سأبدأ بما كتبه الكاتب الكبير قاسم بن علي الوزير تحت عنوان في «ذكرى ثورة 1367هـ/ 1948م» وأشهد شهادة مؤرخ أنه جمع فاستوعب، ولخّص فأوضح وعرض فأجاد؛ لقد لخّص الحديث عن الثورة الدستورية تلخيص عالم سياسي واجتماعي متعمّق في علمه، وما كتبه عنها يصلح بالضبط أن يطلق عليه ما يسمى بحق «جوامع البحث» لما احتوى عليه من تحليل دقيق في عبارات موجزة، وبلاغة فائقة، وحقاً إنه «متنٌ جامع» يكفي لمن له معرفة حقيقية بـ الثورة الدستورية أن يدخل أجواءها براحة فكرية ممتعة، سواء أتفق معه أم اختلف. أما من ليس له علم بها، أو له إلمام بها فقط، فإن مقاله يشكل له «منطوقاً ومفهوماً» – كما كان القدماء يسمونه – لبداية علمية ظافرة، فهذا المقال على صغره كبير بما حواه وتضمنه، فهو بالفعل «متن» قويّ الأركان تقوم عليه «شروح» واسعة، وكتب تفصيلية متعددة.
وأنا لا أقول هذا – عَلم الله – بدعوى قرابة أخوية، فما أنا كما أعتقد من أهل هذا التوجه، ولكنها الحقيقة التي وجدتها أمامي عند قراءة هذا المقال المفعم بحقائق واسعة، وربما يكون موقفي هنا كموقف جدّي «الهادي بن إبراهيم الوزير» عندما قال في ترجمة أبيه: «لا أقبح من ثناء الأبناء على الآباء وإن كنت لا أذكر إلّا حقاً»، وأنا أقول لا أقبِّح من العاطفة أن تخفي حقاً، وما قلته عن مقال أخي هو ما أعتقده صدقاً.
كم كنت أتمنى أن يوضح لنا رأيه فيمن صاغ «الميثاق» فربما أثرى البحث بضوء جديد، وربما أثار نقاشاً وحواراً وانتهى إلى إضافة جديدة، لكنه لم يفعل، ووعد أن سيفعل، وموعدنا إن شاء الله ملتقى الندوة القادمة.
آتي الآن إلى مقال ممتع، كتبه الأستاذ الباحث العلامة محمد عزان بعنوان «ثورة الدستور خطوات في الإصلاح السياسي»، وكعادته وسعة اطلاعه العلمي فهو لا يكتب إلّا بحثاً شيقاً.. وبتواضع العلماء بدأ مقاله باعتراف الباحث «لم أعش تلك الفترة التي ثارت فيها ثورة الدستور حتى أكون شهيداً عليها، بَيد أني سمعت ممن شهدوها وقرأت لمن كتبوا عنها من مؤيديها ومعارضيها، وتأملت ميثاقها الذي اتفق عليه مؤسسوها، واستأنست بما نُقل عن منظّريها وقياداتها، وصدَّق مُجمله آخرون حتى من خصومها؛ ففهمت أن الحركة الدستورية كان لا بد أن تكون لتُجري لـ«نظام الحكم الفَردي في اليمن» عمليَّة إصلاحية، تستأصل منه الأورام المرضيّة المستعصية، لعلّه يتعافى من داء الاستبداد والتّخلف، ويفسح المجال للتغيير والتحديث للوصول إلى استبدال النظام الإمامي التقليدي بنظام دستوري يمضي في مسار عصري يحترم الإنسان ويرتقي بالشعب، ويمكن من اللّحاق بالمجتمعات المتحضرة ويستفيد من تجارب الآخرين».
وختم مقاله أيضاً بالقول: «على أننا – بُعد سبعة عقود من وقوع الحادثة – لا نعرف على وجه الدقّة حقيقة الملابسات السّياسية والدوافع الأمنية والمسوغات الدينية التي أدّت إلى ذلك، لا سيما أن بين أطراف الحادثة شخصيات لا يُستهان بها ديناً ومسؤولية وخُلقاً، وإنما نقرأ ما وُضع بين أيدينا من كتب التاريخ، ونسمع ما يُقص علينا من حوادث الصراع، ونَحكي ما يروى لنا من فصول المرحلة، ولم نُجر في ذلك بحثاً استقصائياً موسعاً ومعمَّقاً، حتى نقول في تلك الأحداث أكثر مما قُلنا هنا.. وعند الله تجتمع الخصوم».
