ويلفريد مادولونغ

الإمامة.. النظرية اللاهوتية للتطور المؤسسي

تناول البروفيسور «ويلفريد مادولونغ» موضوع «الإمامة.. النظرية اللاهوتية للتطور المؤسسي» في عموم وتفصيل آراء المذاهب الإسلامية الرئيسية، موضحًا كيف تطورت لاحقًا لمواكبة المتغيرات. وما طرقه إليه هو من العوائق السياسية؛ بل أم العوائق، حيث غابت حقيقتها وبقي شكاها، ولعب التمذهب دورًا تخريبيًا في مفهومها ونقلها من «إمامة مدنية» إلى «خلافة إلهية» يمكن توصيفها بالكهنوتية.

أواصل الحديث مع عائق سياسي آخر هو موضوع «الإمامة» تلك التي غيّر من سمّوا أنفسهم خلفاء الله على الأرض، وألبسوا قادتهم شكلًا كهنوتيًا بدعم واضح من فقهاء السلطة، وبذلك دخل عائق لم يَبلَ، وأصبح الجدل حولها محتدمًا، وقد تناول موضوع «الإمامة.. النظرية اللاهوتية للتطوّر المؤسسي» البروفيسور المرحوم: «ويلفريد مادولونغ» الخبير بالشؤون الزيدية والإسماعيلية والشافعية في اليمن، وتناول في هذا المقال: نظرية الإمامة في عموم الفكر الإسلامي، وتفصيل آراء المذاهب الإسلامية الرئيسية، موضحًا كيف تطورات لاحقًا لمواكبة المتغيرات المتلاحقة.

وليس من شك فإن ما طرقه البروفيسور لهو من أكثر العوائق السياسية؛ بل أم العوائق، حيث غابت حقيقتها وبقي شكاها، ولعبت المذاهب -بعد أن تحولت من مدارس- دورًا تخريبيًا في مفهومها ونقلها من «إمامة مدنية» إلى «خلافة الهية» يمكن توصيفها -بعد الانحراف بدورها- بالكهنوتية.

بدأ البروفيسور بحثه بالبداية المبكرة، ويقصد بها «الإمارة الراشدة»، إذ ذكر أن نقاشًا نظريًّا حولها فُتح بعد الحرب الأهلية «التي تركت معاوية حاكمًا بحكم الأمر الواقع، وظلّ المجتمع منقسمًا بشكل كبير؛ في معتقداته في ما يتعلّق بالإمامة الشرعية». ثم تناول الإمامة.. النظرية اللاهوتية للتطوّر المؤسسي، وأعاد بدايتها إلى الخلاف حول مقتل عثمان وتولي معاوية الأمر، فتصدى له أنصار أمير المؤمنين علي، والخوارج، حتى بعد انشقاقهم، فلم تكن تلك الخلافة الكهنوتية إلا تقويضًا للإمارة المدنية. وعندما استشهد الإمام علي، أيد الصحابي الجليل «حجر بن عدي» وأصحابه -أمثال عمرو بن الحمق وسليمان بن صرد والمسيب بن نجبة، غيرهم من أكابر أصحاب علي- بيعة الحسن بن علي. ولما استشهد هؤلاء المقاومون بعد موت الحسن بن علي ترسخ الحكم التديني، ونتج عنه «تأسيس الحكم الأمويّ على أساس العائلة الحاكمة، وفقد مؤيّدو مبدأ الخلافة الأولى الأمل بعد فشل محاولة عبد الله بن الزبير في إعادة بنائها».

ثم تناول البروفيسور دور المذاهب التي تشكلت، وكان أول مذهب شكله معاوية هو مذهب «المرجئة الجبرية»، فأكمل تخريب التمدن الإسلامي.

وبسبب انتصار الدولة الكهنوتية أصبح الرأي التقليدي بشكل عام في المدينة المنوّرة، والبصرة، وبغداد، والشام، مؤيّدًا لرؤية العثمانية التي تقصر خلافة الراشدين على الخلفاء الثلاثة الأوَل، رافضة خلافة عليّ، ثم أضاف: «لكن الرأي الكوفي التقليدي المؤيّد بشدّة لإدراج عليّ مع الراشدين، انتشر بسرعة، وفي النهاية، فضّل أحمد بن حنبل هذا الرأي، بالرغم من كونه مؤيّدًا للعقيدة العثمانية»، ويقصد أنه لم يكن رأيه رأي من أقصى عثمان من الإمارة الراشدة.

