بينوا شالاند

ترجمة:ترجمة: فاطمة أحمد عاصي

اللا مركزية في اليمن مسودة دستور عام 2015

تناول الأستاذ الباحث «بينوا شالاند» في مقاله الممتع موضوع «اللامركزية في اليمن»، فطاف محلقًا حول محاور مهمة لخص الجذر السياسي للامركزية في اليمن وتوسع في قراءة اللامركزية الاتحادية منذ الحكم العثماني لليمن إلى عهد الناس هذا، وأشار إلى ظاهرة تعايش المذاهب اليمنية لقرون طوال.

تناول الأستاذ الباحث «بينوا شالاند» في مقاله الممتع موضوع اللامركزية في اليمن، فطاف محلقًا حول محاور مهمة مترابطة العرى، يشد بعضها بعضًا، ويوثق بعضها بعضًا، مما يعطي مقاله ميزة خاصة. وفي رأيي أن هذا المقال مهم للغاية، جدير بالقراءة العميقة المتأنية لما فيه إحاطة بالفترة التي كتب عنها بتجرد.

بدأ الأستاذ “بينوا” بمقدمة فرش فيها حديثًا لكل المحاور، وتمكن بجدارة من أن يلخص الجذر السياسي للامركزية بجملة واحدة، هي: «أن اليمن دولة ذات تاريخ طويل من التشرذم السياسي، يمتزج في الوقت نفسه مع انقسامات جغرافية فعلية، لكنّ اليمنيين عمومًا، معتادون على هذه الكيانات المجزّأة التي ولّدت أشكالًا واقعية للسلطة اللامركزية». وساق أدلته على ما قال.

ثم تحدث عن اللامركزية في تاريخ الجمهورية اليمنية قبل عام 2011، فذكر أن المطالبة بهما بدأت في الستينيات، ولعله يشير إلى رسالة كتبها المرحومان: النعمان والزبيري، طالبا باللامركزية؛ بل إني أذهب إلى أن أول من عرض اللامركزية على سلاطين الجنوب، هو الإمام يحيى حميد الدين، كما هو مذكور في كتاب رحلة الثعالبي، وما قام هو به من دور فيها، إلا أن الغريب أن الإمام أبقى الشمال شديد المركزية، ولسبب أجهله اكتفى الأستاذان بتلك الرسالة ولم يكرراها.

وأشار إلى ظاهرة مهمة، وهي تعايش المذاهب اليمنية تعايشًا سلميًا لعدة قرون، وفي رأيي أن هذا الرأي – وهو قائم على حقائق التاريخ – قد يكون من الأسباب الميسرة لتحقيق الدولة “للامركزية الاتحادية”، بخاصة وأن الأستاذ “ميسك” لاحظ أنّه من الممكن استبدال التفسيرات القانونية الشافعية والزيدية والاختلافات الدينية بالهويات المحلية.

ثم توسع في قراءة التاريخ الملتمس باللامركزية الاتحادية منذ الحكم العثماني لليمن إلى عهد الناس هذا، ثم توسع في الحديث عن الوحدة اليمنية حديثًا تاريخًا لاحظ فيه بحق أن الدستور بعد حرب 1994 تجاهل جميع بنود اتفاقية عمّان، المعروفة بـ«وثيقة العهد والاتفاق»، التي اتفقت عليها جميع القوى اليمنية، وخلص إلى القول بأن ما أعلنته سلطات الرئيس صالح من حكم محلي، قد نُفّذت بطريقة تفضيلية للدولة الموحدة؛ لذلك، ومن منطلق واقعي للسياسات، من الواضح أن السلطات الحالية تمكنت دائمًا من عدم تنفيذ أي إصلاحات لا مركزية، ووصل في بحثه إلى أن الفيدرالية حظيت بمستوى غير مسبوق من القبول الحقيقي والشعبي، لكن هذا التغيير الجديد سوف يترافق مع مشكلة تَدَخّل مموّلين أجانب مرهقين حملوا معهم المتاعب، الأمر الذي سوف يبطل مبدأ اللامركزية. وهذا صحيح، فالإخراج غير الحسن يعبث بالشيء الحسن، وهكذا كان البديل للامركزية هو الحكم المركزي المحلي.

