يحمل هذا العدد مقالات خصبة ذات نوع مفيد وجديد، كما هي عادة «المسار» في أداء رسالتها العلمية التي دأبت أن تؤديها في هدوء ووقار، لا تخاف في العلم لومة لائم، بخاصة وهي تعيش في ظل حصار شامل، ظن المعتدون أنهم به يسدُّون منافذ الاتصال بالعالم، لينغلق اليمن داخل إطاره، فلا يسمع الناس صدى أنين ضحاياه ولا نواح أرامله، ولا صراخ مرضاه، ولا يصل إليه شيء من عِلم ولا معرفة.
وكأنهم يريدونه أن يظل يقتات من مخلفاتٍ ثقافية جامدة تُبقيه رهين البؤس والتخلف، ولا يتنسم رياح المواسم اللواقح، لكن فاتهم أن الحصار الفكري لم يعد ممكناً وسط ثورة الاتصالات العلمية العابرة للقارات في سرعة الضوء، وأنه لا يوجد أمامها حدود تُغلق، وأن نور العلم لن ينطفئ، وأن ينابيع المعرفة لن تنضب، مهما تفننوا في وسائل الحجب. ونحن نعلم أنه لا يرعب المستبدين شيء أكثر من أن يسود العلم على الجهل، والاجتهاد على التقليد، والحركة على الجمود.
1️⃣ يستهل هذا العدد مقالاته بمقال الدكتور «أيت بعزيز عبد النور» «من أبطال الثورة الجزائرية.. العربي بن المهيدي»، حيث ركز على جهاده من بدايته إلى أن استشهد، ومنذ قبل قيام الثورة التحريرية الجزائرية (خاصة في عاميها الأول والثاني، أي قبل أن تتضح معالمها وأسسها التنظيمية خلال مؤتمر الصومام (20 أغسطس 1956م)، مشيراً إلى أن عملية التحضير في جميع مراحلها تميّزت بالسرية والكتمان؛ لأن الثورة لا بد لها من توفّر القاعدة الشعبية التي تحتضنها، والقيادة التي تسهر على تنظيم وهيكلة قواعدها، حتى يتحقّق الهدف المتمثّل في الاستمرارية والشّمولية وتوحيد العمل للوصول إلى الهدف الأسمى لها، وهو الاستقلال التام.
وكان الشهيد «بن مهيدي» من أبرز الأعلام الذين جمعوا بين النضال السياسي والعمل العسكري خلال تلك الفترة، كما أن نشاطه شمل مختلف أنحاء الوطن».
ومن هنا انطلق الكاتب بوقار الباحث القدير، ينسج صورة البطل الشهيد منذ طفولته حتى استشهاده، ومع أن الموضوع واسع ومتشعب، إلا أنه -والحق يقال- تمكن من تقديم صوة البطل بشكل متكامل، تفتح الشهية للمزيد من الاطلاع على المزيد من المعالم الفرعية.
وقد أعطانا الكاتب فكرة عن طفولة الشهيد ودراسته، وعن دخوله في النشاط السياسي مبكرًا، ودخوله سجون الاحتلال القاسية، وانخراطه في صفوف حزب الشعب الجزائري إبان تأسيسه (سنة 1937م)، وفي نشاطاته السياسية والعسكرية، وخص بالذكر دور بن مهيدي في حرب المدن، ودوره في مؤتمر الصومام (20 أوت 1956م)، ثم اعتقاله وتعذيبه وإعدامه نور الله ضريحه.
وهنا أود أن ألفت إلى أن روابط الصلات الأخوية بين الجزائر واليمن، ظلت قوية على مدى التاريخ، ولن يفكها قاطع رحم، وفي العصر الحاضر، ومن منا لا يتذكر جهاد المناصل الكبير «الفضيل الورتلاني» ودوره في «الثورة الدستورية اليمنية»؟ ومن منا لا يتذكر جهود الداعيين الكبيرين «عبد الحميد بن باديس» و«البشير الإبراهيمي» والفيلسوف الأشهر «مالك بن نبي»، ودعمهم قضية اليمن؟ ومن ثم يمكن القول بكل ثقة إن كل شهداء الجزائر -التي تحمل «المسار» مقالاً عن أحد كبار شهدائها- هم شهداء اليمن وشهداء الإنسانية المعذبة.
