بيتر ويب

ترجمة:محمد عطبوش

الهويّة اليَمانيّة خِلالَ العصرِ العباسيّ

كتب الدكتور «بيتر ويب» عن «الهوية اليمنية في العصر العباسي»، مستعرضًا جذورها التاريخية وتأثيرها في العراق، وتحول مفهوم «اليمن» من دلالة جغرافية إلى هوية جماعية في ظل الإسلام. وتطرق إلى دور الشعر في التعبير عن الهوية اليمانية، وناقش النزاعات بين اليمانية والنزارية. وقضايا حول العروبة قبل الإسلام، مما يجعله ممتعًا ومثيرًا.

ومن إفريقيا أعود إلى آسيا وبالتحديد إلى اليمن، حيث ألتقي الدكتور «بيتر ويب»، أستاذ اللغة العربية في «جامعة لايدن»، ومقاله عن «الهويّة اليَمانيّة خلال العصرِ العباسيّ في العِراق» وإلى مترجمه القدير، الأستاذ محمد عبطوش.

بدأ الدكتور ويب مقاله الكبير بتمهيد في معنى أن تكون «يمنيًا»، كما وجده في شعر العصر العباسي المبكر في العراق؛ ثم تحدث عن مدار دراسة الهوية وحدود معناها، وأسهب في ذلك شارحًا ومفصلًا بموضوعية. ومن الطبيعي أن بحثًا كهذا -في موضوع لم يُبحث بعد بحثًا علميًا- يجد من يخالف ومن يوافق؛ وخير البحوث ما كان مثيرًا، وبخاصة عندما يكون بحثًا جديدًا. وأنا أشهد أن الكاتب قد بحث وحقق ودقق.

لم يحصر الكاتب موضوع الهوية في معناها اللغوي فحسب، بل عاد إلى جذورها في عصر ما قبل الإسلام، وعن اختلاف مضامينها عند الشعوب، ومن ثم فحص معنى أن تكون يمنيًا في شعر العصر العباسي المبكر في العراق. وخَلُص إلى أن الهوية اليمانية قد تنقلت عبر دوّامة من المعاني الممكنة التي تراكمت عبر الزمن؛ لكنها أصبحت في العصر العباسي ذات أهمية بالغة في أرض الخلافة بالعراق. وطرح عدة تساؤلات، مثل: هل كان جميع اليمانية في العصر العباسي من عرب الجنوب المهاجرين؟ وهل استعملوا جميعًا مصطلح «اليَمَن» للإشارة إلى فصيل سياسي؟ وهل تخيل «اليمانية» المقيمون في العراق تضامنًا بينهم وبين سكان جنوب الجزيرة العربية؟ وقبل هذا وذاك: هل أطلق سكان جنوب الجزيرة -قبل الإسلام- على أنفسهم اسم: «اليمنيين»، وتخيلوا مجتمعًا مشتركًا عبر العصر الإسلامي؛ أم أن المسلمين هم من اخترعوا مفهومًا جديدًا لليمن انبثق من عمليات إعادة التنظيم الاجتماعي والسياسي الواسع للغزو الإسلامي؟

وقال: «إن لدينا شاهدين لا غير لاسم قحطان في نقشين يدلان على مجموعة إقليمية ثانوية مرتبطة بمملكة كِـنـدة في القرن الثالث الميلادي، ويبدو أن المسلمين قد صاغوا من ذكرى هذا الاسم معنى جديدًا، لابتكار نسب يوحد هوية جماعية أكبر بكثير مما كان عليه الحال».

إنها مواضيع في غاية الأهمية والخطورة استعرضها الكاتب، ومن الخير أن تُقرأ قراءة كاملة دون تلخيص؛ لأنها تترابط منذ الطبقات الأولى من الأدب العربي في القرن الأول الهجري، وما سببته الهجرات والأنظمة السياسية خلال عصر الخلافة في تغيير معنى كلمة «يَمَن» على نطاق واسع. والكاتب يرى أن كلمة «اليَمَن» العربية كانت في الأصل تشير إلى الاتجاه الجغرافي الجنوبي قبل الإسلام، وكانت كلمة «اليمن» مؤشرًا مرنًا للاتجاه، لا اسمًا خاصًا لشعب أو وطن معين.