ثم مضى فتحدث عما سمي «الربيع العربي»، وقسمه إلى موضوعين: الأسلوب اليمني والخليجي، وتحدث عن ثورة التغيير، وعن ثلاثة محاور شغلت الساحة السياسية، وهي محور أنصار الله، ومحور المطالب الجنوبية، ومحور اللقاء الثلاثي، وأهم ما جاء فيه أن الرئيس صالح غضّ الطرف عن استقرار مقاتلي القاعدة في جنوب اليمن، ما أدّى إلى تزعزع الاستقرار في الجنوب، وازدياد المعارضة لسياسات صنعاء. وقد أوفى هذه المحاور حقها من البحث.

وأراني أضيف أن فكرة «اللقاء المشترك» الذي تأسس عام 2005، جاءت من قِبَل المرحومين: عمر الجاوي من «الحزب الاشتراكي»، ومحمد عبد الرحمن الرباعي من «اتحاد القوى الشعبية»، وأسهم فيها كل من الإصلاح، وحزب الحق، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، لكن حزب الإصلاح استولى – بدهاء في النهاية – عليه واستخدمه في ركابه.

ثم تحدث عن دور «مجلس التعاون الخليجي» في منح الرئيس صالح وأسرته الحصانة الكاملة من الملاحقة القانونية، وقال بحق: «اتفّق المراقبون على أنّ دول مجلس التعاون الخليجي، بصفتها داعمًا خارجيًّا امتلكت فعليًّا حق النقض (الفيتو) في شؤون اليمن الداخلية، ولا تمثل موجة احتجاجات 2011» أي مطالب ثوار الحرية في ساحات التغيير المنتشرة في كل المدن اليمنية.

ومن ثورة الساحات انتقل إلى الحديث عن مؤتمر الحوار الوطني، فلاحظ أن عملية الانتقال «حدّدها مجلس التعاون الخليجي بالطريقة التي اعتبرها الأكثر ضمانًا لاستقرارها»، وكانت فكرة الفترة الانتقالية ضمن مواد المبادرة الخليجية التي انبثق عنها تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤلفة من الحزب الحاكم والمُعارضة بالتساوي. وأضاف إلى عامل تدخل المبادرة الخليجية في الشؤون اليمنية قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، التي أتاحت للمجتمع الدولي التدخل في عمل مؤتمر الحوار الوطني من خلال التمويل المالي ومشاركة الخبرات التقنية. قضى القرار الأوّل بالدعوة إلى إقرار تنفيذ تسوية سياسية مبنية على المبادرة الخليجية التي لم تكن قد اكتملت آنذاك، بالإضافة إلى اتفاقية الفترة الانتقالية المُقترحة، في حين كان القرار الثاني دعوةً واضحةً لعقد مؤتمر حوار وطني شامل.

ثم ذكر نقطة مهمة عن حق الرئيس في ضم 66 عضوًا إضافيًّا. وأنا أعتبر هذا البند سببًا في تهديم “الحوار الوطني” من الداخل، إذ إن المعروف أن أي حوار وطني يتم بالتساوي، ويمنع تمكين أي عضو أن يستقوي بأنصاره فيه.

ثم يقول: ومع أن المؤتمر لاقى دعمًا واسع النطاق من قبل المجتمع الدولي؛ غير أنّه اصطدم بأعداء لدودين أيضًا، وبحسب مراقبة الحياة السياسية اليمنية في الجنوب لفترةٍ طويلة «كان من الصعب العثور على شخصٍ في اليمن يؤمن بالحوار الوطني». إنّ توصية المؤتمر باستخدام الأموال القطرية للتعويض على الجنوبيين الذين طُردوا من أعمالهم بشكل غير قانوني أو الذين صودِرت أراضيهم كانت متواضعة للغاية، لا يمكنها إزالة موجة الشكوك لديهم «وفي وقتٍ لاحق، زعم الجنوبيون المنشقّون أنّ الـ85 عضوًا من الحراك، والمتواجدين في مؤتمر الحوار الوطني، لا يمثّلونهم فعليًّا، ومع ذلك شاركوا وصاغوا ووافقوا على معظم التوصيات التي اقترحت نظامًا فيدراليًا في عدّة أقاليم، كما وُعدوا حتّى بحق النقض (الفيتو) للجنوب في الشؤون الدستورية المهمّة، ومهما يكن من أمر فقد كان الإحساس بالإنجاز عظيمًا».

