الفكر رسالة خالدة لا تموت ولا تفنى إلا عندما تموت الحياة نفسها، لقد اندثرت إمبراطوريات لكن فكرها بقي يسري فيها وفي أعضاء أمم أخرى. اندثرت الإمبراطورية اليونانية وبقي فكرها طوافاً في العالم، يظهر هنا وهناك إما داعماً أو موقظاً أو مستلهَما، وغابت الإمبراطورية الأموية والعباسية والفاطمية، وبقي فكر الحضارة الإسلامية يشرق هنا أو هناك من الهند وفارس وأوروبا الخ. وكذلك قل في كل فكر حضاري.
وهنا يحسن التنبيه أن الخلط بين ربط ازدهار الحضارة بالوضع السياسي نشأة ومصيراً خطأ واضح، فالقرن الرابع الهجري يعتبر ذروة الحضارة الإسلامية، في حين كان الوضع السياسي في أدنى درجات انهياره، ومن المؤكد أن الفكر الخلاق يحلق فوق كل انهيار، وأنه إذا ما توقف فإنه يعود للانطلاق بأقوى مما كان، وهنا تظهر قوة بقائه، وعدم تأثره بأي ظرف عاصف، إلا كما يتأثر الهواء النقي بهبوب عاصفة رملية ما تلبث أن تصفي نفسها، وتطهر أجواءها مما علق بها. إنها تنقية مستمرة.