ويرى أن بداية التفريق المفاهيمي بين وسط الجزيرة العربية وجنوبها كان في بدايات الإسلام، حسب رواية أبو زرعة الدمشقي (ت: 281هـ/ 895م). ويرى أن التكامل بين الجنوبيين والشماليين استغرق وقتًا قبل دمج «اليمن» مع باقي الجزيرة العربية. وبعد أن أصبح لشتى أصقاع الجزيرة العربية مصطلح مكّن أهلها جميعًا من الاندماج في مجتمع متخيل واحد، أصبح اليمانيون/ الجنوبيون جزءًا من هوية جماعية عربية أوسع. ومع ذلك، فقد عرّف اليمانيون أنفسهم: «عرب الجنوب» (اليمانية، اليمن، قحطان)، في مقابل «عرب الشمال»، الذين حددوا هويتهم تبعًا لجدهم الأكبر: عدنان، معد، نزار، ومضر، وكل منها تسمية تحمل دلالات متشابهة إلى حد كبير. ويرى الكاتب أن الإسلام غير تلك التسمية إلى اسم جامع هو المسلمون والأمة الواحدة بغية إذابة العنصريات في كيان واحد، مع الإبقاء على يمانية الجغرافيا لا يمانية النسب -العنصر.

ثم تناول الشِعر والحزبيّة اليَمانيّة ممثلة في شعر «أبي نواس»، مستشهدًا بقصائده الحزبية مدحًا لليمانية وقدحًا للنزارية الشمالية” لأن أبا نواس عاش في جيل شهد صدامًا بين الجماعتين في العراق. ويذهب مستشهدًا أيضًا بالشاعر «دعبل بن علي الخُزاعي» كممثل للجيل التالي لأبي نواس. وفي غمرة هذا الاضطراب، يكرر دعبل موضوعات شِعر اليمانية عند أبي نواس، مع مزاعم جديدة وأكثر جرأة، فقال في ملحق مقاله: «وفي حين أن أبا نواس قد تجنب التصريح بحكم اليمانية لقبائل شمالية معينة واكتفى بمدحٍ عامٍ للجنوبيين مع هجاء القبائل الشمالية، فإننا نجد دعبل يبالغ في خصومته بتصوير خضوع الشمال لليمن». وهذا التحول يتمم اعتزاز دعبل بيمانيته القوية.

وفصل القول تفصيلًا في آفاق دعبل الشعرية اليمانية وموقفه العنيف من العباسيين الذين ناصرهم اليمانيون في البداية. وأضاف: إنه لا بد لنا من دراسة سياق الشِعر ووظيفته بشكل أدق، عن الهوية اليمانية والعروبة في أدب القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي. ومضى في دراسته التحليلية هذه حتى نهاية المقال، طارحًا خلالها سؤالًا: أهي هوية عِرقية أم ترفيه؟ وبعد بحث ممتع، يصل فيه إلى أن قيمة العِرق باعتباره هوية فاعلة في الهياكل السياسية في الشرق الأوسط قد تراجعت، معتمدًا على دراسة الباحثين Kennedy وPohl.

وليس من شك أن هذا البحث ممتع ومثير: ممتع لأنه استعرض موضوعًا لم يتناوله أحد من الكتاب العرب، ومثير لأنه تناول موضوعًا يشتد اختلاف الباحثين حوله، وهو عروبة اليمن قبل الإسلام. والدكتور ويب قد طرح ما عنده وما هو مؤمن به، وتلك غاية ما يتطلبه البحث العلمي الرصين. سواء أكانت بعض نقاط طرحه مصيبة أم غير مصيبة، إلا أن الكثيرين سيرون فيه صوابًا، وكثيرين أيضًا سيرون فيه خطأ، وخير المقال ما أثار لأنه يفتح الطريق إلى إيجاد حقائق تدعم هذا أو ذاك.