رحل “جمال البنا” فرحل معه الفكر الحر، ورحلت معه الشجاعة العقلية، وخلت الساحة من فارس باسل، عزَّ له النظير. لقد ترجَّل “جمال”عن فرسه بعد نضال طويل، وأغمد قلمه، وتوارى عن الناس في جدثه المنير، ولكن صَدى قلمه القاصف سوف يظل زمنًا طويلًا يضيئ – بأفكاره الإصلاحية، وآرائه الجريئة الصادمة- مناخًا تكتنفه السحب السوداء، وتخيم عليه العتمة المظلمة، وسيظل يواصل شعاعه حتى يضيء الآفاق المغلقة بنور ربه وعقله. وأنا على يقين أن دعواته المبرورة، ونداءه المشكور ستشكل أفقًا متميزًا واسعًا سيظل يتوسع حتى يشكل مساحات واسعة. لقد فتح بابًا لن يغلق.

عرفته منذ زمن فعرفت العقل الحر، والفكر العميق، والأدب الجم، والوفاء المحض، وبالرغم من مخالفته لكثير من المألوف واقتحامه المعابد المحرمة ودخوله في حوار مع الكثيرين، لم تنُدُّ عنه كلمة غليظة، أو يُشمُّ من كلامه قسوة التعبير، أو عنف المنطق، بل كانت كلماته تنساب انسياب الجدول الصافي، والنسيم العاطر، كان يناقش بكلمات فيها صرامة، وفيها وضوح، وفيها أدب جم، لا يستفزه خصم، ولا يغضبه معاند، فهو هادئ هدوء اليقين، واثق بما يرى، واثق بما يعتقد، على يقين مما يؤمن به، تتغنى الكلمات في فمه بأجمل العبارات.

نفض عن عينيه غبار التقليد؛ فقرأ “الحديث” باحثًا، وقرأ “الفقه” منقبًا، وخرج على الناس بخلاصة ما بحث ونقب، فشكلت أراؤه الفاحصة صدمة لقبيلة إنا وجدنا آباءنا عليها عاطفين وعاكفين، وهزت العقلية الراكدة فساقطت أوراقها الذابلة، وأوجد التربة الصالحة لقبول زرع جديد، أو قل استخرج “النبت النبوي” من جديد، فعرضه على الناس باقات نضيرة، ليستروحوا ما بها من أريج ومن فوح، بعد أن غابت عنهم طويلًا.

يتميز “جمال البنا”عن غيره بأنه لم يكتف بأخذ علومه من محيطه الخاص، لا من أبيه العلامة الكبير ولا من أخيه الإمام المرشد، ولم يدرس في حلقات المساجد، وكراسي الجامعات، بل اعتمد – مثل الأستاذ الكبير “محمود عباس العقاد”- على جهده الدؤوب، ومنذ أن ترك”المدرسة الثانوية” إلى أن أغمضها، والكتاب بين يديه، أنيسه وجليسه. تصفه “نخلة الشهال” التي التقته مرارًا في “باريس”: (كان قارئا نهمًا للأدب العالمي، وتبحر في الفكر الغربي قديمه وحديثه، من الميثولوجيا والفلسفة اليونانيتين وحتى الماركسية مترجـمًا ومناقـشًا وناقـدًا، وهو اطلع على الحركة النسوية العالمية)([1]).

بهذه العدة والعتاد هبط إلى الناس يتحسس أوجاعهم وعللهم وأمراضهم، فعرف من خلال تعامله مع قضايا”العمال” والمستضعفين مشاكلهم وقضاياهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتعرف على طبيعة المظالم النازلة بهم وأسبابها؛ فانبرى للدفاع عنهم، وعمل على صيانة حقوقهم، ونشط في هذا المجال نشاطًا خلّاقًا، فألَّف عشرات الكتب في هذا المجال، وأمده فهمه الواضح للإسلام النقي بفيض من الحجج والوقائع والبينات للدفاع عن المظلومين، وعرف أن استخدام الدين العظيم لصالح الحكام والأغنياء أحد أسباب هذه المظالم، فغاص في التاريخ وخرج منه بيقين تاريخي.

