افتتاحية العدد الحادي والخمسين

تجاوزت «مجلة المسار» – بفضل الله وجهد القائمين عليها والمشاركين فيها – العدد الخمسين من حياتها الخصبة، مُنهية – بوقار علمي رصين – عامها السابع عشر، بطريقة متطورة وخُطى ثابتة وتصميم مستمر، بدون كلل، رُغم ما يحيط بها من صعاب وأمور عظام، متمثلة في حرب مدمرة تشهدها اليمن، ووسط حصار ظالم خانق براً وبحراً وجواً، وقذائف موت تستهدف ما يمشي على الأرض من بشر وحيوان، وما ينتصب فيها من أثار وبُنيان. إلى جانب انقطاع للكهرباء حتى لا تتحرك وسائل الإنتاج، وحصار لوسائل النّشر ومنابر التعبير، حتى كاد يعدم الورق والمداد، إلا مداد الدّم القَاني يسيل في كل شبر نتيجة حروب ظالمة.

ومع كل ذلك الهول صَمَدت «مجلة المسار» بصبر القائمين عليها، وظلت تواصل مسيرتها التنويرية بتصميم وإصرار، مُتمكنة من اختراق الحصار الآثم بقوة التكنلوجيا، فعبرت الحدود وتخطت المحيطات الكترونياً لمواصلة مسارها في المراجعة الذاتية المسئولة.

وفي هذا العدد يجد القراء مقالات متنوعة، يؤلف بينها هدف واحد هو: الموضوعية، ويجانس بينهما مشترك واحد هو: تبليغ ما تعتقد أنه صواباً، وهي في نفس الوقت تفتح أبوابها للتقويم المرشد والنّقد البناء، مرحبة بكل قلم يضيف جديداً أو يقوِّم اعوجاجاً أو يصحح خطأً، متلقية ذلك بالقبول؛ بل بالترحيب الواسع.


(1)

مقال «دور العقل في بناء الحضارة الإسلامية» هو عبارة عن محاضرة ألقيتها في «مركز الحوار العربي» قاصداً منها وبها تبيين دور العقل في خَلق الحضارة أيّة حضارة؛ لأن دوره في تكوينها وتشكيلها دور أساسي ورئيسي، و لا يمكن أن تنشأ حضارة إلاّ به، فهو مصدر الإبداع، ومن ثم يمكن الجزم بأن العقل هو مصدر التطوير، وكل الحضارات كانت نتيجة وثمر لهذا العقل الجبّار، وربما لم يتبين دوره في أي حضارة كما تبين في «الحضارة الإسلامية»، فهو الذي أقامها وأعلى بنيانها وأشاد أركانها، وللعقل في المعتقد الاسلامي دور طلائعي وريادي، وفي «القرآن الكريم» تكريم له وإشادة به ودعوة للاعتماد عليه، ومن هنا نفهم بوضوح أن الحضارة لم تنشأ في القصور السياسية، وإنما نشأت في المساجد التعليمية، وعلى يد «علم الكلام» بالتحديد.

وفي جانب من المحاضرة ألمحت إلى تأثير الحالة الطائفية في تزيف التاريخ، مسترجعاً بعض ما تحدثت عنه في مقال سابق جناية السياسة على التاريخ وكيف عملت على مسخ المفاهيم الدينية والتاريخية لخدمتها.

فدور العقل إذن حاضر في بناء الحضارة الإسلامية حضوراً بارزاً، وعندما تغلب عليه «الفقه» وغيّبه، غابت الحضارة؛ لأن «الفقه» لا يحمل في نفسه عوامل إبداع، وإنما يحمل خصائص تنظيم شؤن اجتماعية، ويهتم بتنظيم «إرث وزواج وروابط».. الخ، تشكل القاعدة الأرضية لقيام حضارة، لكن لما نَحّى «الفقه» دور «العقل» من مكانه فإنه في الوقت نفسه أنهى «الحضارة الإسلامية».


