حديث الافتراق.. وإشكالية الرقة الناجية

بقلم: أ. زيد بن علي الوزير

كثيرة هي القضايا المعضلات في تاريخ المسلمين التي تدعو الحاجة التاريخية إلى تفكيكها، من أجل إعادة تركيبها على ما كانت عليه، أو قريبًا مما كانت عليه، حتى تستقيم قراءتها على حقيقتها، لا على ما أضيف إليها. أما لو بقيت مقفلة على ما أضيف إليها من أوزار مفتعلة، فستبقى تنفث سمومها على أقلام متوترة، وتظل تغطش ليلها، وتعتم رؤية حقيقتها.

من هذه الوقائع (المعضلات): «حديث افتراق الأمة»، وأحداث «يوم السقيفة»، ووقائع «فدك»، وقد تناول المؤلف العلامة المعضلات الثلاث بنزاهة المنصف، وأمانة العالم؛ فوضع «حديث افتراق الأمة» تحت المجهر، ورفع المتشابهات عن رؤية الزيدية للصحابة يوم السقيفة، وها هو اليوم يعالج الموضوع الثالث؛ «فدك»، بما يملك من رؤية نافذة.

ومن الثابت أنه منذ أن طمّ تشريع التغلب السياسي نتيجة تبرير قيام الدولة الأموية من ناحية، ونشأة المذاهب الدينية من ناحية ثانية، فقد تحول التاريخ إلى مخزون ضخم من الحكايات والإخباريات والتلفيقات، ينفق منه المكر السياسي والتعصب المذهبي على غير استحياء كيفما يشاء، وقائع وأحداثًا لا تمت إلى ما حدث بصلة، وتعمل فيه تشويهًا، أو تضخيمًا، أو تحجيمًا، أو تزيد عليه هنا وتنقص منه هناك.

إن ما حدث يوم السقيفة من حوار ونقاش مقبول ومعقول، قد تحول إلى عداء وخصام ضمن مجموعة من الادعاءات، وما حدث من خلاف في وجهات النظر حول «فدك» قد تحول إلى سهام ونصال، ضمن حزم من التلفيقات، وهكذا أصبحت تلك الادعاءات والتلفيقات والزوائد مواد خصبة للاستغلال؛ حيث مضى المكر السياسي يسقي منها أغراضه، ومضى التعصب المذهبي ينسج منها منواله، بل وأكثر خطرًا؛ فقد تحولت تلك الزوائد والتلفيقات والادعاءات إلى حقائق تُقرأ وتُدرس، وتُبنى عليها نتائج، وتقوم عليها أحكام! ومع أنها قائمة في الأصل على غير أساس؛ لكنها قد أخذت حقائق تم التعامل مع الخطأ على أنه الصواب، ومن هنا استمر المكر السياسي يجني ثماره، واستمر التعصب المذهبي يقوي أسسه، واستمرت الفرقة تمد ظلالها، وعاش الانقسام، ووئد الوئام.

ومنذ فترة مبكرة أيضًا التقط المتمذهبون تلك الزوائد المفتعلة، والمزيّفات المتعمدة؛ فجعلوا منها تاريخًا مكتوبًا، وصحائف منشورة، تعمدت على امتداد تاريخ طويل، وتراكمت وتأكدت كما قلت بفعل سياسات ماكرة، وتمذهب مستعر، والمؤسف حقًّا أنه نُظِر إليها كقضايا مسلم بها، ولم يُنظر إليها كمدخلات طارئة.

وهكذا – وبفعل التمذهب والمكر السياسي – أخرجت تلك الوقائع من أطرها التاريخية إلى أطر مذهبية وسياسية، وأعيدت صياغتها وتركيبها وفق هوى هذا المذهب أو ذاك، أو متطلبات هذا الحكم أو ذاك.

لقد كان هناك خلافات في الرأي يوم السقيفة وخلافات في الرأي حول «فدك» سويت في حينها، ولم تخرج عن وجهات نظر خاطئة وصائبة، لكنها لم تكن بالحدة التي أوصلها التمذهب المستعر والمكر السياسي إلى ما وصلت إليه من تعقيد، وما أفضت إليه من كراهية، وما بثت من سموم.

