آن لمقلتي أن تدمع، ولقلبي أن يخشع، فقد هوى نجمٌ يُسترشد به، رحل مفكر إنسان، عز له النضير، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى فكره المستنير، وأخلاقه العليا، وسلوكه الفريد. لقد التحق (طاهر جابر العلواني) بربه، مخلفاً وراءه نوراً نهتدي به في متاهات الطريق.
رحل عنا ونحن في زمن يضطرب فيه التطرف والتمذهب اضطراب الموج الثائر، والإعصار المدمر، ولكني لن أقول إلا ما يرضي الله، ولا يعزيني عن فقده إلاّ اليقين بلحاقي به، فعزاءً على مصابه، وصبراً على فراقه.
كنت أوثر أن يقول هو رثائي، لا أن أتولى رثاءه، وأن أسبق رحيله ولكنه سبقني، وعندما بلغني التحاقه بربه أحسست نفس إحساس “شوقي” لما بلغه وفاة صديقه “حافظ إبراهيم” فبكاه قائلا:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي * يا منصف الموتى من الأحياء
وذلك لأنه وأنا خرجنا إلى هذه الأرض في عام واحد هو 1935م، فتخلق من هذا اللقاء شعور واحد بالتوأمية الزمنية، وإنا وإن دخلنا الحياة من بابين مختلفين، هو من باب “الفلوجة” في “العراق” وأنا من باب “جبل صبر” في “اليمن”، لكنا تشاركنا في مصائر متشابه، فمعاً تلقينا العذب المر في وطن المولد، ومعاً عرفنا المنافي، ووحشة الغربة، ومعاً أوينا إلى هذا البلد الأمريكي، ومعاً أسسنا مركزين: فقد أسس عليه الرحمة المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام 1401ه/ 1981م، وأسست مركز التراث والبحوث اليمني عام1420/ 2000م، وقد التحق بربه -نور الله ضريحه- بينما لازلت أخب في الطريق إلى أرض أواري فيه جسدي.
وإذ أقف في محراب العلامة الشهير “طه العلواني” –رضي الله عنه وأرضاه-فلكي أرتل بخشوع آية قصيرة في حقه؛ وإن لم تفه حقاً من حقوقه، ولن تحيط بمجد من أمجاده، ولن ترق إلى قمته العالية، فحقوقه على أمته لا تعد بحق، ولم ولن يكون غيابه غياب إنسان عالم كبير فقط.
وكيف لي أن أعدد شمائله وميزاته في كلمة دامعة، وأحرف نائحة، ووقت قصير، ومع ذلك حسبي هنا أن أتحدث عن منبعين من منابع معارفه المتدفقة.
أستطيع القول بكل ثقة واختصار: أن الراحل الكبير ليس عالم فقه كبير، ولا عالم مذهب كبير، ولا مفسرا للقرآن الكريم كبير فحسب، ولكنه إلى جانب ذلك كله فيلسوف من طراز فريد تفرد من بين الفلاسفة بشيء لم يسبقه فيه الأوائل، إنه بحق فيلسوف متخصص في “رسالة الفكر القرآني الكونية”.