وهذه الوشائج تجعل العقد موصولاً، وتبقي السمات متشابهة، فإذا نظرنا مثلاً إلى طبيعة البلدين، فإننا نجد التشابه يكاد يكون تاماً، وما تحدث به الكاتب عن ثورية الجزائر وما قدمت من شهداء وتضحيات في مقاومة الاحتلال الفرنسي، نجد له شبيهًا في صمود اليمن ومقاومته لأي عدوان، وما قدم من شهداء في الثورة الدستورية.
حقاً.. إننا بحاجة ماسة إلى دراسة مثل هذه النماذج الرائعة السمو، واستمرار الكتابة عنها حتى تظل نموذجاً حيًا للشهادة في سبيل الأوطان، والدفاع عن كرامة الإنسان. وإنني إذ أحيي شهيد الجزائر الكبير، أحيي كل شهيد.
2️⃣ ومن الجهاد بالسيف، إلى الجهاد بالقلم، وإلى «الحسن الهمداني وإنجازاته العلمية»، لكاتبه د. «كريستوفر تُلّ»، ترجمة وتعليق: د. «حميد العواضي». وهذا المقال الممتع يحتوي على تدقيق جيد، صدّره المترجم بمقدمة عن بقاء ظاهرة علم الهمداني حية لم تمت بعد وفاته منذ ما يزيد عن ألف عام، وأن ما كتبه د. كريستوفر في نظره «صياغة جديدة ومفصلة إلى حد معقول عن عالِم متعدد الجوانب والاهتمامات»، ومن هنا اهتم بترجمته رغبة منه في الإبقاء على «ديمومة النظر في تراث الهمداني وتفحص إنجازاته».
وقبل أن يبدأ المترجم، أشار إلى أهمية تصحيح اسم الهمداني عند اليمنيين وعند العرب معاً كما سترى، ثم ترجم للدكتور البروفيسور كريستوفر تُلّ، وذكر أنه من أوائل من اهتم بالهمداني، وأعطانا تاريخاً موجزاً عن حياته الذاتية والعلمية. وقال: «سيجد القارئ أني حافظت على النص الأصلي كما كتبه صاحبه البروفيسور تُلّ، وما أضفتُ وضعته بين معقوفين […]. أما ما ورد في النص الأعجمي مترجماً من العربية، فقد أعدته إلى أصله بلغة الهمداني مما توفرت لدي مراجعه، كما أضفتُ بعض الحواشي للتعريف الموجز ببعض ما أشار إليه الكاتب في متن النص».
واشتمل مقال البروفيسور «كريستوفر» على جانب من حياة الهمداني والمناخ السياسي آنذاك في اليمن، ثم تحدث عن الهمداني الجغرافي، والهمداني الشاعر، والهمداني اللغوي، والهمداني الفقيه، والهمداني المؤرخ، والهمداني الفلكي، والهمداني خبير التعدين، والهمداني الطبيب، والهمداني الإنسان، في سبك منتظم يجذب القارئ إليه بقوة سحر المعرفة.
3️⃣ كتب الدكتور حميد العواضي مقالاً عن ببليوغرافيا الحسن بن أحمد الهمداني، وأشار -بتواضع العلماء- إلى أن ما كتبه هو في الأساس تتمة مفيدة لما كتبه البروفيسور «كريستوفر». ومع الجهد الكبير الذي بذله، يقول: «أكرر القول إن المجال مازال متاحاً بشكل واسع للنظر في تراث الهمداني درساً وتفحصاً؛ بل تحقيقاً وإعادة تحقيق لبعض أعماله بشروط علمية أكثر صرامة وفهرسة، وشرح أكثر إفادة».
وأضاف: «كنت قد نشرت عام 2010 ثبتاً ببليوغرافياً بعنوان: «ببليوغرافيا مختارة»، ضمن المجلد 33 من عدد خاص بالهمداني، وقد ظللت أنميها بالإضافة والتحري، حتى صارت ذات نفع كبير للباحثين. وجاء اطلاعي على ما أورده «تل» من مراجع ملحقة بمادة الهمداني، ليتكامل العملان معاً لخدمة الباحثين في دراسات الهمداني». وقد تكامل العمل بالفعل، وإنه لعمل لو تعلمون عظيم.