منذ أن ألَّف كتابه الأول “في الطريق إلى المجد” سنة1364هـ/ 1945م، إلى أن أكمل كتابه المائة والخمسين وهو لا يكل عن العطاء الجديد. وفي استعراض سريع لحياته تطالعنا لوحة رائعة الألوان والخطوط بديعة التصوير، ونحن هنا لن نحصي في هذا المقال النائح الباكي كل كتبه، ولكن لابد من الإشارة إلى بعضها وخاصة كتبه الصاعقة التي ألوت بكثير من الأفكار التقليدية، وبكثير من التقليديين، والتي اعتبرها هؤلاء مخالفة لما ألفوه واعتادوا عليه، وظنوا أنه بها يخرج على “إجماع الأمة” فاشتطوا في عدائهم له، ودخلوا معه في جدل عاصف، وتطوع بعضهم فاستعدى السلطات المصرية لمعاقبته، ومنعه من الظهور إعلاميًّا، وحظر أحاديثه وكتاباته وحوكمت بعض كتبه.

*

ولد “جمال البنا” في”المحمودية” من أعمال “محافظة البحيرة”في2 ربيع الثاني 1339هـ/ 15ديسمبر1920م وبدأ دراسته الابتدائية، وعندما كان في المدرسة الخديوية الثانوية تشاجر مع أستاذه الإنكليزي في اللغة الإنجليزية، فترك الدراسة الرسمية واعتمد في دراسته على وسائله الخاصة

في عام 1364هـ/ 1945م أصدر كتابه الأول في طريق المجد وهو عن الإصلاح الاجتماعي، وفي العام التالى 1364هـ/1946م أصدر كتابه “ديمقراطية جديدة” وتضمن فصلًا بعنوان “فهم جديد للقرآن” استعرض فيه فكرة المصلحة كما قدمها الإمام “الطوفي”، وانتقد الموجة الحماسية لدى بعض الدوائر بفعل نجاح دعوة الإخوان المسلمين. وفي عام 72-1373هـ/ 1952م أصدر “مسؤولية الانحلال بين الشعوب والقادة كما يوضحها القرآن الكريم”.

في 23 يوليو سنة 1952م قامت حركة الجيش في”مصر” بقيادة اللواء “محمد نجيب”فكتب الأستاذ “جمال البنا” كتابه “ترشيد النهضة” وارتأى فيه أن الحركة انقلاب عسكري وليس ثورة ، فأغضبت الرقيب فصادر الكتاب وكل ملازمه المطبوعة، فتأكد له أن الحركة ذات طابع ديكتاتوري.

اهتم بـ “الحركة النقابية”، فأصدر وترجم الكثير من الكتب والمراجع التي نشرتها منظمة العمل الدولية بـ”جنيف” و”الجامعة العمالية” بـ “مدينة نصر” و”الدار القومية”، كما حاضر بصفة منتظمة في”معهد الدراسات النقابية” منذ أن تأسست سنة 82-1383هـ/ 1963م.

في السبعينيات بدأ الأستاذ “جمال البنا” كتاباته الإسلامية المثيرة وكان أولها “روح الإســـلام” و”الأصــلان العظيمان:الكتاب والسُنة”، وعددًا آخر من الكتب لا يتسع المجال لها ولكن لابد من الإشارة إلى أنه ابتداء من1412هـ/ 1990م قام بإصدار كتابه الجامع “نحو فقه جديد” في ثلاثة أجزاء الذى دعا فيه إلى إبداع فقه جديد يختلف عن الفقه القديم ، ولا يلتزم ضرورة بالتفسيرات ، أو علوم الحديث … إلخ ، أو أصول الفقه ، وصدر الجزء الثالث عام20-1421هـ/ 1999م. وقد أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة ودعا بعضهم لمصادرته ، فرد عليهم جمال البنا عام21-1422هـ/ 2000م بإعلان تأسيس “دعـوة الإحياء الإسلامي” التي ضمنها خلاصة أفكاره الإسلامية والسياسية والثقافية والاجتماعية.