وحتى الآن لم تُقرأ تلك الأحداث قراءة تاريخية علمية موضوعية فيما أعلم إلا قليلًا، وإذا وجد من يقرأها على ندرته فإنها لم تخل من ميل، ولم تخل من هوى، أو على الأقل من تعاطف، حتى جاء هذا البحث الممتع، وهذا الباحث العليم؛ فقرأها قراءة موفقة، ولم أعرف من سبقه في هذا المنهج بهذا الشكل. لقد كان هناك علماء نهجوا في قراءتها قراءة صحيحة، وفي مقدمتهم الإمام الكبير صالح بن مهدي المقبلي(المتوفى ربيع الأول 1108هـ/ أكتوبر 1696م) في كتابه «العلم الشامخ»، إلَّا أنه – أو غيره – لم يخضعها لبحث متكامل، ولا لدراسة حاوية شاملة، وإنما هي نظرات صائبة نثرها هنا وهناك فحسب، ومن ثم يمكن القول بأن «عزان» قد تصدر لمثل تلك القضايا بما صدر له من «مركز البحوث والتراث اليمني» من كتب وأبحاث، فهو الذي أخرج غبشها من أكنته المظلمة، وفضح تلبيساتها المعقدة، وحاول – جهد طاقته ووسع جهده – أن يقرأها بحروفها، وكلماتها، وألفاظها، وسكناتها، وحركاتها، لا بحروفٍ أضيفت إليها، ولا بكلمات ألحقت بها، ولا بحركات زيدت عليها، ولا بسكنات ابتدعت فيها.

والحق أن قراءة فدك ليست قراءة سهلة، فقد اختلطت فيها الحروف وتشابكت الكلمات، وغرقت تحت خضم زاخر من تفسيرات شتى، صدرت من عدة جهات، تعاضدت وتنافرت، ولكنها استقت معلوماتها من تلك الزوائد والتلفيقات، فعملت على تضخيمها وتكبيرها، وكان على المؤلف – لكي يبلغ هدفه – أن يفكك الكلمات المتشابكة والملتصقة، بل والمتحجرة حتى يَسُلَّ الحقيقة المطوية، وينظف أكنافها من تراب ثقيل.

ثم كان عليه أن يواجه وضعًا أصبح مسلمًا به، فيعمد إلى تفكيكه أمام بصر المتمسكين به والمشفقين عليه. وليس هذا بالأمر السهل ولا الميسور، إنه يشبه دور من يحمل معولًا يدك به بنيان معبد مقدس، يدافع عنه عبدة مخدرون لا يكادون يفقهون قولًا.

ثم كان عليه أن يعيد تركيبه وسط مجتمع لا يرضى بعمله ولا يساعده عليه؛ بل ولا يسمح له ببناء، ومع ذلك فهو ماض في طريقه غير آبه بصوت ناعق، أو إنذار حانق، ومن المسلم به ألا يقدم على هذا العمل إلا من تحلى بالشجاعة الفائقة.

وهو عندما أقدم على هذا المسير كان يعلم أنه يسير في الطريق الوعر والمسالك الخطرة، وهذه هي شجاعة اليقين المستبصر الذي يعرف سلفًا ما سيواجه، وهو يعلم أن الاقتراب من الأماكن التي تعتبر محسومة لا تخلو من مخاطر ومتاعب، إن كان قد جاء إليها ليعمل على فتح توابيتها، ولينظر إلى ما فيها، وليستخرج ما وجد عندها، ثم يعرض ما وجد للفحص والتدقيق، وهو يعرف أن المتاعب آتية لاريب فيها، وأنها ليست منه ببعيد.

وهو لم يختر السفوح السهلة، ولكنه اختار القلاع المغلقة والمحصنة فاقتحمها على جواد من المعرفة، متزودًا بقلم باحث يرتاد ويستكشف، لا يترك شيئًا فيها حتى يضيء جوانبها المعتمة، ولا يغادرها إلَّا وقد كشف عنها غطاءها، وجلاها للناس كما هي عليه. لا يبحث عن خطأ يلصقه بآخر، أو يتطلب دعمًا يقوي به موقفًا معينًا، أو يتزلف به إلى فئة، وإنما يرتاد جوانبها من أجل اكتشافها، ليقدمها للناس على ما هي عليه ليتصرفوا معها وفق رؤية منيرة.

هذا ما قام به المؤلف العلامة في بحث «فدك». لقد قام بدور رائد أخفى نفسه إلَّا قليلًا، وجعل المكتشفات تتكلم عن نفسها: «رأيت أن ألخص ما وقفت عليه من روايات وآراء في هذه المسألة، مع شيء من التصنيف والتعقيب، وقليل من الترجيح والاختيار، في محاولة لتصحيح النظر إلى هذه المسألة، وبيان أن التعصب كان ولا يزال وراء اختلاق كثير من التفاصيل المثيرة للجدل».