وعن لجنة صياغة الدستور ومنطق الأبواب المُغلَقة، قال إن لجنة توفيق الآراء اقترحت في مؤتمر الحوار الوطني أن يتمّ اختيار 30 عضوًا، من ذوي الخبرة الواسعة في القانون، إلاّ أنّ الرئيس هادي لم يُعيّن سوى 17 عضوًا كان معظمهم من حزبي الإصلاح والمؤتمر الشعبي العام، مقابل ممثّل واحد عن الحزب الاشتراكي اليمني، وأربع نساء، ومع أن الهدف من الدستور الجديد هو الحدّ من السلطة الرئاسية الواسعة، ولكن الرئيس هادي هيمن على الوضع، واستغلّ لجنة صياغة الدستور لتمديد ولايته. ولهذا فالكاتب يرى أن الدستور لم يخلُ من العيوب القانونية الخطيرة، وأتفق معه في هذا الرأي، ولعل أهم أخطائه الخطيرة أنه قسَّم الأقاليم تقسيمًا خاضعًا للسياسة الراهنة آنذاك والمناوئة لأنصار الله آنذاك، فحصر المنطقة التي هم فيها في إقليم ليس له منافذ بحرية ولا صحراوية، مما أدى إلى رفض قطاع كبير هذه التقاسيم، وبخاصة إقليم آزال الذي سمته نكتة بارعة «إقليم: إذا الوحوش حشرت». ثم إن هذه الأقاليم مخالفة لأي دستور؛ لأن دساتير العالم تنص على اتحادية الدولة أو مركزيتها، ولا تتدخل في عدد الأقاليم، وإنما الذي يحدد معايير الإقليم التي يستوجب به أن يكون إقليمًا لامركزيًا ضمن دولة اتحادية، هي لجنة مختصة تراعي فيه الجانب الاقتصادي بوجه خاص، ولهذا فهي تسمح لهذا الإقليم أن ينضم إلى إقليم آخر على أساس استفتاء شعبي، بينما راعى هذا الدستور الجانب السياسي فقط بدون النظر إلى الحالة الاقتصادية، ثم إنه راعى المذهبية وكرسها فجعل المناطق الشافعية تختص بأقاليمها، وجعل المناطق الزيدية تختص بأقاليمها، فكرس المذهبية دستوريًا، في حين أن اللامركزية لا تقيم للتمذهب وزنًا، لأنها أساسًا جاءت تلبية لعجز المركز الاقتصادي عن القيام بواجباته، أما أن يراعي أي دستور المذهبية ويجعل وجودها دستوريًا، فلا صلة له بمركزية ولامركزية، وإنما ينطبق على دولة مذهبية، ثم إن بداية صياغة هذا الدستور في ألمانيا وانتهى في أبوظبي، وسلم ناجزًا في صنعاء، فبدا كأنه صُنع في غير اليمن، وأنه من جملة المستوردات، وقد لا يكون ذلك معيبًا، إلا أنه في خضم صراع المنطقة وما أسفر بعده من اضطرابات أوجد الشك فيه.

ثم تحدث بتوسع عن المعنى المُتنازَع للفيدرالية (الاتحادية) حديثًا شاملًا ألتقطُ منه قوله إن الكثيرين يخشون «من أن تكون اللامركزية هي الخطوة الأولى في كسر وحدة البلد». وتأكيدًا لما ذهب إليه فعندما أصدرت كتابي «نحو وحدة يمنية لامركزية»، بعد إعلان الوحدة، عنون أحدهم في صحيفة: «لقد كفر زيد بن علي بالله وبالشعب». وفي حديث مع المرحوم الشيخ عبدالله الأحمر قال لي قرأت كتابك فلم أنم لأنه دعوة لتقسيم اليمن وتمزيقها، فقلت: بل هو دعوة لحفظ الدولة مما ستكون فيه، وفي حديث آخر مع القائد العسكري للواء تعز عبدالله القاضي، قال لي: لقد وضعتنا في مشكلة، انتقمت به منا، فقلت له: بل اللامركزية هي الطريق الأسلم لحل المعضلة التي نحن فيها، ولا ينتقم بالأفضل.