مشكلة عائقة أخرى تبناها الإمام أحمد بن حنبل -بشكل خاص- وهي صحّة الإمامة عبر الغلبة، في حين لا يحق للمسلم المشاركة في حربٍ أهلية في غياب الإمام، فإنّه ملزمٌ بالطاعة المطلقة والدعم الدائم للإمام، سواء أكان عادلًا أو ظالمًا، تقيًّا أو فاسدًا، إلاّ في حال مخالفته أصل الشريعة. ونسي الإمام الجليل أن الظلم والفساد هما مخالفة للشريعة الإسلامية أصلًا وفصلًا، ثم أفاض الكاتب في الحديث عن آراء «الحنفية» و«الماتريدية» و«الشافعية» بما ستقرأه في بحثه هذا. ثم تحدث البروفيسور عن القرشية وقدسيتها عند المذاهب، لكنه أشار إلى أن الماوردي أجاز حكم الوزراء والسلطنات إلى جانب القائم العباسي.

وبعد حديثه عن السنة تحدث عن آراء المعتزلة التي دعت المجتمع إلى إزالة الإمام الظالم، بالقوّة عند الضرورة. وعلى الرغم من أنّهم كانوا ينظرون إلى الخلافة الأمويّة بشكل عام باشمئزاز، إلاّ أنّهم اعتبروا الأمويّين عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد بشكل عام إمامين عادلين. أما موقفهم من العباسيين الأوائل، فقد دعم البعض الآخر الثورات العلوية، وفي وقتٍ لاحق، أصبح المذهب المعتزلي مؤيّدًا للعلوية، وأصبحت إمامة الحسن بن علي عقيدة مشتركة بعد أبي علي الجبائي (ت303هـ/ 915-916م). وفي كتاب «المغني» يناقش القاضي عبد الجبّار (ت415هـ/ 1025م) مسألة إمامة العلويين: الحسن، والحسين، وزيد بن علي، ومحمّد بن عبد الله (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، وذهب معظم المعتزلة إلى أن تعيين الإمام واجب على المجتمع؛ غير أنّ مجموعة من المعتزلة الأوائل، الميّالين إلى الزهد، اعتبروا أنّه يتوجب على المجتمع اختيار قادة للجهاد، ومحتسبين مؤقتين لغيره من الوظائف الضرورية، وذلك لإحباط أي طموح للسلطة الدنيوية. اعترض معظمهم على وجهة النظر التي تعتبر تعيين الإمام أمرًا واجبًا عقلًا، كما اعتبر الجاحظ، وأبو القاسم البلخي، وأبو الحسين البصري. وشدّد هؤلاء على وجوب تواجد إمام واحد في أي وقت. في المقابل، فضّل «أبو بكر الأصم» -بسبب الانتشار الواسع للإسلام- أن تختار كل بلدة إمامًا خاصًّا بها.

بعد ذلك تحدث عن «المدرسة الزيدية» وعن فروعها، ولاحظ أن الزيدية الأولى لم تعترف «بنسل وراثي للأئمة، لكنهم كانوا يؤيدون دعم أي فرد من أهل البيت يدّعي الإمامة، بشرط خروجه على الحكّام غير الشرعيين. في حين اعتبر بعض الزيديين -في أواخر القرن الرابع هـ/ العاشر م- جميع أحفاد أبي طالب، والد «علي»، مؤهّلين للإمامة، لكن المذهب السائد حصرها بأحفاد الحسن والحسين». وتحدث عن الجارودية فاعتبرها أكثر تطرّفًا، وقد أوردها ضمن حديثه عن الزيدية وهي ليست منها، كما حققت ذلك في مقال سابق في «مجلة المسار»، لكنها في فترة متأخرة انتشرت آراؤها عند كثير من الهادوية. وقد ذهب البروفيسور إلى أن انتشارها كان منذ القرن الثالث هـ/ التاسع م، وأجد نفسي أخالفه في تحديد هذا القرن، إذ كان ظهور الهادوية الزيدية في نهاية هذا القرن، ولم تكن تكفر صحابيًا؛ بل إن الهادي جلد رجلًا سب الراشدين الثلاثة، مما يدل على أن الجارودية سبقت الهادي في الظهور في اليمن، وهذه نقطة تستوجب البحث، ومن المؤكد أن علماء الهادوية الزيدية الكبار والأئمة العظام لم يسبوا الراشدين، بل نهوا عن السب، لكن الجارودية تسللت إلى من هم أقل علمًا.

