تدخل «مجلة المسار» الفكرية عددها الخمسين متينة الخُطى، واضحة الهدف، ثابتة على المبدأ؛ لم تغيرها الأحداث العدوانية الخارجية، ولا الانشقاقات الداخلية، عما أعدَّت نفسها له، وسعت من أجله، وعَمِلت على تحقيقه، ضمن رؤية أوضاعٍ مبنيةٍ على خلل، وتَعْرف أن المساق التاريخي الفردي واصل جنونه بدفع قوي من منابعه الدموية، وتَعْرف أنه إذا ما بقي بتركيبته هذه فسوف يظل سيفاً دامياً، ورمحاً قاتلاً، يواصل مهمة الذبح والجَزْر، وشرب الدم، وأكل الجثث القتيلة، وما لم يعد العقل الغائب والمغيب إلى دور القائد، فإن الغاب سيظل يغلي بغرائزه الوحشية.
لهذا كله تعتقد «مجلة المسار» أن عليها تطهير النّفس السياسية العميقة من آثامها وتجفيف منابع الانحراف الديني، والفقه السياسي التضليلي، اللذان هما من أهم المصادر التي تثير العنف وتنتج الصراعات وحب القتل، والتلذذ باستباحة كل محرم.. وهي لهذا تحاول كشف نوازع الشر بغية اتقائه، وتطهير النفس من التديين المضل والمضلل، وتنظيفها من الفقه السياسي الخادع، إلى أن يتبين الناس ماذا يكنون في أنفسهم من فجائع.
ضَمّ هذا العدد عدة أبحاث تعالج قضايا بعض الأضرار التي لحقت بالدين، ولحقت بالسياسة، ولحقت بالسلوك الاجتماعي.
1
يحاول المقال الأول – : «جناية السياسة على التاريخ (نظام الملك الطوسي نموذجاً)» – الكشف عن جانب من جوانب بناء مداميك الانحراف الديني، وتسخير التاريخ لصالح السياسة الطاغية التي أصبحت وكأنها قدر مقدور وإرادة ربانية، تقبلتها أكثرية الأمة بفعل التكرار المستمر بقبول وبَيِلٍ، ومن ثم فإن فهم التاريخ علي حقيقته، وإزالة التزيِيف منه، يُسَهّل الطريق لفهم ما حصل بشكل أفضل؛ إذ ليس عندي شك في أن الانحراف الديني، واستغلاله لصالح الطغاة كان ورائه تزييفُ تاريخ ظالم، وتفسيرات فقه سياسي مُريب، وكان هذا السببان – ضمن عوامل ثانوية – هما من ألحق الضرر بالدين وحضارته وتاريخه، وتكفل هذا المقال بتوضيح جانب من استغلال التاريخ لتعميق مَرَادم الطّغيان.
2
فإذا خرجنا من تفكيك التاريخ المُريب إلى تفكيك “المُعتقد المعقد” فإننا نجد العلامة الكبير “محمد يحيى عزان” يعالج في مقاله الممتاز «”السُّـنـة”.. من مُصطلح شرعي إلى مذهب ديني» هذه المعضلة الشائكة التي قسّمت الجسد الإسلامي إلى قسمين مشلولين، حيث بقي كل نصف منهما «لا حي فيرجى، ولا ميت فيُنعى»! فجاء هذا العلامة المنصف بها خبراً، وسلط على كل زاوية أضواءه الكاشفة، فمن «السنة المصطلح»، إلى «السنة المذهب»، إلى «أهل السنة في مقابل أهل العقل»، إلى «أهل السنة في مقابل الشيعة»، إلى «الخلط بين السنة المرجعية والسنة المذهب»، فأثرى الموضوع وأغدق السقي وزرع نَبتاً جديداً طرياً.
وقد سبق لشيخنا الجليل أن عالج بقلمه الرصين معظم المشاكل التي سبَّبت الانشقاقات، فعالجها معالجة من «طَبَّ لمن حَبّ»، وقد أثرى الفكر بالكثير من أبحاثه في «مجلة المسار» وغيرها، وعالج قضايا شائكة وغائمة كـ «حديث افتراق الأمة»، و«الصحابة عند الزيدية» و«عرض الحديث على القرآن» و«فدك»، و«قرشية الخلافة»، و«القتل والقتال في القرآن» و«حديث الثقلين في دائرة التجاذبات»، و«رواية الحديث النبوي – الحجية والدلالة» و «أهل البيت- المصطلح والمرجعية».