4️⃣ ننتقل من عصر الهمداني إلى ما قبله بزمن طويل، حيث نلتقي بباحثنا الأستاذ عُبَاد بن علي الهيَّال” في مقاله «من نقوش المسند في منطقة يريم» بالقرب من العاصمة الحميرية «ظفار». وقد شرح باحثنا طريقة العثور على النقش موضوع البحث، وعرف ما في أحرفه من معان ودلالات، وأثنى على جهود أخرين ولم يغمط حقهم، فدل بطريقته هذه على ثقته بما لديه من علم، وعلى اعتراف بعلم الآخرين، فنحن نعلم أن كثيرين يتصيدون جهود غيرهم كأنهم هم من أوجدها، وما ذكره فميزة العلماء العارفين.
وذكر أنه عُثِر على النقش عند الحفر عشوائياً في قرية رباط الرُّمَيْش إلى الشمال الغربي من مدينة يَريم، على بعد سبعة كيلومترات، ولا يبعد هذا الموضع كثيراً عن مستوطنة جبليّة قديمة تسمى حالياً «سَبْلَة عابِس» تابعة لقرية «حَدَّة»، في عزلة وادي الحار بمديرية عنس، وتبلغ المسافة بينهما أقل من عشرة كيلومترات في خط مستقيم على الخريطة، وقد عثر في تلك المستوطنة على نقش مسندي كان موضوع دراسة للدكتور فيصل محمد إسماعيل البارد، وتبعد عن ظَفَار (حاضرة الحميريين) بحوالي سبعة عشر كيلومتراً بخط مستقيم، من هنا ندرك أهمية هذه المنطقة وما فيها من آثار، ولا غرو في ذلك، فهي في منطقة عاصمة حضارية مزدهرة.
وأخيرا أقول إننا نعرف – من خلال ما كتبه الأستاذ عباد – معاناة هؤلاء العلماء عن نقش واحد، فكيف بنقوش أخرى؛ بل بنقوش مبتورة؟ وإزاء ذلك الجهد فلا نملك إلا أن نؤدي تحية الشكر والعرفان لمن قام بهذا العمل، وأحسن عملاً، كما يقوم به صاحبنا الباحث ورفاقه.
5️⃣ في ظلال هذه الواحة قدمت لنا مضيفتنا الكريمة الآنسة الباحثة «أميرة زيدان»، وجبة فنية شهية من صنع يديها سمتها «المتخيل الزمني في الرواية التاريخية.. رواية ظلمة يائيل أنموذجاً»، ضمنتها صنوفاً من وجبات أخرى متنوعة.أعتقد أن من الأفضل لنا بعد الأبحاث العلمية الجافة، أن نتفيأ ظلال واحة «الأميرة زيدان»، لنلتقط فيها أنفاسنا من تعب الأبحاث المضنية، وننفض عنا – مؤقتاً – غبار التراب المهجور.
تبدأ الكاتبة بتعريف المقال بالقول إن الرواية تناولت «مرحلة مهمة من تاريخ اليمن، في فترة 435-461هـ، وهو تاريخ الدولة الصليحية في اليمن، والتي تتبع الدولة الفاطمية في مصر، إبان حكم الملك علي بن محمد الصليحي، جاءت أحداثها موزعة على ثلاثة أجزاء رئيسية، تشير إلى جوانب متعددة (البعد الفكري، العقلي، النفسي)، تتعدد الشخصيات، منها: الشخصية الرئيسة في الرواية «جوذر»، التي ينتابها صراع في سبيل البحث عن الحقيقة، وهذا يمثل البعد العقائدي، وعملية التأمل بين عقائد وديانات اليهودية/ الإسلامية، كما ظهر الصراع بين الأئمة، وتعددهم في محاولة السيطرة على صنعاء. وإن كان ظاهر الرواية يوحي إلى جانب اجتماعي، إلا أن فيها جوانب سياسية ارتبطت بالحكام والولاة. والمعلم «صعصعة» كان إحدى الشخصيات المحركة للأحداث، وأسهم في تطويرها، حيث كان «جوذر» يعمل لديه، ويمارس نشاطه بين النسخ والنقش، وبسبب هذا العمل دخل -ما سماه الروائي- «ظلمة هللا». فهناك زمنان متعالقان؛ أحدها ما هو ظاهر في المتن، حيث يتحدث عن النسخ والمخطوطة، والآخر ما جاء على لسان الشخصية من سرده لأحداث كانت ظاهرة في هامش الرواية، وطريقة حفظ المخطوطة من عدمه، من خلال طريقة الحفظ في دار المخطوطات، وعدم الاهتمام بها، وعادة تسمى هذه الطريقة «اللكي داخل الحكي»، أي أن أحداث الرواية جاءت على مستويين: الحكاية الرئيسية في متن الرواية، والحكاية الفرعية التي تعتمد على توظيف جزئي للمخطوطة، وتجري الأحداث على لسان الشخصية الرئيسة جوذر».