من كتبه الصاعقة “الإسلام دين وأمّة وليس ديـنًا ودولة” و”جناية قبيلة حدثنا” الذي تطرق عن تاريخ رواية وجمع الأحاديث النبوية والظروف السياسية والتاريخية وأصبح التشكيك في بعض الأحاديث أو معظم الأحاديث تهمة كما يقول في مقدمته: (أصبحت مثل عداء السامية سلاحًا يشهره أصحابه على الذين يخالفونهم دون تمييز، ونوعًا من الإرهاب الفكري له حصانته)، وأشار إلى أن كتابه لا يمس الحديث أيـضًا، وإنما يناقش ” فئة نصبت نفسها لتجميع الأحاديث ونسبتها إلى الرسول”. ويسوق البنا دلائل وأحاديث في النهى عن الإكثار من رواية الحديث عن الرسول الأعظم، و يروى أن “أبا بكر الصديق” جمع الناس بعد وفاة الرسول وقال لهم: «إنكم تحدثون عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافًا، فلا تحدثوا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه».

وينتهي بحثه إلى القول إلى أن للأحاديث التي قدمتها قبيلة «حدثنا» أثرًا سيئًا على المجتمع، فحسب الكاتب أنه ليس من المبالغة أن نقول إنها «خرَّبت» المجتمع الإسلامي وأخَّرت تقدمه، وذلك بما قدمته من أحاديث تفسد الفكر وتفسد الحكم وتفسد المجتمع. وذكر المؤلف على سبيل المثال حديث «الأئمة من قريش» الذي حصر الخلافة في قريش، وحديث «لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» الذي استبعد وجود المرأة في العمل العام، وقضى عليها بأن تحبس داخل جدران منزلها حسب قول جمال البنا، وأن راوي هذا الحديث اتهم بالقذف، وأوقع عليه “عمر بن الخطاب حده”، ورفض التوبة.وحديث «من بدل دينه فاقتلوه«، وهو الحديث الذي رفضه الإمام “مسلم”، فالمسلم المعاصر، كما يراه “جمال البنا”، مسلم منهك بتلك الشروط، حيث جنت “قبيلة حدثنا” على المجتمع الإسلامي:«”وصاغت صورة المسلم النمطي الذي يسير مطرقًا منكسرًا حتى إنه لا يتهم بخيلاء، ولا ينظر إلى نساء، وملأت حياته بأنواع من الدعاء، وصنوف العبادات والقربات من صلاة وصيام، حتى لم يُبقوا في يومه فراغًا لعمل أو ثقافة أو معرفة أو مهارة”.»([2])

وفي سنة 73-1374هـ/ 1993م انتقد التنظيم النقابي القائم، فخرج من المعهد، وكان آخر كتبه النقابية هو ترجمة كتاب “المعارضة العمالية في عهد لينين”لمدام “كولونتاي”.وأضاف عليه تعليقاته الخاصة.

لم يكتف بالتوجيه النظري، وانتقل التطبيق فأسس عام 73-1374هـ/ 1953م”الجمعية المصرية لرعاية المسجونين”، وحققت الجمعية ثورة في إصلاح السجون ، وأدت إلى مجابهة بينه وبين السلطات.

وفي سنة 02-1403هـ/ 1981م أسس “الاتحاد الإسلامي الدولي” للعمل، وكانت “منظمة العمـل الدولية” قد استعانت به في عـدد من الترجمات، كما استعانت “منظمة العمل العربية” به كخبير استشاري. وبحكم هذه الصفات نظم شبكة من العلاقات بقيادات اتحادات ونقابات في كثير من الدول الإسلامية. وفي نفس العام دعا معظم النقابات والاتحادات للاجتماع في”جنيف” خلال انعقاد مؤتمر العمل الدولي بها، وفي هذا الاجتماع تأسس “الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل” من مندوبي اتحادات عمالية في”الأردن” و”المغرب” و”باكستان” و”السودان” و”بنجلاديش” .وللاتحاد مكتب في”كوالامبور” وآخر في”الرباط”.