(2)

تناول العلامة “محمد يحيى عزان” في مقاله: «مراجعات في مجال الإصلاح الديني» موضوع الإصلاح الديني بقلم صنّاع، يحمل – كما عودنا وتعودنا – طرحاً جديداً، لم يستعرض أفكاراً قديمة لوّنها بزخرف من القول وبألفاظ جميلة، وإنما أضاف جديداً، فهو هنا يعرض موضوع جدلية الإصلاح الديني قديم المتجدد الذي خاض فيه السابقون كما اللاحقون وتشكلت بموجبها: مدرستان: «مدرسة العقل» و«مدرسة النقل»، ولكل منهما منهجه وأسلوبه ولكل منهما فريق يدعم رأيه، وكل يخطّئ الأخر، لكن العلامة «عزان» جاء فاعتبر أن تلك الثنائية ليست دقيقة، ومضى في مقاله القيم والممتع يشرح رأيه بوثوق المطمئن، وينتهي بعد بحث متعمق إلى أن «تحليل النص الديني الذي يمكن نسبته إلى الله من خلال الوحي أو من خلال ما ورد عن الرسل يأتي – في الجملة – لأحد غرضين: إما الحديث عن القيم الكبرى مثل: حفظ الحياة، وصيانة الحقوق، والأمر بالعدل والإحسان.. الخ. وإما بيان كيفيات العمل التطبيقي لتحقيق الفكرة، كإجراءات التوثيق والمعاملات لحفظ الحقوق، وتشريع القوانين التي تكون مرجعية لما يحقق العدالة، وتشريع طقوس عبادية للتعبير عن الإيمان بالإله الواحد». معتبرا أن تلك الكيفيات ليست مُقَدسة بعينها أو مقصودة بذاتها، ولكنها شكل من أشكال التطبيق التي تختلف صلاحيتها وجدواها من زمان إلى زمان ومن شخص لآخر ومن وضع لسواه.

وفي آخر مقاله لفتَ إلى أن ثمة معيقات لعملية التجديد والإصلاح وأن منها: «عدم وجود مؤسسات مؤهلة تتولى عملية التجديد والإصلاح بشكل مستمر ومنتظم، على أن تكون متمكنة ومفوضة ومتنوعة بحيث يشارك فيها المتنورون من مختلف المدارس الدينية وغيرهم من ذي الاختصاص كل في مجال تخصصه، كالصحة والمال وعلم النفس والبيئة وكل ما له مدخل في التشريعات والاحكام وبيان العلل والأسباب وآثار النفع والضر».


(3)

قدم الأستاذ «عبد الله القيسي» لهذا العدد بحثاً عن «ركائز العلمانية من منظور قرآني» وأشهد أن المقال مفيد وخصب وأنه قام على البحث الموضوعي. بَيد أني شخصياً كنت أتمنى لأن يسميه «ركائز السكيولارية من منظور قرآني» لأن ترجمة «السكيولارية» بالعلمانية ترجمة غير دقيقة وكائدة، ولا تُعبر بصلة عن مضمون «السكيولارية»، وتسميتها باسمها أجدى وأصح وأكثر فهماً وأوسع نفعاً، وكما لم تترجم «الديمقراطية» و«الليبرالية» وأخذتا باسميهما، فكذلك يكون الأمر مع «السكيولارية».

فقد تمكن الناس من معرفتهما كما هما وتعاملوا معهما بشكل أدق من تعاملهم مع ترجمتها الخاطئة، ولولا هذا الاستبقاء لجرتهما الترجمة الخاطئة إلى أماكن أخرى، وأبعدتهما عن فهم مضمونيهما الحقيقيين، وباحتفاظها باسمها شقّتا لنفسيها ومضامينهما طريقهما نحو التعبير عما يحملان من قيم ومعاني.

أما ترجمة «السكيولارية» بـ «العلمانية» فقد تاهت معانيها في أودية «العلم» و«العولمة» فضاعت الفائدة، وهي لا تقرب من مضمون «السكيولارية» ولا حقيقتها لا من قريب ولا بعيد.

وفي البحث لخص الأستاذ «القيسي» تعريف «السكيولارية» أنها: تقوم على ركائز ثلاث: 1.استقلال مؤسسات الدولة عن السلطة الدينية. (عدم تسلط أي مذهب على الدولة). 2.حرية المعتقد. (حرية الضمير والعبادة والدين والعقيدة لكل فرد). 3. حياد الدولة تجاه المعتقدات. (المساواة في الحقوق بين المذاهب والمعتقد أو المواطنة المتساوية).

 وبالنظر الى هذا التعريف نجد أنها لا تخالف ما ورد في «القرآن» في شيء، ولكنها تخالف «المسلمين» في كل شيء، فـ «القرآن» لا يفرض على غير المسلم حكمه وأحكامه، وهو للمسلم كـ «السكيولارية» للسكيولاري، كل له معتقده، وكما أن السكيولاري لا يسمح بفرض «الديني» عليه، فـ «الديني» لا يسمح بفرضها عليه إذ ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ و﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، لأن السكيولارية الفرنسية مثلاً تحولت الى دين متطرف.