مدخل ممتاز يفتح الشهية لقراءة المقال الذي احتوى على عدة صنوف جيدة: «مقدمة. أنواع الزمن في المتخيل السردي – الزمن بين الخطاب التاريخي والخطاب الروائي. الزمن النفسي. الزمن الروائي. المتخيل الاسترجاعي الخارجي. المتخيل الاسترجاعي الداخلي. المتخيل الاستباقي. المتخيل الاستباقي كتمهيد».
6️⃣ بعد أن استرحنا في واحة «الأميرة زيدان»، وذقنا ما طاب من وجبات فنية ضاعفت الطاقة لاستئناف الرحلة إلى الأبحاث الشاقة، وعليه فقد أخذ زميلنا الدكتور المنقب «الناشري» عُدة البحث اللازمة، وذهبنا معه إلى بقعة أخرى حيث ضرب بمعوله في أعماق الأرض، فاستخرج بحثاً عن تاريخ مدفون.
وإذ أكتب تعريفاً بهذا المقال الخصب؛ فإنه من الخير العلمي أن أتحدث هنا عن متاعب المنقب عن النقوش، فليس سهلاً أن تحصل على نقش ما، وليس يسيراً أن تعثر عليه كاملاً، وليس ميسوراً أن تلصق نقشاً إلى نقش لتنسج صورة تاريخية متكاملة أو قريبة من التكامل، ذلك أن ما هو مدفون في أعماق الأرض، ومتوارٍ خلف الأعوام والسنين، ليس كما هو ظاهر على السطح، وقريب العهد، ومتوفر المراجع. وفي رأيي أن المنقب عن النقوش في باطن الأرض أو في الحجر الأصم، أو في تشتتها في بيوت متنافرة، وعمارات متباينة شتت تاريخها، وبترت أوصاله؛ فقطعة هنا وقطعة هناك، في هذا البناء أو في ذاك، يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين. من هنا ندرك أهمية المنقبين الذين لا يجدون مواد الكتابة التاريخية بين أيديهم حاضرة، تمدهم بنصوص مكتوبة؛ بل نجدهم يبحثون عن نقوش متناثرة ومبتورة، ويوصلون هذه بتلك حتى يستوي بين أيديهم تاريخ يتوالد وينمو ويتكامل عبر السنين والأعوام، ولعمري إنه لجهد كبير ومتعب ومرهق.
ومن هنا تأتي أهمية مقالة الدكتور «علي محمد الناشري» في مقالاته التنقيبية، كمقاله هذا الموسوم بـ«نقش سبئي من قرية بيت وتر ببني بهلول».
وقد استهل الكاتب الحصيف مقاله بملخص عنه أغناني عن تعريف محتوياته، وهو خبير به، عارف بأحواله ﴿ولا ينبئك مثل خبير﴾. فقال: «يُعنى البحث بدراسة تحليلية لنقش سبئي جديد دُون بخط المسند (Na- Bayt Watr1) على قاعدة تمثال أسد من حجر الرخام الأبيض، عُثر عليه حديثاً في موقع قرية بيت وتر (24 كم جنوبي شرق مدينة صنعاء)، حيث تم نقله بحروف الخط العربي، ثم نقل معناه إلى العربية الفصحى، ودراسة مفرداته دراسة تحليلية، لغوية تاريخية. وتكمن أهمية هذا النقش من كونه جديداً، وأنه اشتمل على أسماء أعلام جديدة مؤنثة (أمة ثون، عد شف)، واسم قبيلة، أدبرن، ويذكر أيضاً لأول مرة اسم الإله ذي عدن تهرجب، مع صيغة جديدة للإلهة ذات البعدان الشمس، في معبدها الجديد المسمى «ذي متبع». وتعد إضافة جديدة إلى أسماء الأعلام والآلهة والمعابد الأخرى المعروفة في الممالك اليمنية القديمة».
