إلى حديث التاريخ، وإلى المرحوم الأستاذ الدكتور وِلفريد مادلونغ، وتعريفه ببعض قيادات الإسماعيلية، ومن انشقّ عنهم، وذلك تحت عنوان “صفحات من تاريخ الإسماعيلية: شخصيات ومحطات تاريخية”، وهي مجموعة مقالات كتبها المرحوم متفرّقة في مجلات علمية مشهورة، وسمح لمجلة “المسار” أن تترجم وتنشر منها ما ترغب فيه. لقد كان المرحوم يمنيَّ الهوى، مع إنصاف ودقة بحث لم يرقَ إليها مستشرقٌ آخر، هذا إذا صحّ أنه مستشرق.
في هذه الأبحاث تناول المرحوم ثلاثة محاور: شخصيات محورية في تاريخ الإسماعيلية. التحولات الفكرية والانشقاقات والصراع الداخلي. موجز عن تاريخ المكارمة في اليمن قديمًا وحديثًا.
وقد مهّد للحديث عنها الأستاذ الكبير مدير تحرير مجلة المسار بقوله: «يتضمن هذا المقال عدّة مقالات قصيرة كتبها البروفيسور الراحل وِلفريد مادلونغ في مواضيع عدّة، جمعنا منها هنا ما له صلة بالإسماعيلية، كشخصيات منها ما هو إسماعيلي، ومنها ما هو منشقّ عنها، لكنها في الأصل كانت إسماعيلية، وأحداث وتيارات وأفكار لها أثر فكري وتاريخي؛ ليُضاف كلّ ذلك إلى ما سبق نشره في هذا الباب من مقالاته في مجلة المسار، لتكتمل الصورة وتزداد وضوحًا، خصوصًا أن كتابات البروفيسور تتمتع بالموضوعية والبحث الجاد والعرض المحايد، ما جعلها أكثر تقبّلًا ونفعًا. وقد قدّمناها حسب التسلسل التاريخي، وذيلنا كل مقال بمصادره الخاصة كما تركه الكاتب».
ولنا أن نتهيّب مما كتبه البروفيسور عن موضوع الإسماعيلية وما انشقّ عنها، لأنها تناولت من المواضيع ما سيناله من وخز الإبر، لإبرازها كما كانت عليه، لا كما أراد خصومها أن يستمروا في تقديمها، كما فعل آباؤهم بها من قبل. ولأن البروفيسور ذو بسطة في العلم بها، دون تعصّب أو هوًى معها أو ضدّها، ولا ميل مع هذا الاتجاه أو ذاك، كما فعل الكثيرون من الكُتّاب والمستشرقين. وهو قد تناول في هذه التعريفات والأبحاث ما يُرضي معلوماته وضميره العلمي. وإذ أقول ذلك، فلعِلمي بما أصاب الإسماعيلية من أضرار خصومها السياسيين والمتمذهبين والجهلة، بسبب فلسفتها وعلومها. وبالنظر إلى ما عُرف عن قياداتها من خروج على الإسلام كما صوّروها، تبدو شجاعة البروفيسور في إبراز ما اطمأنّ إليه ورضي به، بالرغم من كثافة التجنّي وكثافة الجناية.
بدأ البروفيسور في هذه المختارات بالحديث عن ميمون بن الأسود القَدّاح، وما أدراك ما أُنزِل على هذا الرجل من تهم وهدم ديني وأخلاقي. وسوف يثير هذا عند متعصّبي المذاهب والسياسة أمواجًا من النقد والتجريح، لأن ما كتبه يُساقط مفاهيمهم الجافية كما تتساقط أوراق الشتاء.
ثم ثنّى بالحديث عن رجل لا يقلّ اختلاف الناس فيه، وهو حمدان بن الأشعث قرمط، زعيم حركة القرامطة في سواد الكوفة. ثم تناول بالحديث شخصية مركزية في الدعوة الإسماعيلية، وهو منصور اليمن الحسن بن حوشب النجار الكوفي، مؤسّس الدعوة الإسماعيلية في اليمن. وهذا الزعيم لا يقل أهمية عن فقيه الدعوة الإسلامية أبي حنيفة النعمان، فكلاهما يُعتبر من الذين رسّخوا الدعوة فكرًا وسياسة.
وإذا كان منصور اليمن هو أول من أقام دولة إسماعيلية، فإن النعمان أول من بسط الفقه والفكر الإسماعيلي، ومن خلالهما نتعرّف على حقيقة الإسماعيلية سلوكًا وعقيدة، ومن خلالهما نطلّ عليها إطلالة كاملة.
ثم تحدّث عن ابن الكيال أحمد بن زكريا، وهو عالم غير مشهور كثيرًا، واعتبره عالمًا شيعيًا، وأنه كان داعيةً لأحد أئمة الإسماعيليين، فتخلّى عنه الإمام بسبب أفكاره الهرطقية. وفيما رواه عنه، نُطالع صفحات من الغموض الذي اتّسع لكثير من التهم السيّارة، بحيث إنها تلامس هذا وذاك، ولا تستقرّ عند هذا أو ذاك، بل تجعلها رُجومًا لكل من يريد إلصاقها بهذا أو ذاك.
ومن ابن الكيّال انتقل إلى الحديث عن حمزة بن علي اللبّاد، مؤسس مذهب «الدروز»، وهو ممن انشقّ عن الإسماعيلية، وأسس مذهبًا تبرّأ منه «الموحِّدون الدروز» أنفسهم، ولكن «الدرزية» لُصقت بهم بفعل استمرار خصومهم وأعدائهم السياسيين في تشويههم.
ومن الدرزي ومشاكله، عاد إلى الحديث عن «المكارِمة»، وهو اسم شائع دون أن يعرف الكثيرون نسبته إلى زعيم، فجاء البروفيسور فنسبها إلى أبيها كما سترى، وهذه الفرقة متواجدة في «نجران» منذ القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي.
وخُتمت هذه الأبحاث ببحث عن «الحقائق» في النظام المعرفي (الغنوصي) للإسماعيلية، والفرق المشابهة، في بحث لا يخلو قط من ثمار طيبة.
فهذه البحاث ما سترى يكمل بعضها بعضًا؛ لأنها تمضي في نفس السياق وتدور حول نقس المحور الفكري والثقافي والسياسي للإسماعيلية ومن انشق عنها وستقل بآرائه الخاصة.