ونحن معه منتظرون- رجع صدى صوته الموقظ، ونذهب إلى حقل مشابه والشيء بالشيء يذكر فنقرأ مقال البروفيسور الكبير شيخنا وأستاذنا “وليفرد ماديلونغ، في حديثه الممتع عن كتاب (الأكلّة وحقائق الأدّلة) للعلامة قاضي عمان في سحار «محمد نجاد بن موسى بن مجاد(توفى 1119م /513هـ» الذي عرف – كما يقول “ماديلونغ”- منذ فترة، وقد ذكره “كاسترز” Custers في فهرس المراجع الإباضية.
أهمية هذا القاضي وهذا الكتاب أن العلوم الإباضية في فقه علم الكلام وصلت على يديه إلى قمتها. إذ «كانت “الإباضية” في مراحلها المبكرة في “عُمان” – كما هو معروف – تعارض المنحى الفكري النظري لـ “علم الكلام”، وتميل إلى التقليدية والالتزام بالنص، حسب مذهب “الربيع بن حبيب الفراهيدي” في القرن الثاني الهجري /الثامن الميلادي. وفي أواخر القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، قام أبو المنذر “بشير بن محمد بن محبوب (ت 908 م/ 290 ه) بوضع رسالتين صغيرتين في علم الكلام طرحتا وعكستا فكر العالم البصري المعتزلي المعاصر “أبي علي الجبائي” (ت 915 – 916م/ 303 ه). وهناك أدلة على استمرار مدرسة صغيرة في علم الكلام في تدريس فكر “أبي المنذر” في سُحار خلال القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. والقاضي نجاد، على الرغم من احترامه بعض وجوه من مدرسة المعتزلة في “علم الكلام” التي أسسها “أبو المنذر”، إلا أنه وضع “علم الكلام الإباضي” على قواعد مختلفة، «شافعية أشعرية”. ويتضمن كتاب “الأكلّة” بشكل كبير نصوصاً منقولة عن كتب “الأشعرية” في “أصول الفقه” و”علم الكلام”. وهناك العديد أيضاً من النصوص المنقولة عن كتب “المعتزلة” ولكن معظمها نصوص ثانوية منقولة عن كتب “الأشعرية” التي كانت تهدف إلى تفنيدها ودحضها».
ويكشف البرفسور عن أهمية هذا الكتاب بقوله: «والسؤال الهامّ الذي جرت مناقشته في هذا الجزء كان القُدرة المطلقة للعقل البشري والمنطق لتمييز الحقيقة المطلقة التي يؤكدها العقل، في مقابل رأي أهل الحديث الذي يدّعي أن الوحي وحده -ممثل في القرآن والسُنَّة النبوية – هو القادر فقط أن يُثبت اليقين في الدين. وقد شذّ ابن فورَك هنا عن الأشعري في تأكيد ما ذهب إليه المذهب العقلاني من حيث أن العقل هو المرجع النهائي لإقرار الحقيقة كلها».
من هذا العرض الموجز من مقال البرفيسور يتضح لنا أهمية الكتاب، ومن ثم تتضح لنا الاستفادة من قراءة مقاله، أو من قراءة الكتاب نفسه. ثم إن موضوع هذا الكتاب يزيدنا معرفة بـ “الإباضية” التي سكنت أعالي الشمال اليمني من خلال ما تعرض له المقال من آراء “عبد الله بن يزيد الفزاري” مؤسس الإباضية في أعالي شمال اليمن. كما أوضحته في كتابي على أطلال الإباضية”.
6
وإلى حقل تسوده دائماً الحيل والتلاعب بالكلمات لتشكل موحيات متناقضة يستغلها من يريد أن يخرج من تعهداته، نقرأ معاً مقال الأستاذ الباحث “لطفي نعمان” في مقاله المسمى «موقف أمريكا ومخاوف السعودية من ثورة 1962م في اليمن» وذلك إبان الحرب بين الجمهوريين والملكيين، أو بين فيصل وناصر.