لو ألقينا نظرة على «فدك» بعيدة عمَّا خُطط لها ورُسم، لوجدنا أن مأساة فدك الحقيقية لا تكمن فيما جرى بين الزهراء والصديق، فذلك خلاف داخل الإطار، سواء أصاب فيه أبوبكر والقيادة الجماعية أم أخطأوا، فهو في النهاية خلاف عابر؛ إنما المأساة الحقيقية تكمن في مكان آخر وعهد آخر لم ينظر الناس إليه، ولم يحدقوا فيه، بل صرفوا أنظارهم إلى موقع آخر لم تقع فيه أحداثه.

إن المأساة تكمن في تصرف معاوية عندما بدل فيها تبديلًا؛ وصيرها من إنفاق على مصارف أقرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعمل بها الخلفاء الراشدون، إلى ملكية خاصة لبعض أهله، يتوارثونها ملكًا لهم، فقد أقطعها لـمروان بن الحكم، فأورثها أبناءه من بعده.

 روى ابن الأثير: «لما ولي معاوية الخلافة أقطعها مروان بن الحكم، فوهبها مروان ابنيه: عبد الملك، وعبد العزيز، ثم صارت لـعمر بن عبد العزيز، والوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان؛ فلما ولي الوليد الخلافة وهب نصيبه عمر بن عبد العزيز، ثم ولي سليمان الخلافة فوهب نصيبه منها – أيضًا – عمر بن عبد العزيز، فصارت جميعها في حوزته، فلما ولي الخلافة جمع أهله وأعلمهم أمر فدك، وأنه قد ردها إلى ما كانت عليه أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ فولى عليها أولاد فاطمة بنت رسول الله، ثم أُخذت منهم». ومع هذا التحول الخطير فإن الأقلام لم تعرها أهمية، ولم تنظر إليها، ولم تحدق فيها، لترى بشاعة ما حدث. لم تنظر إلى هول ما حدث حيث حرم منها الفقير المستضعف، واستفاد منها الغني المترف. لم تنظر إلى هذا كله، وإنما استبقت نفسها – في بلادة كثيفة – فوق موقع آخر تتناحر فيه!

خضعت فدك للتلاعب السياسي، والفتاوى الفقهية كما لم تخضع أرضية أخرى، ومع أنها رقعة أرض صغيره للغاية، إلا أن أهميتها فاقت أية أرضية أخرى، ليس فقط بما لعبت فيها السياسة والتعصب؛ بل أصبحت ـ أيضًا ـ ميزانًا دقيقًا على تحولات ريح السياسة ومثالًا على طبيعة الحكم نفسه؛ فكانت في أيام الخلافة – كالخلافة – مصرفًا للمسلمين. وأصبحت في العهد الأموي – كالحكم الأموي – احتكارًا لأسرة الحاكم، وكانت في عهد عمر بن عبد العزيز مثالًا لعهده السعيد، ثم تلاشت أهميتها عندما تلاشى الحكم وتقمص أنماطًا أخرى.

ما الذي سيخرج به القارئ من قراءة هذا الكتاب الرائد؟

  • أنا ضمين بأنه سيخرج، وقد اهتزت مقروءا السابقة إن كان من المتعصبين، وشديد الإيمان – إن كان ممن يطلب الحقيقة – بأن كل المشتركين في هذه القضية بيض صفائحهم غرٌ محاجلهم، خاضعون لحكم الشرع، وأنه سيخرج مزودًا بإكبار للزهراء لموقفها الحقيقي، وبإكبار لأبي بكر والقيادة الجماعية، الذين تحملوا من أجل الشريعة موقفًا عاطفيًّا يصعب تحمله.
  • وسيزداد هذا الإكبار عند هذا الفريق الباحث عن الحقيقة إذا انتقل به وبنا هذا المشهد الزاهي إلى مشهد آخر، بدأت تطوف بحواشيه ظلال داكنة، إلى يوم استشهاد الخليفة عمر رضي الله عنه، وعدم إجراء القصاص بقاتل قاتله مراعاة لمشاعر آل عمر؛ فهنا يبدو التزام المشهد الأول بشريعة الله مطبقًا على سيدة نساء العالمين «فاطمة الزهراء» بالرغم من مكانتها في قلوب الصحابة، وأنها فلذة كبد الرسول، وبالرغم من الحزن اللافح الذي يعصر قلبها، فإذا نظرت إلى المشهد الثاني ستجد أن الوهن – نتيجة كيد لوبيٍ ماكر – بدأ يدب في أوصال الحكم والمجتمع. لقد أخلَّ بالحكم الشرعي مراعاة لـ «آل عمر» حتى لا يتضاعف – كما قال قائلهم – بين دم عمر المراق، وبين حزن أهله إذا لم يقتل قاتله. إن المشهد مختلف ينذر بتفكك قريب.
  • ويخرج القارئ وهو شاك – كل الشك – في مرويات ذلك الحدث العابر، بعد أن تمكن المؤلف العلامة بجدارة من إيضاح المبهم، وتجلية الغامض، وتفكيك المتشابك. كما سيخرج القارئ وبيده مفاتيح جديدة للقراءة والإقراء، وسيرى كيف ينقلب السحر على الساحر، ويجد نفسه يقوم بمعادلة سريعة، على ضوء ما روته الشيعة، فيجد النتيجة لصالح أبي بكر والقيادة الجماعية معًا، لأنهم نفذوا أمر رسول الله على بنت رسول الله، ولو جاملوا لتشكك البعض على التزام القيادة بالشريعة، كما تشككوا في صلابة عثمان في المشهد الأخير.
  • لقد وقف أبو بكر ضد مصالح ابنته أيضًا، كما يقول العلامة المؤلف؛ فحرمها إرثها من النبي، بل لقد وقف ضد مصلحته السياسية بإغضابه ابنة الرسول لو كان له غرض شخصي، إذ إنه سيفتقد كثيرًا من مؤيديه، وكان حري به ألا يفعل حتى يجمع الناس حوله، وهو الأضعف عصبية بين عصبيات «قريش»، بل كان هناك من يستنكر – مثل أبي سفيان – أن يكون الخليفة من قبيلة تيم أو قبيلة عدي، وهما الأضعف عصبية، والأقل شأنًا.

