سطور من نقوش المسند الحميري

في بحوثه المستمرة عن النقوش والرسومات التاريخية، كشف الأستاذ «عباد الهيال» عن ثمانية نقوش مختلفة من أماكن مختلفة، ولكنها كلها تنبئ عن حالة فكرية وعملياتية متقاربة، وهذا في حد ذاته يكشف عن مرحلة لغوية اشترك فيها اللسان الشمالي بلسان المسند.

سأرحل الآن من التاريخ القديم إلى التاريخ الأقدم، مع باحث متميز يولي أبحاثه هذه كل اهتمام، هو الأستاذ الباحث «عباد الهيال» الذي عثر على ثمانية نقوش مختلفة من أماكن مختلفة، ولكنها كلها تنبئ عن حالة فكرية وعملياتية متقاربة، وهذا في حد ذاته مهم. ومن خلال ترجمتها أو قل تفسيرها ومقارنتها بالفصحى، يتجلى لنا سعة اطلاع الأستاذ الهيال وتمكنه.

بدأت رحلتي معه بالعثور على خاتم نقش فيه: «سعد يكف»، وحتى الآن لا نعرف من هو هذا السعد اليكف، إلا أنه -في رأيي- يكشف عن مرحلة لغوية اشترك فيها اللسان الشمالي بلسان المسند كما أعتقد، وهي مرحلة توضح التقارب بين اللسانين في زمن لم أعرف بدايته، فأنا من مدرسة تذهب إلى أن صرف ونحو المسند غير صرف ونحو لسان الشماليين، وكان علماء اللغة الأقدمون يدركون هذا الفارق بين اللسانين، بل إن ابن سلام الجمحي (ت عام 231هـ/847م) روى عن عمرو بن العلاء (ت 154هـ/771م): قوله: «العرب كلها من ولد إسماعيل إلا حمير وجرهم»[1]. وقال عنه في موضع آخر: «قال أبو عمرو بن العلاء: ما لسان حِمْير وأقاصي اليمن اليومَ بلساننا، ولا عربيَّتُهم بعربيَّتِنا»[2]. وذهب الدكتور طه حسين إلى هذا القول، وذهب الشامي إلى عكسه، وذهبت أنا وسطًا بين، فلم أوافق د. طه في رأيه أن اليمن تكلمت بلسان الشماليين بعد الإسلام بفترة طويلة، ولكني أقول: إن لسان المسند مستقل بنفسه، ولكنه اختلط تدريجيا بعد انهيار الحضارة وقبل الإسلام بفترة طويلة[3].

وهذا عارض من الحديث اقتضاه هذا البحث الممتع وما قرأته عن النقوش التي وردت فيه، والتي أوحت لي أنها من العصر المختلط، وليس موضوعها هنا على كل حال، وفوق ذلك أنها ماتزال غامضة، ومايزال البحث فيها مستمرًا، ولم يقل فيها -حتى الآن- القول الفصل.

قرأت النقش الأول، فإذا خاتم نقش عليه اسم «سعد يكف» وكلمة «سعد» هي في الأصل اسم مسندي معروف في النقوش المعينية، والقتبانية والسبئية. ولعل لسان الشمال اقتبسته بفعل سيطرة الحضارة اليمنية، وكثيرة هي الكلمات التي أخذها لسان الشمال ولغاتها، أي لهجاتها، من لسان الجنوب ولغاته، وربما كان قول الباحث عن وجود ثلاثة رموز في نقش من النقوش لم يعرفها من نقوش المسند، ولا من الخطوط القديمة، قد تكون إفراز مرحلة الاختلاط التي أشرت إليها، حيث يكون تغيير الرموز واردًا نتيجة الاختلاط.

ومررت على النقش الصخري الثاني في «جبل النبي شعيب» في «بني مطر»، فعرفت منه أنه يتحدث عن المعبود «عثتر»، وأنه وجد في «ذي خمر»، وتحدث عن معاني خمر، ومن معانيها في لغة النقوش اليمانية: وَهَبَ، مَنَحَ أحدًا، والخَمْر: العنب بلغة أهل اليمن. وقد توسع الباحث في كلمة خمر ومشتقاتها في المسند وفي الفصحى توسع خبير.