وقد وقف الأستاذ “لطفي” بلطفه المعروف وقلمه الأديب والمؤدب مع بعض الوثائق الأمريكية، ومنها تلك التي تعرضت للقاء الملك فيصل مع الرئيس الأمريكي كيندي-وكلاهما اغتيلا بالرصاص- إبّان قيام الحركة العسكرية وإعلان الجمهورية، ومع أن «المسار» بدأت بنشر «الوثائق البريطانية» عن يمن الإمامين المنصور وابنه المتوكل، إلا أن الأستاذ هو أول من قام بدراسة وثيقة – بهذا القدر من الأهمية- على صفحاتها، وكان تحليله موضوعياً أخلص فيها لما فهمه منها، واستنبطه، في أسلوب جميل عُرف به. وبهذه المناسبة ترحب «المسار» بمن يريد أن يخوض في هذا الحقل ترحيباً غير مشروط إلّا شرط الموضوعية وطلب الحق، لأني اعتبر الوثائق هو الوجه الآخر للتاريخ، أو القرارات الخفيّة التي تسهم في صنع الأحداث المستجدة، وسوف يقدم الباحثون على هذا الحقل ما يستفيد منه المطلعون.
وقد أشار الأستاذ الباحث إليّ مرتين في حاشيتين.
المرة الأولى:
عندما قال: «سبق للباحث ترجمة ونشر بعض التقارير الأميركية عن احتمال حدوث تغيير في اليمن، بصحيفة 26 سبتمبر، في سبتمبر 2012 م، يؤكد مضمون إحداها صحة ظنّ المفكر الأستاذ زيد بن علي الوزير والمدون في كتابه المهم “محاولة لفهم المشكلة اليمنية” ص 220 من الطبعة الثالثة، بشأن “علم الولايات المتحدة بالتخطيط للانقلاب والتخطيط كذلك لحمايته مع تشجيع تامّ للمنفذين أو توفير لمنهجية تعاطي الحماية”، لكن تلك التقارير تشير بـ “العلم” دون “التخطيط”، ثم “عدم التدخل”. تبعاً لمنهجية تعاطي أميركا مع الشأن اليمني حسب إشارة “كومر” إلى ذلك ضمن تقريره». والثانية عندما استدعاني شاهداً: «ويحدونا الأمل في أن تضم صفحات أعداد مقبلة من المسار شذرات من ذكريات رئيس تحرير المسار الوالد الأستاذ المفكر زيد بن علي الوزير، حول تلكم الفترة، كونه شاهداً وقريباً ومعاصراً من بعض الدوائر التي تأثرت بالحدث اليمني وما تفاعل معه جواره القريب».
فأما ما قاله عن المرة الأولى فأحب أن أوضح أنه على حق لو اعتمدنا على الوثيقتين أو أكثر، بدون استقراء التجارب المتوفرة عن التخطيطات الماكرة التي يقوم بها الأقوى حفاظاً على مصالحه، واستغلالاً للأضعف لاستنزافه، ولا أظن أحداً ينكر ما قامت بها السياسة الأمريكية والأوروبية في العالم العربي وغيره من تخطيطات حتى ليمكن القول أنه ما من انقلابٍ ناجح أو فاشل إلا وأصابعهم خلفها، تنسج إخراجاً مختلفاً بحسب الحالة تشجيعاً لمغامرة، تلويحاً بمنفعة، اغراءً مالياً، تعددت الأسباب والتخطيط واحد، ومن المعلوم أنني لا أعني بالتخطيطات أبداً وضع التفاصيل، أو طريقة تنفيذه وإخراجه، فهذا موضوع متروك للقوى الداخلية التي تدار بالريموت عن بعد. وقد تُكبِّر كلمة التخطيط – في بعض الأحداث- وتضخم من أمر التدخل حتى يستدعي الأمر إنكاره، مع أن التشجيعات والتوريطات والإغراءات موجودة حاضرة، وغزو “العراق” للكويت” كان بتوريط أمريكي إن لم نقل تخطيطاً، ثم إن كثيراً من الوثائق لم تنشر كلها حتى تُستكمل الرؤية، وبالنسبة لقضية “اليمن، فقد يكون رأي الصديق الباحث على حقّ لأننا لم نعثر على وثيقة تفصح به، ولكن الاستقراء يميل بقوة إلى وجود مثل ذلك، وخاصة إذا عرفنا ميول الرئيس “كندي” وتأييده للحركة العسكرية بالرغم من صداقته الوثيقة بالمملكة، وأما التدخل الأمريكي فلم يكن بالقوة وإنما بالسياسة ولم يعد سراً أن أمريكا كانت وراء الاعتراف بالجمهورية في الأمم المتحدة، الأمر الذي يؤيد وجود كلما يمت إلى التخطيط بصلة. ومن المعلوم أن حالة القابلية للتغير في البلدان التي لم تستكمل نضجها السياسي تكون مستعدة بدون تبصر للوقوع في أي تخطيط خفي أو علني.