أما أنها لا تسمح بتسلط أي «مذهب» على الدولة، فـ «الإسلام» يرفض هذا النمط، لأنه نوع من فرض الحكم والتحكم وأي فرض قسري غير مقبول في الإسلام، ثم إن حكم «المذهب» لا يعكس طبيعة «الإسلام» بالمطلق، وإنما يعكس مفهوم جزئياً من فهم للإسلام يحتمل الخطأ والصواب، ومن ثم فلا يقال فيه: إنه حكم إسلام، وإنما حكم مذهب.

ولقد بذل الأستاذ “القيسي” كل جهد، وأحاط بالموضوع من كل أطرافه وبحث بحث الطالب للحقيقة الساعي اليها ببصر وبصير.


(4)

 وفي المقال الرابع نصل إلى فن من فنون المعرفة، لم يعط حقه من البحث مع أهميته وجدارته، وأقصد بذلك موضوع «الإجازات» بمعناها العلمي والتوثيقي؛ فـ «الإجازة» – بمعنى من معانيها – هي ما يسمى اليوم بـ «الشهادة العلمية»، وبمعنى آخر السماح للمستجيز (التلميذ) برواية الكتب التي قرأها على المجيز (الأستاذ)، وبجانب الإجازة توجد الرواية التوثيقية، وهما متلازمان في تراثنا لا ينفصلان، وأعني به ما يرويه تلميذ مّا قرأ كتاباً مّا على شيخه وشيخه رواه عن شيخه حتى تصل الرواية إلى مؤلف الكتاب، ولست أرى – بعد هذه الرواية – توثيقاً أدق من هذا التوثيق.

حول هذا الموضوع غير المطروق تقدم الأستاذ «عادل بن محمد الحميري» بمقال ممتاز عن «الإجازات العلمية في مكتبة آل الورد»، التي حوت (480) عنواناً في مختلف الفنون. ولخص طريقته بقوله: «في هذه الدراسة تناولت الموضوع في قسمين: الأول للسماع، والثاني للإجازة. وختمت باستنتاجات توصلتُ إليها من خلال هذه الدراسة وتوصيات آمل أن يقف عليها الباحثون والمهتمون بالتراث الإنساني بشكل عام».

وكان في تناوله في هذا البحث رائداَ، وأعتقد أنه سيكون رائد هذا البحث لو والى الكتابة عنها بهذه الروح العلمية الدؤوبة.

وللمكاتب اليمنية حديث يطول أهم ما يقال فيها أنها كانت بمثابة “المكتبات الوطنية” في هذا العصر، وأنها أدّت أدواراً رائدة في مجال “الفكر” و “الفقه”، قبل أن تتراجع هي و”الهجر العلمية” الى الظل المجدوب، فيخفت إشعاع ويغمض نور.


(5)

وتختم «مجلة المسار» أوراق عددها الواحد والخمسين بـ «الوثائق البريطانية لعام 1905» (الموافق من 24شوال 1322 إلى 4 القعدة 1323ه). وهي تشمل فترة خمسة أشهر من عهد المنصور “محمد بن يحيى حميد الدين” الذي (توفى ليلة الخميس 19 ربيع الأول 1322ه/2يونيو 1904م) وسبعة أشهر من عهد ابنه الإمام “يحيى” الذي بويع (يوم الجمعة 20 ربيع الأول 1322ه/3 يونيو1904م).

وهي فترة حافلة بالأحداث والمتغيرات نقرأ فيها ما ليس مسجلاً في كتب التواريخ اليمنية، فتتسع أمامنا مساحة الرؤية والعبرة معا، خصوصاً وأنها توثق الزمان والمكان والأشخاص والجهات بشكل دقيق.


(6)

وأخيراً تُوِّج هذا العدد بفهرس لجميع أعداد المسار الواحدة والخمسين، من إعداد مدير التحرير، الذي قدمه بعرضين:

العرض الأول: حسب تاريخ صدور الأعداد، وترتيب المقالات في كل عدد، مع الإشارة إلى الاعداد التي صدرت كعددين في مجلد واحد.

العرض الثاني: حسب الكتَّاب وأصحاب المقالات، مرتباً ذلك حسب الإكثار. ووضع من ليس لهم سوى مقال واحد في قائمة واحدة مرتبة حسب تسلسل الأعداد التي كتبوا فيها.

ونعد القراء الكرام أننا سنعمل في العام القادم على تطوير المجلة شكلا ومضموناً لتواكب حركة الحياة وتؤدي دورها في تصحيح المسار العام في الفكر الإنساني.

رئيس التحرير