لا أراني مختلفًا مع المؤلف في شيء مما جاء في كتابه هذا، إلا أني أحب أن أوضح ما قاله المؤلف من: «أن الولاية على الأموال العامة – المعروفة اليوم بأموال الدولة – موكولة إلى الخليفة، وأنها لا تورث كما هو الحال في الأموال الشخصية الأخرى التي تختلف في طريقة تملكها، ويورثها الآباء للأبناء». فأنا أذهب إلى أن الخليفة – آنذاك – ليس وحده موكولًا على الأموال العامة، وإنما كان هو ومن معه من أولي الأمر موكولين بالقضايا الرئيسة، كما أوضحت هذه القضية في كتابي (الفردية)، وأحسبني بهذا الرأي أعضد رأي المؤلف، من حيث إن هذا الرأي يخلِّص أبا بكر من الاستفراد بهذا الموقف تجاه الأموال والحقوق التي لها علاقة بالنبي الكريم، ويشرك القيادة الجماعية معه في اتخاذه.

وقد مضى أمير المؤمنين عليٌّ على ما مضى عليه أبو بكر وعمر وعثمان، ومعناه أنه رضي بحكمهم، مما يؤيد ما قلناه من أن القيادة الجماعية، هي التي نفذت وصية الرسول، ولو كان علي بن أبي طالب يعتقد أن ظلمًا نزل على فاطمة لغيَّره بكل تأكيد، وأعتقد أن على الشيعة – بكل أجنحتها – أن ترضى بما رضي به أمير المؤمنين عليه السلام.

 

وأخيرًا.. فأنا أعلم ما سيجره هذا الكتاب على المؤلف من غضب، وعلى طابعه من ضيق، لكني أقول لمن سيغضبه هذا الكتاب من المتطرفين من الزيدية والشيعة على السواء إن المؤلف لم يدافع عن الخليفة أبي بكر فقط، وإنما بلور موقف الزهراء على نحو يليق بعظمتها، وبلور موقف أمير المؤمنين – أيضًا – بما ينسجم مع موقف من سمي بحق «صوت العدالة الإنسانية» على حقيقته. ولا يسعني إلا القول بأن المؤلف قد أحسن إلى الزهراء، وأحسن إلى الخليفة، وأحسن إلى أمير المؤمنين، فأحسن الله إليه، كما أحسن إليهم بالبحث الرشيد.

لقد اقتحم عالمنا الكبير – كما قلت – في الماضي بعض تلك المعاقل المحصنة، بكتابات جريئة، وها هو اليوم يقتحم معقلًا آخر، ولا تزال هناك معاقل كثيرة بحاجة إلى اقتحام، وهو لن يكل جناحه، ولن ينضب قلمه، وسنراه عما قريب يتوجه صوب القلاع المحصنة فيعمل فيها ما عمل في سابقاتها، ويعود مكللًا بالانتصار العلمي الجديد.

وأنا أعلم أنه سيتعرض في المستقبل – كما تعرض في الماضي – لهجمات شرسة، ولكني أعلم علم اليقين أنه سيضمن المستقبل، سيضمن التاريخ، وتلك ضريبة الشجعان.

زيد بن علي الوزير

المملكة المتحدة ‑ لندن

 23 ربيع الأول1430هـ/19 مارس2009م