الأمر الثاني:
هو استدعائي كشاهد، والشاهد كالرائد لا يكذب أهله، وأنا أشهد أني سمعت رواية مخالفة للوثيقة في بعض النقاط، عن الأمير متعب بن عبد العزيز، وهو يحدثنا مع لفيف من الأخوة اليمنيين في وقت متأخر من قيام الجمهورية أثناء الحرب الجمهورية الملكية (في فندق بلازا في بيروت)، إذ قال: إنه كان مع الأمير فيصل في أمريكا، وأن الأمير استدعاه عقب خروجه من مقابلة الرئيس كندي، وطلب منه سرعة السفر إلى الرياض لمقابلة الملك سعود، وقال له: قل لسعود: قاتل حتى لو بعت العباءة، وبلغه أن الموقف الأمريكي متعاطف مع الحركة العسكرية؛ لأنه -أي الرئيس- يعتقد أن الثورة اليمنية قامت نتيجة تخلّف مريع، وأنه – أي الرئيس – لن يقدر أن يقف مع حكم متخلّف، وقال: إن رد الأمير فيصل، كان حازماً ومنذراً، فقال للرئيس بما معناه: أنا رجل بدوي، ما زلت بدوياً معتاداً علي ركوب الجمل وشظف العيش، وعلى استعداد لأستغني عن السيارة وأحرق آبار البترول كلها، وأعود إلى الصحراء بدوياً مقاتلاً، وإزاء هذا الموقف طلب الرئيس منه أن يقوم هو بإصلاحات في السعودية ليدعم موقفه الأمريكي الضاغط عليه من قبل حزبه، وقال حجزت في أول طائرة إلى بيروت، حيث لم يكن ثمة خط مباشر ومنها إلى الرياض، وأبلغت الملك سعود بما أخبرني به فيصل. هذا ما سمعته بأذني، وما كنت للحقيقة عالماً.
وبمثل هذا الحديث تقريباً سمعته من الصحفي السوري المشهور المرحوم أحمد عسة عن المرحوم رشاد فرعون مستشار الملك فيصل الأكثر من مقرب.
وأخيراً أضيف معلومتين لهما صلة، عرفتهما من المرحوم أحمد الشامي، إذ قال: إن السيف “الحسن” لما وصل مطار لندن سأله عن موقف أمريكا، ومن قابل من المسؤولين، وما هي وجهة نظرهم؟ قال: إنه لا يعرف رأيهم، ولم يقابل أحداً منهم، فذهل أحمد الشامي؛ لأن الأخبار آنذاك كان تصوّر السيف “الحسن” أنه رجل أمريكا ضد الأمير الأحمر “البدر”، وقال أيضاً: إنهما كانا ينويان الذهاب إلى عدن ومنها إلى اليمن، لكن الخارجية البريطانية نصحتهم بحزم بالتوجه إلى السعودية. وهكذا كان.
وإلى مدينة “البيضاء” تحملنا أشواق البحث لنقرأ مقال الدكتور عبد ربه طاهر الحميقاني: «الزراعة في لهجة البيضاء دراسة دلالية»، فنطل على أودية فساح من الخضرة اليانعة المتنوعة اختلطت لغة المسند بالعربية اختلاط التاريخ القديم بالحديث، واختلط العلم بالشعر الفصيح والحميني اختلاط نوعين من الزهور العاطرة فعبق مقاله بفوح أخّاذ.
