حميد العواضي

لهجات الجزيرة العربية كما وصفها الهمداني

أما الدكتور حميد العوضي أستاذ اللسانيات، فأتحف العدد بدراسة عن «لهجات الجزيرة العربية كما يصفها الهَمْدَانِي في كتابه: صفة جزيرة العرب» فقدم وصفاً جغرافياً للغات أو اللّهجات يساعد على التَّعرف على واقع اللغات وتنوعها في جزيرة العرب.

ومن أجواء الحوار النقي نفسه، كان مقال الدكتور «حميد العوضي»، أستاذ اللسانيات، عن «لهجات الجزيرة العربية كما يصفها الهَمْدَانِي». وكان هذا المقال قد سبق نشره، لكن مؤلفه أعاده منقحاً مزيداً مزيناً بالخرائط العلمية، مما استدعى إعادة نشره، لجدة ما أضيف إليه، ولأهميته.

إن حياة لسان اليمن الهمداني تعاوره متناقضان: محب غال، ومبغض قال؛ محب لا يرى فيه عيباً، ومبغض لا يرى فيه حسناً، فجاء الدكتور العواضي في هذا المقال وفي ما كتبه، بين ذلك قواماً، وهذا ما ينبغي للباحث أن ينهجه ويتخذه سبيلاً، فلا يرى بعين واحدة، ولا يسلب حسناً هو في صاحبه، ولا يضيف إليه ما ليس فيه. إذ إن لكل إنسان عالم أو جاهل محاسن وعيوباً، وللهمداني سلبيات وإيجابيات سياسية، وله إيجابيات وسلبيات علمية أيضاً، وبعملية توازن تجد أن إيجابياته تفوق سلبياته بما لا يقاس، «وأي الرجال المهذب»؟! و«كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه»، وهذا بالضبط ما يقف عليه الدكتور المنصف العواضي، فحديثه عنه حديث إنصاف، ومقولة عدل، فلم يغل، وكان بين ذلك منصفاً. وإن إنساناً في حجم الهمداني وما أعطاه للغة والجغرافيا، ليستحق البحث بإنصاف، وليس من شك عندي أن التعصب من كلا الجانبين قد أحاط به الدكتور خبراً، فتجنبهما.

كان الهمداني عالماً لغوياً وجغرافياً كبيراً وشاعراً جيداً، وهذا ما يهمنا أن نقرأه وتستفيد منه، ومن سلبيات وإيجابيات مواقفه السياسية ما يبرز كإنسان بكل ألوانه، ونحن نعرف أنه تعرض لود الصديق فغالى فيه، ولعداوة الخصيم فأسرف. وأتمنى من دكتورنا أن يتناول تاريخه بطريقته العلمية.

بالنسبة للمقال سنجد الدكتور قد تناول بإنصاف الهمداني اللغوي المتفوق، فأبان في مقاله عن كفاءة ممتازة ملكها الهمداني الجليل، وقد اهتم دكتورنا بما كتبه الهمداني عن اللغة العربية واللهجات اليمنية وبقايا الحميرية، فكشف عن ساحة يجب أن تتوالى الأبحاث فيها، لأن الاهتمام باللسان هو اهتمام أيضاً بالكشف عن الحضارة الإسلامية والحضارات القديمة، وكما نعرف، فدراسة الألسنة طريق مهم للكشف عن الحضارات الغاربة، ولعل من أهم ما قدمه الهمداني هو أنه في كتابه صفة جزيرة العرب قدم «وصفاً لجغرافيا اللغات، أو اللّهجات كما صِرْنا نسميها اليوم. وهي اللهجات التي كانت سائدة على أيامه في الجزيرة العربية». وهذا في حد ذاته توفير ساحة واسعة للبحوث فيه، ومن المؤكد أن من ليس له لسان، فليس له حضارة، وقد وفر عالم اللسان العربي الهمداني الفصيح، إلى جانب ما فهمه من «قلم المسند»، وإن لم يكن في مستوى الباحثين المتخصصين والدارسين المعنيين، ومع ذلك فما أعطاه في هذا الباب إضاءة مفيدة.

وقد حدد الدكتور – وهو من علماء الألسنة – أن هدفه من هذا البحث «تحقيق النص تحقيقاً علمياً بإخراجه مضبوطاً لغةً وأعلاماً، ثم تحليله للتَّعرف على واقع اللغات في جزيرة العرب كما يصفها لسان اليمن أبو محمد الحسن بن أحمد الهَمْدَانِي (280-360هـ/ 893-971م)، والكشف عن خصائص طريقته في وصفها، وبيان جغرافيتها، بحيث يمكن إِضَاءة ما أَشْكَلَ من المواقف حول لُغة اليمن وعلاقتها بالفصحى. كما يهدف البحث إلى التعريج على مواضع الاختلاف بين ما جاء عند الهَمْدَانِي، وما ورد في كتب التراث حول وصف اللهجات أو تلقيب بعض ظواهرها. كما يهدف إلى إسقاط الوصف على خرائط تقرِّب المادة إلى الأفهام، وتشرع لدراسة جغرافية تاريخية أوسع وأدق».

ومما بدا – على أن الدكتور فحص كتاب صفة جزيرة العرب فحصاً دقيقاً – أنه عثر على نص نشر ضمن كتاب صفة جزيرة العرب، مفصولاً عن سياقه، «وقد اعتمدنا تحقيق القاضي محمد بن علي الأكوع، طبعة مركز الدراسات والبحوث اليمني، وهي طبعة أُصِيبت بعيب يخص هذا النص، من حيث إنها وضعت شطراً منه في صفحة (ص248)، ثم قطعت استمرار الكلام فيه بصفحة (ص249)، ثم استأنفت النص في الصفحة التالية (ص250). ولا نعلم بالدقة مدى الأخطاء الشبيهة أو الأكثر خطراً أو الأقل على نصوص الهَمْدَانِي مما اعتور هذه الطبعة. لذلك فالدعوة ملحة للمراجعة والنظر في كل ما نشر من تراثه إلى الآن، دون نكران للجهود التي بُذِلت، بل بالعرفان لها بسبق الفضل وجميل العمل».

ثم يقول مدققاً فاحصاً: «ومع هذا فقد رجعنا إلى طبعة المحقق نفسها الصادرة عن دار اليمامة في الرياض، سنة 1974م، ص277-279، التي لم تختلف عن الطبعة المعتمدة هنا، كما رجعنا إلى تحقيق العلامة داود هنريك موللر D. H. Müler (ت1912م)، وهي الطبعة التي نشرت في دراسات سابقة».

وقد أشرت إلى هذا النص -عمداً- لما في تحقيق الكتب من أهمية بالغة، وأمانة مسؤولية ثقيلة، ولما في الحرص على الدقة كما يدعو إليها دكتورنا من واجب علمي صعب، وليس هو نافلة مسترخية.

وهنا أترك الحديث لعالم الألسنة، ليسبح القارئ معه في بحر عميق يلتقط منه الجواهر.