المجدّدون في اليمن.. مجددون في المذهب الزيدي أم متحولون عنه؟

يسعى الدكتور أحمد الدغشي في مقاله هذا إلى تقديم تصنيفًا فكريًا لخمسة من أبرز علماء اليمن (ابن الوزير، وابن الأمير، والمقبلي، والجلال، والشوكاني).. هل كانوا مجتهدين في المذهب الزيدي، أم متحولين عنه، أم مجددين عابرين للمذاهب، وخلص -وفق معايير اقترحها- إلى ترجيح تحولهم إلى مذهب أهل السنة.

وفي هذا العدد، بحث مستفيض بقلم أ. د. أحمد محمد الدغشي، بعنوان: «المجدّدون في اليمن؛ مجتهدون في المذهب أم متحولون عنه»، وفيه تناول ثلاث ركائز، الأولى: معالم المذهبين الزيدي والسني كما يراها؛ ليبين من الذي تنطبق عليه هذه النسبة أو تلك. الثانية: تحدث عنمن وصفهم بالمجددين من الزيدية،وهل تحولوا عن المذهب الزيدي أم أنهم مجرد مجددين فيه. الثالثة: رجح تحولهم عن الزيدية إلى الإطار السني العام.

وقد بذل الكاتب جهدًا في البحث، وتناوله من نواحٍ كثيرة، بحسب رؤيته، وما توصل إليه، وليس المطلوب من الكاتب – أي كاتب – أكثر من هذا، ولكن لا يعني ذلك أن آراء أخرى لا تختلف معه، فمن طبيعة الأبحاث العلمية، أن يتفاوت الباحثون في نتائجها؛ بما يحملون من توجهات هم مقتنعون بها، أو متأثرون بها، بدون أن يُحسوا بمدى تغلغلها في عمق تفكيرهم، بخاصة في مسائل تتكسر فيها الأجنحة، ولا يخلو أحد من ذلك.

وأنا من مدرسة تهتم بتوضيح المصطلحات وتعتقد أنها بحاجة إلى تفكيك من أجل إعادتها إلى معناها، ومن ذلك مصطلحي: «أهل السنة» و«الشيعة»، ولا شك في أن للقراءات المختلفة منافع للناس؛ فمصطلح: «أهل السنة» لا يعبر عن كيان واحد؛ بل هو أقرب إلى وهم حُوِّل إلى مجسم، يحتوي على أربعة مذاهب، بينها اختلاف واسع، وصل أحيانًا إلى التكفير والاقتتال، مما يظهر عدم وحدة التلاقي. وقل مثل ذلك في مصطلح «الشيعة»، فإن التلاقي يكاد يكون بين مكوناتها منعدمًا. ومن ثم فيستحيل أن يقال: هذا رأي السنة، وهذا رأي الشيعة. ولكي يتم الخروج من هذا التيه، فإن الأقرب إلى الصواب هو أن ندعوهم لآبائهم، فنقول أي هذا الرأي أقرب أو يخالف الرأي الآخر، أما أن يقال: بأنه مخالفة لرأي السنة، فهو شبيه بالقول بإجماع أهل البيت، فمتى أجمع أهل البيت على رأي! وفيهم الشافعي والحنفي والحنبلي والمالكي؟

كذلك لا نستطيع أن نطلق القول بأن هذا الرأي هو رأي الزيدية، لسبب بسيط؛ هو أنهم يوجبون الاجتهاد على القادرين، والاجتهاد إبداع وإضافات وتصحيح. ومن الصعب في رأيي ما يشاع بأن الزيدية قريبة من أهل السنة، فالصحيح العكس من ذلك، فإن ما يسمى «أهل السنة» هم القريبون من الزيدية؛ لأن الزيدية أقدم المذاهب، فلا يقدم المتأخر على المتقدم، ومع ذلك فلا يوجد رأي للزيدية موحد إلا في نقاط قليلة، وأنا مع المرحوم الأستاذ الدكتور كبير علم الكلام في عصره، أحمد محمود صبحي (ت 1425هـ/ 2004م) عندما قسم الزيدية إلى أجنحة: معتزلة، وأشعرية، وأهل حديث.

ثم إن كلمة مذاهب في الحقيقة هي إطار حديدي لأفكار انحبست في داخله، وأغلقت منافذها عليه، وظن أهلها أنهم «الفرقة الناجية»، وبهذا الاعتقاد التهب التعصب التهابًا، وأصبح الخروج منه صعبًا، بخلاف ما لو بقيت تسميتها بكلمة «مدارس»؛ لأنها بحد ذاتها تمنع الانغلاق وتوسع الانفتاح، وبفضل التلاقح كثُر الخصب العميم. وفي البدء كانت تسمى: «مدرسة الرأي»، «مدرسة الفقه»، «مدرسة الأثر»، إلى أن جاء خليفة خليع، فحصر المدارس في أربعة مذاهب، ليقاتل بعضها بعضًا، فيستريح من خوف المعتزلة، وبهذه الخطوة ولد التعصب المذهبي المقيت.

ويتصل بهذا الحديث ما يقال من أن مذهب الهادي نسخ مذهب الإمام زيد بن علي، فهو لم ينسخه ولم يلغه؛ بل خالفه في بعض المسائل، ولم يخالفه في الموجهات العامة، فعلماء الزيدية كثار؛ مثل نشوان الحميري، والمقبلي، والجلال (وهؤلاء ممن أعدهم مدارس فكرية، في حين أن الآخرين كانوا من مدارس الأثر والفقه، وكل أدى دوره).

ويتصل الحديث بهذه الأجنحة ما يسمى رجال الإصلاح، ويعدون منهم: ابن الوزير، والمقبلي، والجلال، وابن الأمير، والشوكاني، لما عرف عن كل منهم من اختيارات تخالف ما هو دارج في الوسط الزيدي، وأهم من ذلك القول بأنهم مالوا إلى أهل السنة.. وكأن أهل السنة هم المصلحون وحدهم! بينما كثير من علمائهم هم من أنزل بنظرية العدل مصائب لا تحصى، عندما أوجبوا طاعة الإمام ولو ظالمًا جائرًا فاسقًا، وهم من أغلق باب الاجتهاد، فكيف يسمى مصلحًا من أقر الجور والظلم وحال دون الاجتهاد ومراجعة الموروث الفكري! وفي رأيي أيضًا أن الاجتهاد لم يَخِب عند الهادوية، فثمة سلسلة من علمائها كانوا يدعون إلى ترك التقليد ووجوب الاجتهاد في المبدأ الزيدي الهادوي، وعليه فليس الإصلاح محصورًا بأربعة متفاوتة مفاهيمهم.

ويتصل الحديث بما يسمى مصطلح المجددين، وفي رأيي أنه لا يوجد تجديد أصلًا إلا مجازًا، أما في حقيقة الأمر فهناك مجتهدون، والاجتهاد ليس تجديدًا أو إحياء لشيء غير موجود كما يوحي اسمه، وإنما هو تطوير لمتطلبات العصور المختلفة، وعلى كل الأحوال، فهذا موضوع يحسن النقاش حوله بروح علمية بعيدة عن أي تمذهب وتعنصر وتحزب.

بعد هذا أترك القارئ أن يطوف مع مقال أ. د. الدغشي، حيثما طاف في الواسع من الرحاب، حيث يجد فيه ما يستفيد منه، وما يستفاد منه كثير.