الذي يلفت النظر أن المقال استخدم بعض كلمات المسند الزراعية التي مازالت حية مستخدمة، وهذا بذاته يستدعي البحث عن الحضارة الزراعية اليمنية من طريق المفردات الزراعية، ومن المعلوم أن الحضارة اليمنية عرفت واشتهرت بالزراعة، ومن الأهمية بمكان أن يعكف الدارسون على هذا الحقل الخصب ليكشفوا عن نظام زراعي متطور تمثل في السدود، وتصريف مياه السيول، ومياه الأنهار والغيول، وأسماء المناشر، والرزوم، وأسماء المواسم، وتحديد مواعيد النجوم الموسمية، والتنبؤ بـالأمطار، والذاريات، والرياح، مما لا يزال معمولاً بمعظمها. ودكتورنا قد استهل هذا الحقل بالنسبة للمسار لأول مرة على أمل مرجو باستمراره لإثراء هذا الحقل الحضاري المتميز.
الأمر الثاني الذي أحب أن أشير إليه، والذي خرجت منه من هذا البحث الجيد هو أن القارئ سيعرف أن “اللهجات اليمنية” متقاربة جداً، فإذا حذفنا أداة التعريف المدغمة (أم) من “لهجة البيضاء” وجدنا أنّ لهجة وسط الشمال، تستخدم (أل) المنطوقة، وإذ خلت لهجة الوسط من (أم) واستخدمت (ال) فإنّ أعالي الشمال تستخدم (أم)، وهي ظاهرة بذاتها تستحق الدراسة ومعرفة لماذا قطع الوسط لهجة الجنوب الشرقي من لهجة الشمال، وهل يعود ذلك بسبب تنقل الهجرات القبلية وسكونها هنا وهناك حاملةً معها لهجتها؟ إن البحث في هذا المواضيع يعتبر كشفاً للحضارة الزراعية اليمنية، وتنقل الهجرات الداخلية عن طريق اللهجات.
نهبط من أعالي “البيضاء” إلى سهول تهامة، والى ساحلها الواسع، وبحرها الجميل لنقرأ على شواطئها بحثاً كأمواجها مثيراً، كتبه الأستاذ الباحث “علي مغربي الاهدل” تحت عنوان الآراميّون في مهدهم القديم، وقد اخترت أن أجعله خاتمة هذا العدد لأن ختامه مسك، ثم إنه بحث لأهميته قد يثير نقاشاً صاخباً كأيِّ جديدٍ يتناقض مع طرح قديم، أو استخراج جديد لم يتطرّق اليه أحد، ومن ثم سوف يستقبله البعض بداية مشوار جديد لإثبات وجود غائب، وقد يرفضه البعض، هو يشبه إلى حدٍّ مّا كتاب الدكتور “كمال سليمان صليبي” : التوراة جاءت من الجزيرة العربية، من حيث استخدامه تشابه المسميات اللغوية بين أسماء “عسير” وأخبار “التوراة”، مستدلاً ببعض الحفريات والمسميات، فلقي من أمره عنتاً، ومع الفارق بينهما فصديقنا “الأهدل” لم يناقض ما تعارف عليه الناس، بل سيجد عضداً من القائلين بأن “اليمن” هو ينبوع “الهجرات العربية” إلى أعالي الشمال منذ أزمنة قديمة، فكاتبنا من هذه الناحية لن يجد ارتداداً غاضباً لما ذهب اليه، ولكنه سيحتاج إلى المزيد من الاثبات، إذ أن المقارنة بالأسماء والآثار لا تكفي لإثبات ما ذهب إليه، لكنها الخطوة الأولى في الطريق الطويل.
لقد فتح باباً عليه المُضيّ في دروبه حتى يصل إلى غايته، ويبدو لي أنه قادر عليه، والحق يقال -والفضل له- أنه أول من اقتحم مغلقاً، وكسر أقفالاً، وسيكون له فضل الريادة في هذا الباب. كما أنه استطاع بأسلوب سهل عرض أفكاره وتناول شاهقاته.
رئيس التحرير