وبعد هذا الملخص، تحدث عن وصف النقش ومصدره، وعن تاريخ النقش، وعن معنى النقش، ثم خاتمة عن أهمية النقش، ليس لأنه ينشر لأول مرة، وإنما لأنه يذكر أسماء جديدة لأول مرة، تعد إضافة جديدة إلى أسماء الأعلام والآلهة والمعابد المعروفة.
وكما ترون، فإن نقشًا واحداً ذا أسطر قليلة قد أخذ من الدكتور طيافة واسعة في التاريخ والجغرافيا واللغات والمعاني والترجمة، وما يقوم به المنقبون إن هو في حقيقة الأمر إلا تقديم المواد المغيبة للناس والمرادم الصحيحة والقوية، والتي يقوم عليها البناء التاريخي الموثق، والتي يبني عليها المؤرخون وجهات نظرهم، فلهؤلاء الباحثين المنقبين اعتراف المدين لهم بالشكر والعرفان على ما بعثت أيديهم من تاريخ دفين نقتطف منه بسهولة ويسر، ولهم التعب والإرهاق.
7 |
وكعادتها فإن «المسار» تختار مقالاً لتجعله مسك الختام، وكعادة المسافر فهو يستريح من تعب الطريق في مكان مريح، أو تحت شجر ظليل، أو على ضفة غدير جار، وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى نخرج من تحت غبار التاريخ القديم، لنعود معاً لنستقبل ضيفين أكاديميين كريمين: الدكتورة «جين هاثواي»، صاحبة المقال، والأستاذ «ربيع طالب مهدي ردمان»، مترجم المقال، فقد صاغا بحثاً جديداً عن «العثمانيين وتجارة البن في اليمن»، سنقرأه على رشفات فنجان قهوة بُنّ يمنية، ونرحب بهما على صفحات مجلة «المسار».
تذهب الدكتورة «جين» إلى أنه كان للبن دور مهم للوجود العثماني الأول في اليمن (1538–1636)، وأنه كان لها بمثابة البَرَكة واللعنة معاً، وأنها المادة الغامضة التي أغرت العثمانيين بالتحمّل رغم سنوات حرب الاستنزاف المريرة في مواجهة عدد من الأئمة الزيديين، فضلاً عن الظروف المناخية القاسية والأمراض الغريبة التي ابتلي بها جنودهم. وشرحت الظروف الصعبة في زراعته وحصاده ونقله، وأشارت إلى أن الإسماعيليّة في مرتفعات اليمن الدَّاخلية والزيدية في الشمال والشرق حالا دون استفادة العثمانيين من هذه المادة الاقتصادية، وشحنها عبر ميناء عدن، ثم المخا لاحقاً.
حول هذا الموضوع، توسعت الدكتورة في الشرح، وأفاضت في التفصيل، فتحدثت عن أهمية البن للعثمانيين، ليس فقط أثناء حكمهم لليمن؛ بل بعد تركهم اليمن عام 1636م. ومن هنا قامت بشرح هذه الأهمية إبان الحكم العثماني (1538-1636)، وعن فترة ما بعد الجلاء -كما تسميها- ودور مصر النشيط في هذه الفترة، بالتعاون مع العثمانيين والإسماعيليين، وقامت خلال تلك المراحل كلها بمسح واسع لبقية العوامل الأخرى السياسية والاقتصادية والتاريخية والطبية، كما ستقرأه بتفصيل.
نخرج من قراءة هذه الدراسة الواسعة المحيطة بموضوعها، ولدينا توق شديد بالاهتمام بإحياء زراعة البن، والتوسع فيها، وفي تسويقه عالمياً.
ومن خلال هذه الدراسة الموضوعية، يتبين لنا ضرورة المزيد من استغلاله، والمأمول والمرجى أن يدرك اليمنيون أهمية هذه التجارة الاقتصادية، والفوائد الكبيرة التي سيجنونها من خلال التوسع في زراعة البن وجني ثماره، بخاصة وأن البن اليمني من أجود أنواع البن في العالم.
رئيس التحرير