ووقفت مع الباحث فأمتع ذهني بالنقش الثالث الموجود في مسجد إبراهيم بن حمزة، من «الزاهِر» في «الجوف». ومع أن هذا النقش قد امتحت أطرافه فهو كما قال باحثنا يتعلق بمسألة تشريعية، فهو يضاف إلى ما عثر عليه من نقوش تشريعية أخرى.

وواليت خطاي حتى توقفت عند النقش الرابع: وهو يبدو نقشًا من تلك النقوش الذرية الكثيرة التي حفلت بها نقوش الحضارات اليمنية، والتي دلت على روحانية تلك الحضارات إلى جانب مادياتها، كما أوضحت ذلك في كتابي «محاولة لفهم المشكلة اليمنية». وهذا النقش يرجع إلى صاحبه (الراجح أنه سمه “كرب”) بمناسبة إيفاء الإلهة له بأمر ما. وتساءل الباحث: هل يمكن أن نضيف سمه «كرب» في هذا النقش إلى القائمة التي كان يؤرخ بها؟ أم أنه اسم «مكرب» من مكاربة سبأ؟

كذلك أطللت على النقش الخامس الموجود في محل «بيت العويدي» بالقرب من «البَرَدُّون» في «الحدا» من محافظة «ذمار»، وهو من نقش في حصن أثري على مرتفع، وللحصن سور محيط به، وليس له إلا مدخل واحد هو باب الحصن. النقش هو تعويذة (حرز).

وأرشدني الباحث إلى أن النقش السادس قد تعرض لتلف شديد، ومما بقي منه يفهم أن كاتبه شخص تابع/ مولى لـ«شمر العمدي» (ذي عمد)، وصيغة اسم العلم (ح أ ف د) ليست مما أعهده من صيغ الأسماء في النقوش، والنقش مؤطر بإطار محزز، وقد دونت خارجه أسماء أعلام (رجال).

أما النقش السابع: فقد وجد في «مسجد نجاد» في محل «شراع» من «أرحب»، كان قد نشره «جلازر»، ثم أعادت نشره «ماريا هوفنر»، وصورته على المدونة الإلكترونية DASI غير واضحة، كما أن هذا النقش على DASI ينقصه السطر الأخير.

وكذلك النقش الثامن الذي كان المرحوم يوسف محمد عبد الله نقله في النقش الموسوم بـ(YMN 4)، وهو نقش إنشائي على صخرة في «المعسال» («وعلان» قديمًا) من محافظة البيضاء.

خرجت من هذه الرحلة -كما خرجت من سابقاتها- بمعلومات مفيدة وجديدة، وفي الوقت نفسه بأسى بليغ أيضًا على تفرق النقوش في بناء المساجد والبيوت، وعلى عدم الاهتمام بها قديمًا. وليس من حل إلا أن يعاد تجميعها من أي موضع كان، هي ليست نقوشاً تُعرض، بل تاريخ يُقرأ. والتاريخ لا يتبضع، وقد ينقطع، لكن الأبحاث كفيلة بأن تعيد خلقه من جديد، فيتوحد من جديد. إن اكتشافات التاريخ الغائب -التي يقوم بها علماء الآثار- اليوم لا تقل أهمية عن التاريخ الحاضر، بل تتفوق، لأنه تاريخ حضارة غائبة، فاستخراجها وتجميعها وإحياؤها ليس سهلًا كمراجعة مصدر أو مرجع. والاهتمام بالماضي واجب، وإلا سوف نستحق قول شاعر الإسلام الكبير «أحمد شوقي» عندما قال:

 مثل القوم نسوا تاريخهم   كلقيط عي في القوم انتسابا
أو كمغلوب على ذاكرة   يشتكي من صلة الماضي انقضابا

[1] ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، قرأه وحققه: أبو فهر محمود محمد شاكر، جدة: دار المني، الطبعة الثانية، 1974، السفر الأول، ص9. وانظر أحمد الشامي، قصة الأدب في اليمن، صص 41-42.

[2] ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، السفر الأول، ص11.

[3] انظر كتابي دراسة في الشعر اليمني القديم -الحديث.