في عام08-1409 هـ/1987م توفيت زوجته الفاضلة، ولم تنجب له، ومع ذلك لم يتزوج بعدها وفاء لذكراها حتى لحق بها، وكان دائم الذكر لها يحدث زواره عنها بطريقة مؤثرة([3]).

في سنة 18- 1419هـ/1997 أسس بالمشاركة مع شقيقته السيدة فوزية “مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي”، حيث تبرعت شقيقته بقرابة نصف مليون جنيه للمؤسسة مكنها أن تؤدي دورها في غنى عن السؤال([4]). وقد حول شقته إلى مكتبة تحمل اسم المؤسسة، وتضم المكتبة قرابة خمسة عشر ألف كتاب عربي، وثلاثة آلاف باللغة الإنجليزية، كما تضم مكتبة والد الأستاذ جمال وشقيقه الأستاذ عبد الرحمن، والكثير من تراث آل البنا، والأصول الخطية لكتب الشيخ البنا، وأوراق خطية للإمام الشهيد حسن البنا ، والكثير من وثائق الإخوان المسلمين، فضلًا عن جذاذات من الصحف ، ومسودات وأصول كتب للشيخ “أحمد عبد الرحمن البنا” ولـ”جمال البنا” .

*

عاش بين “العمال”، ومات في “المزارعين”، مصادفة- إن كانت هناك مصادفات- تختزل حياة “جمال البناء”، التي عاش من أجلهما مناضلًا ويفتح لمجتمعه صفحات في تاريخهم لم يألفوها فتنير المكامن والمكائد، وكان من المفروض أن تلجم شيخوخة اندفاعه الكاسح بحكم عامل السن، ولكنه على العكس من ذلك كان تيارًا يرتفع موجه كلما كبر سنه، وذلك معلم من معالم إيمانه القوي برسالته، وظل طيلة عمره المديد يقدم لهم زادًا جديدًا حتى سقط الجناح المحلق وقد أوفى على الثالثة والتسعين من عمره المبارك وسقط وهو في عالي سماه كما تسقط كرام الطيور.

كان “جمال البناء” نشيد القمم، يطرب له الذوق السليم، وينكره الذوق الكسيح، ولا يسمع نغماته ساكنو السفوح، ولا مهيضو الجناح. وإذا ما سمعوها فعزف مبهم يأتي من بعيد لايكادون يستسيغونه لأنه مخالف لما ألفوا من إيقاع رتيب.

وأنا إذ أبكي “جمال” فإنما أبكي عَلَمًا وقِيمًا وأخلاقًا وسلوكًا لا تتكرر، وأنوح على صداقة نقية لا تعوض، ارتبطنا بها رباطًا وثيقًا، ومضينا في ظلاها أكثر من ثلاثين عامًا يشدّ أواصرها لقاء فكري، واشتراك في الرؤية، وتشابه في الطباع والمواقف، فرحم الله جمال الذي كاسمه رفع بنيانًا للعلم لايتحطم.

* * *

([1]) نهلة الشهال، الإنسان هو الغاية وكل ما عداه وسائل، مقال عنه في الحياة العدد 18202. الأحد 3فبراير 2013م 22 ربيع الأول 1434هـ.
([2]) اعتمدت في هذه المعلومات على موقع ar.wikipedia.org/ wiki/ جمال_البنا.
([3]) نهلة الشهال، الإنسان هو الغاية وكل ما عداه وسائل، مقال عنه في الحياة العدد 18202 . الأحد 3فبراير 2013م 22 ربيع الأول 1434هـ.