بعد تلك الجولة سأطوف مع معلم آخر يهدي إلى الرشد سبيلًا، وهو مقال للدكتور عبد الله القيسي عن «مقاصد الشريعة.. مرجعية القيم وبوصلة الأحكام»، ويشتمل على ثلاثة محاور:
1. غايات الدين ومقاصد الشريعة.
2. نشأة المدارس المقاصدية واختلافها.
3. تطور المدارس المقاصدية وتجريدها.
وهي محاور مهمة لدراسة مقاصد الشريعة؛ إذ إن المقاصد هي حل لكثير من القضايا المتشابكة عند أولئك الذين يؤمنون بأن النصوص كما وردت لهي خير وسيلة في ملاءمة الظروف المستجدة، وهي في الحقيقة نوع من الاجتهاد المطلق. وذلك أنه بدون النظر إلى المقصد والغاية، فإن القضايا تتحجر في زمن معيَّن وتتجمد.
صحيح أن الأحكام القرآنية سارية المفعول لا تتبدل ولا تتغير، ولكنها في الوقت نفسه تتبع الحالة التي هي فيها، فمثلًا عندما أوقف عمر بن الخطاب -بموافقة الصحابة- عطاء المؤلفة قلوبهم، فهم لم يخالفوا النص، وإنما أدركوا أن الحال قد تغيرت، وأن تطبيق النص باقٍ يعمل به في حالة مشابهة لتلك الحالة التي فرضت في حينها ودعت الحاجة إليها.
وقد أحسن د. القيسي في تصديه لهذه الحالة المهمة والمنقذة من تهاويل الفقهاء المتزمتين، لأن المقاصد كما يقول بحق «هي روح الشريعة وغايتها ومرماها ومغزاها، فبمعرفة المقاصد يتبين الإطار العام للشريعة، وتتضح الصورة الشاملة للتعاليم والأحكام وأوجه الحكمة منها، وفي ضوئها تتكون النظرة الإجمالية للفروع».
تناول المحور الأول الفرق بين غايات الدين ومقاصد الشريعة، وقال: «إن مقاصد الشريعة هي ذاتها مقاصد الدين»، نافياً أن مقاصد الشريعة ليست مقاصد الدين، وأن المدخل إلى دراسة مقاصد الدين يختلف عن المدخل إلى دراسة مقاصد الشريعة. ومضى يؤكد هذه الحقيقة المفيدة بالآيات، ويطبقها على أصول الإسلام الثلاثة، العقيدة والشعائر والشريعة.
ثم مضى بخطى رصينة يتحدث عن المقاصد بين مدرستي الجويني والغزالي، ومسلك هذين العالمين الجليلين وتلاميذهما. ثم بعد ذلك يتحدث عن أن المفاسد ضربان، فشرحهما شرحًا كافيًا.
وأنا أعرف، وغيري يعرف، أن نظرية المصالح المرسلة تدين للإمام مالك، وللمفكرين المعتزلة، والزيدية، وغيرهم. وفي هذا السبيل يقول العلامة المجدد “محمد رشيد رضا” -كما يقول الباحث- إنه لم يرَ من أطنب في شرح المقاصد مثل العلامة أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي الأندلسي (790ه/1388م)، وإلى جانب المالكية كان ثمة علماء من مذاهب أخرى، بمن فيهم علماء الحنابلة كالعلامة نجم الدين الطوفي (716هـ/1316م)، في رعاية المصلحة، هو أدق وأوسع من القول بالمصالح المرسلة وأدلته أقوى.
وأنا أعتبر هذا البحث والذي قبله من المراجع الهامة التي يعود إليها من يرغب في الكتابة عن الموضوعين، ولا غنى عنهما بأية حال.