وأنت إذا ما ألقيت نظرة على هذه الأبحاث، يرجع إليك البصر مزوداً بعلم مفيد، ودَفْق من الإخاء نَمِير.
3
فإذا عدنا من الأفق الإسلامي الغائم، إلى الأفق المحلي المُثقل بهواجسه الضارة، نجد أن “اليمن الحديث” قد امتص من طعم التمذهب المتطرف كمية كافية، ليغرق في مستنقعاته الآسنة، وفي ذلك السياق يأتي مقال الدكتور زيد الفضيل عن «بنية الخطاب الطائفي في اليمن الجمهوري».
علماً بأن ما أسميه بـ “التمذهبية” يسميه الدكتور بـ “الطائفية”، ولعل الدكتور أراد أن يتحدث بمصطلح يتداوله الناس ليفهموا ما يريده مباشرة، والبلاغة: مطابقة مقتضى الحال. وقد اعتاد المثقفون اليمنيون استخدام الطائفية بدلا من المذهبية.
قدم دكتورنا الواثق والمُوثِّق بحثاً جريئاً صريحاً قائماً على مداميك موثقة، وقد يختلف الناس حول ما أورده – وهذه طبيعة الأبحاث الجادة والجديدة – لكن هذا هو ما يجب على كل باحث أن يعالج قضية حسّاسة وسامة بوضوح وجرأة بُغية تشخيصها، ثم معالجتها، ولا يمكن معالجتها بدون الإقرار بها وتشخيصها، ثم إزالة أضرارها، أما إبقائها مطوية على جراحها فاحتفاظ بالمرض القاتل يواصل مهمته الهدامة.
قد يجد المخالف وجهة نظر أخرى، و«المسار» على استعداد لنشره؛ لأن ما قصده الدكتور هو طرح هذه المعضلة للنقاش ولا يستهدف غيرها، وقد حدد هدف بحثه بقوله: «لا أستهدف من هذه الورقة تكريس أي منحى عنصري أو طائفي، بقدر ما أريد تسليط الضوء على جانب من إشكال اليمن السياسي خلال المرحلة المعاشة، مع الإيمان بأن النظام الجمهوري بصيغته المدنية الديمقراطية العادلة الذي يكفل الحقوق هو الخيار، ويحقق السلام المجتمعي، وفق معيار الكفاءة العلمية والجدارة الوظيفية الأمثل لبناء وطن يعيش في كنفه الجميع بأمن وأمان».
وعليه فالدكتور قد عالج بصدق وإخلاص قضية تزداد تجذراً، إن لم تعالج فسيكون وقودها – وقد بدأ – جثثا وهامات.
4
ونخرج من المحيط المذهبي السياسي اليمني إلى المحيط العلمي اليمني فنجد الأستاذ الأديب الباحث “محمد عبد السلام منصور” ينقلنا من عالم الضغائن المحتدمة، إلى أجواء الفكر الصافي حيث يقدم لنا بحثاً متميزاً عن «منهج الإمام ابن المرتضى في علم الكلام» فيكشف عن آفاق هذا الإمام المجتهد المحلق بأجنحة طوال، والمعروف أن هذا الإمام من القلائل الذين يملكون عقلية علمية زيدية معتزلية، ربَّته سيدةٌ زيدية معتزلية عالمة مجتهدة، لها المؤلفات الشهيرة، فربّته ووجهته واحتضنته منذ صغره نحو الأفاق العلمية، وكانت هذه السيدة هي أخته السيدة «دهماء بنت المرتضى» (1 القعدة 837ه/9 يونيو1434م) فأحسنت تربيته، فأثمر ثمراً خصباً في كل الحقول.
