ثمة مشكلة أخرى عانى ويعاني منها المسلمون، تتعلق بظاهرة الاستشراق الوافدة من الخارج، حيث الناس منها على طرفي نقيض: بين معجب غالٍ، ومبغض قالٍ، فاستغرق الأول في إعجابه، استغراقًا جعله لا يرى سلبياته، ونفر الثاني فلم يستفد من إيجابياته.
وجاء الأستاذ الدكتور «بركات محمد مراد» بعقليته الفلسفية، فوضع ظاهرة الاستشراق في مساحات رمادية وأخرى بيضاء.
وفي بحثه القيم والممتع معًا، تناول ملامح واتجاهات التيارات الاستشراقية، والمستشرقين والحضارة العربية الإسلامية، وعقودًا من أنشطة الاستشراق الأوروبي، فبعد أن عرّف الاستشراق بمعناه العام ومعناه الخاص، لم ينكر «الجهد الواضح الذي قام به المستشرقون لدراسة تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وإن كانت تشوبه الأهداف الاستعمارية، كما يقول “إدوارد سعيد” و”مكسيم رودنسون Maxime Rodinson”». ثم شرح أسباب ذلك شرحًا موضوعيًا وشيقًا، وأشار إلى أن للاستشراق اتجاهين مختلفين «في ما يتعلق بالأهداف والمواقف إزاء الإسلام من خلال ضباب كثيف من الخرافات والأساطير الشعبية. أما الاتجاه الثاني فقد كان نسبيًا بالمقارنة مع الاتجاه الأول أقرب إلى الموضوعية والعلمية، ونظر إلى الإسلام بوصفه مهد العلوم الطبيعية والطب والفلسفة. ولكن الاتجاه الخرافي ظل حيًا حتى القرن السابع عشر وما بعده، ولايزال هذا الاتجاه للأسف حيًا في العصر الحاضر في كتابات بعض المستشرقين عن الإسلام ونبيه».
وتحدث عن مستشرقين كبار وقفوا في وجه الظلم والإجحاف الذي لقيه الإسلام والحضارة الإسلامية، مثل المستشرق “ريتشارد سيمون Richard Simon”، والفيلسوف “بيير بايل Pierre Bayle” والدكتور “هادريان ريلاند Hadrian Reland”، أستاذ اللغات الشرقية في جامعة أوترشت بهولاندا، وصاحب كتاب «الديانة المحمدية» الذي وجد من الكنيسة الكاثوليكية ردة فعل عنيفة تمثلت في إدراجه في قائمة الكتب المحرم تداولها، و”يوهان ج. رايسكه J. J. Reiske”، وغيرهم.
وسيجد القارئ أن الأستاذ الدكتور قد ساح في بحثه هذا سياحة علمية موفقة وممتعة، حيث ألم بموضوعه إلمامًا جيدًا من كل الجهات: علمًا وفقهًا وأدبًا وشعرًا… الخ، وشرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وأنا على يقين مطلق من أن قارئ هذا المقال سيخرج منه بزاد وفير.