ثم تحدث بعد ذلك عن الإمامية التي رفضت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وأصرّت على أن النبي قد عيّن عليًّا وصيًّا له، وتذهب إلى أن الإمامة بعد الحسن والحسين تُنقل إلى أحفاد الأخير عبر التعيين من الأب إلى الابن حتّى الوصول إلى المهدي.

ومن الإمامية انشقت الإسماعلية بعد وفاة الإمام جعفر، لكنها «حافظت على المفهوم الأساس للمعتقد الإمامي، أي الحاجة الدائمة إلى إمامٍ معصومٍ كمرشد سياسي وديني للبشر». ومن المهم الإشارة إلى ما تم في نظره من تعديلات متتابعة بعد ظهور الخلافة الفاطمية من الستر إلى العلن، كما فصله في مقال له عن الإسماعيلية نشرته «المسار» في العدد الماضي.

ثم تحدث عن الخوارج التي تشددت في شرعية الإمام بشكل جذري بعدله «فمن خلال أيّة مخالفة للقوانين الإلهية، يخسر الإمام شرعيته، ويجب إزالته بالقوّة إذا لزم الأمر»، وأضيف هنا أن مشكلة الخوارج أنها حصرت الإسلام وفق رؤيتها هي، فمن ليس منهم فهو خارج عن الإسلام مرتد عنه، ويجب إقامة إمام منهم، ولم يخالفهم من فرقهم في هذا القول «سوى فرق النجدات تعتبر أنّ المسلمين غير ملزمين بتأسيس إمامة إذا تصرّفوا بعدلٍ في ما بينهم»، وأجمعوا على عدم شرط «القرشية»، وأجاز أتباع «شبيب بن يزيد» في زمن الحجاج استثنائية، إذ رأوا أنّ المرأة مؤهلة للإمامة.

وذكر أن مؤهلات ووظائف الإمام الأخرى ولا تختلف -إلى حدّ كبير- عما هي عند أهل السنّة، و«من بين فِرق الخوارج المتعددة، يمكن دراسة الإباضية -فقط- من خلال كتاباتهم. ولم يجرِ أيّ تحرٍّ ممنهج حتّى الآن»، والحق أن الإباضية كما نراها اليوم أقرب إلى المعتزلة والزيدية.

ختم البروفيسور بحثه الممتع بالتطوّر اللاحق في نظرية الإمامة، فأكد أن الفكر السنّي حول الإمامة -الذي كان مرتبطًا بالخليفة العبّاسي المُعاصر في عصر الماوردي- قد اتسم بالتقلّب حسب التغيّرات، وتحت تأثير سلطنة السلاجقة، كان الغزالي جاهزًا أساسًا، لاعتبار الخليفة مجرّد ممثّل أوّل للإسلام، تم تعيينه عبر مبايعة الحاكم الفعلي، والذي تمّ تشريع حكمه -بدوره- من خلال اعترافه الرسمي بدور الخليفة.

وفي القرن الثامن الهجري/ 14م أكّد التفتازاني «أنّه لا يمكن أن تعتمد شرعية الأعمال القضائية على وجود إمام قريشي في وقت من المستحيل تعيين هكذا إمام، بسبب غلبة الاستبداد. وتمّ تجاهل خليفة الظلّ العبّاسي، الذي أقامه سلاطين المماليك في القاهرة، حتّى من قبل القضاة السنّة الذين يعملون في ظلّ حكم المماليك، مثل ابن تيمية وابن جُماعة».

ثم تحدث بإسهاب عن تغيرات حدثت في مفهوم الإمامة ابتداءً من القرن السابع هـ/ الثالث عشر الميلادي.