وعن جانب من هذا الثمر تولى الأستاذ الباحث الكشف عنه، وأحاط به إحاطة عِلمية موفقة، وأتفق معه حول ملاحظته الثالثة التي تتعلق بإطلاق اسم «فرقة» على كل من “تيار المعتزلة”، و “تيار الزيدية” فهذه التسمية عنده لا توافق محتواها، «ففي رأيي أن هذه التسمية تفتقر إلى الدقة، وأميل إلى إطلاق اسم “التيار” أو “المدرسة” على كل منهما»، ومضى يدعم ما توصل إليه بمنطق كما ستقرأه في بحثه القيم، وإذا كان لي الاختيار فأنا أفضل تسمية “مدرسة”، على تيار؛ لأن التيار يلتصق أكثر بالسياسة بينما اسم المدرسة ينتمي إلى العلوم.
5
ثم نطل مع الدكتور الجزائري “عبد النور آيت بعزيز” في مقاله القيم: «الفضيل الورتلاني-تاريخ حافل بالإصلاح»، ونحن إذ نفعل ذلك فإنما نتطلع إلى هامة شامخة من زعماء الإصلاح الرواد في العالم الإسلامي كله، حيث نجد في “الفضيل” حاملا ليس هموم الأمة العربية فحسب؛ بل كان يحتضن هموم الإسلام والمسلمين في أي بلد إسلامي من “تركيا” حتى “جاكرتا”، وكان فارساً في كل ميدان يجول فيه، مصلحاً في كل بلد يتواجد فيه المسلمون، لا يخاف في الله لومة لائم. وقد أبدع الدكتور بقلمه العلمي الرصين في إبراز معالم هذه الشخصية البارزة.
إن “للفضيل” عليَّ شخصياً فضلَ إخراجي من أزمة اكتئاب أصابتني في فجر شبابي عندما كنت أدرس في معتقل “حجة”، فلسبب لم أعد أذكره أصابتني نوبة اكتئاب شديد، فما كان من استاذي المرحوم “أحمد الشامي” إلا أن قص علي فصولاً من معاناة “الفضيل” ونجاته من الموت مرة ومن السجن أخرى وتشرده في الآفاق ومواجهة إلقاء القبض عليه، وكان يواجه كل تلك بقوة أعصاب، فلم يدخل اليأس إلى قلبه أو يصاب بإحباط، فنظرت إلى حالي حيث لا يطاردني خوف، ولا يلاحقني موت، بينما لم يفقد “الفضيل” في تلك الأجواء المدلهمة أمله، ولم يصبه إحباط ولا اكتئاب، فكان ما قصه أستاذي عليّ كماء بارد سكبه على قيض اكتئابي فنِشطت من عقال.
كانت سيرة السيد “الفضيل الورتلاني” قدوة توقظ في المحبَطين جذوة الأمل وتبعثهم من مَوَات.
6
ونسترح مع الأستاذ الأديب – سليل العلماء الأدباء – محمد عبد الله الوريث أنفاساً عاطرة تهب من خميلة «شاعر النغم الصافي عبد الرحمن محمد قاضي»، فتعطر الأجواء، وتشيع الرضا في النفس المتوترة، وفي هذه الظلال الندية نصغي إلى نغمات عذبة حانية، تخفف وقدة الأبحاث العلمية الجافة ، وتريح النفس الحزينة في ظروفها المرعبة، وتسكُب في آذاننا – التي ألفت أصوات القنابل الظالمة المدوية – نغمات الحب وألحان العناء؛ لتشعرنا بأن سمفونية الحياة لن تتوقف، وأن الفكر أبقى من قوة الصواريخ، وأخلد من قوة الطغيان، ومن هنا فإن المقال «النغم الصافي» هو في الوقت نفسه رمز للمستقبل الصافي، وكما تحمل الرواية معنى ما لقضية ما، فإن النغم دائما يحمل الأمل للنفس اليائسة، ويخرجها من الضيق إلى الرحاب الفسيحة.
ولا أشك أن القراء سوف يستمتعون بسماع تلك النّغمات كما استمعتُ، وأن الأمل سيتابع خطاه في درب التصميم، حتى يصل إلى أهدافه.
7
ويختم العدد 50 أوراقه بـ “الوثائق البريطانية لعام 1905م” أي عام 1322ه الذي توفي فيه الإمام المنصور “محمد” وبويع الإمام المتوكل “يحيى حميد الدين”، وحول هذا الظرف تدور أخبار الوثائق، بوقائع غير موجودة في التواريخ اليمنية، وتعتبر إضافة جديدة لدارسي تلك الفترة.
ولقارئ “المسار” من “المسار” كل التقدير.
رئيس التحرير