وأشهد لقد وفق بهذه الفقرة القصيرة في استخلاص النتيجة، بالرغم من غموض المادة وعدم توفرها بالشّكل المطلوب، فمن المعلوم أن وقائع الثورة الدستورية قد ألقي عليها الكثير من الإخباريات والتلفيقات والتهم، حتى كادت تخفى معالمها أتختفي بين ركان التلبيس[1]، ومع ذلك تمكن شيخنا من العمق فيما وراء الصورة، فاستخلص منها رؤية حقيقية لواقع غامض. وقد وزّع مقاله في ثلاثة أقسام:
القسم الأول: موجز تاريخي، والثاني عن ظروف الثورة وأبرز معالمها، والثالث دراسة لبعض جوانب الميثاق. فبالنسبة للقسم الأول فقد استشهد فيه بحق بما قاله أستاذنا الراحل الكبير «أحمد محمد الشامي» عن العبث بـ «النظرية السياسية الزيدية» فيما أطلق عليه أستاذنا الشامي: «ورثة النظرية» الذين سبّبوا الانحراف عن النظرية نفسها، ومع أني اتفق معه في المضمون، إلا أني خالفته في دقّة هذا المصطلح، وأنا أزعم لنفسي أني حريص على استخدام المصطلحات التي تتواءم على محتوياتها، لا على ما انحرفت عنه، وعُرفت به خطأ، وكنت قد كتبت في وقته مقالاً قصيراً أُبيّن رأيي في هذا المصطلح وعدم موائمته لمحتواه، وقلت: إن مصطلح «خلف النظرية» هو الأدق في التعبير، معتمداً على قوله تعالى ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: 59] ولم يوافقني رحمه الله على رأيي هذا، فأنا أرى أن «خَلَف النظرية» هم من عبث بالنظرية، وليس من ورثها؛ لأن هناك في رأيي فرقاً بين الورث و التوريث، فالورث حقّ ليس فيه خلاف، أما التوريث فهو اغتصاب للورث وعبث به، ومن هنا فأنا أفضل كلمة «خَلَف النظرية» على ما استخدمه أستاذي باسم «ورثة النظرية»؛ لأنها أوضح دلالة على الانحراف، و للناس بعد هذا التوضيح أن يأخذوا بما يرونه صواباً.
وفي القسم الثاني من المقال تمكن من إبراز نقاط لم يمسسها أحد قبله فجلّاها. وأتفق معه في أن الاقدام على اغتيال الإمام يحيى حميد الدين كان خطأ، ولكني أذهب إلى أنه خطأ سياسيً، لاديني؛ لأن كل المعارضة باختلاف رؤاها اتفقت على سوء الحكم واتفقت على ضرورة التخلّص منه، ووافقت على قتل الإمام بما فيهم علماء زيدية ومثقفو من في القاهرة ومن في عدن ومن في صنعاء، واعتمد علماء الزيدية – الذين اشتركوا في الميثاق – على نظرية وجوب الخروج على الإمام الظالم وقتله.
وحتى الآن فلم نعرف أحداً عارض الاغتيال سياسياً إلا الأمير علي الوزير والأستاذ أحمد نعمان فقد رأيا أن الاغتيال سيشكل عملية ارتدادية لزلزال الاغتيال، ومن المؤكد أنهم كانوا جميعاً ينتظرون موت الإمام يحيى ثم يعلنون الثورة الدستورية مع إقرارهم بحق قتله، إلّا أن الميثاق وقائمة موظفي الدولة انكشف وانكشف رجاله وأصبح الأمام يحيى يعرفهم فرداً فرداً، وهنا أصبح السباق على من يتغدى بالثاني.
يشرح القاضي عبد الرحمن الارياني في مذكراته انفضاح الأمر على الشكل التالي «في هذه الأثناء ارتكب الأخوة العاملون في عدن ضد الحكم الامامي .. تلك الغلطة التي وقى الله شرّها، وكانت حَريّةً بأن تطيح برؤوس، أو تملأ السجون بخيرة رجال اليمن قبل أن يتم شيء مما كان مدبراً، فقد كان الاخوان في عدن ينتظرون قيام الثورة، وكانوا قد اتفقوا مع من في صنعاء على إشعارهم ببرقية من التاجر «الشهيد الخادم غالي» إلى وكيله في عدن بصيغةٍ متفق عليها، ولم تأت هذه البرقية، وإنما جاءت برقية من وكيل بريطانيا التجاري في الحديدة عن تواطئ بينه وبين أمير اللواء القاضي حسين الحلالي بتكليف من ولي العهد، جاءت البرقية لتقول أن الإمام يحيى قد مات ميتة مشبوهة، وبموجبها أرسل والي عدن مندوباً إلى الأمير إبراهيم يعزّيه بوفاة أبيه، وقبل أن يتثّبت الاخوان وينتظروا وصول البرقية المتفق عليها تسرعوا واعتمدوا على برقية الوكيل التجاري الذي كان مدفوعاً من القاضي حسين الحلالي، بحجة أن الاخوان قد أنساهم الارتباك عن تبليغهم، فتسرعوا بنشر الميثاق المقدس وفيه أسماء كل العاملين في الحقل الوطني ودعاة الإصلاح، وفيه تشكيل الحكومة الجديدة ومجلس الشورى، وإعلان السيد عبد الله بن أحمد الوزير إماماً دستورياً»[2]
فالحكم بتخطئة الإقدام على الاغتيال ينبغي أن يوضع في أطار معرفة دوافع الإقدام عليه أيضاً، مما قد يوفر كمية من التبرير لتخفيف الخطأ الذي حصل بسببه سباق بين الطرفين، فإما أن يتغدى بهم الإمام، أو أن يتغدوا به وبولي عهده، وكان أن تغدوا بالإمام، وتعشّى بهم «ولي العهد».
وفي القسم الثالث: استعرض أهم مرتكزات التغيير فيما تضمنه نص «الميثاق الوطني المقدس» في مجالات الإصلاح في نظرية الحكم ومؤسساتها وفي المجال الإداري والتنموي، فأجاد؛ لأن التعرّف على الشيء من خلا صورته هو وبواسطة أثره المباشر أدق وأصدق في توصيفه والتَّعرف به.
أصل في نهاية الحديث عن المقالات إلى مقال الأستاذ محمد عبد الله الفسيّل الذي كتبه تحت عنوان «لمحات خاطفة عن ثورة 48 الدستورية»، وقد تعمّدت أن يكون ختام هذه القراءة مقاله عملاً بالقول السائر «ختامه مسك»، والمعروف عن الأستاذ الفسيل أنه مجادل عنيد، يثير الحوار الساخن في كل حين، أثاره في عدن، وأثاره في «سجن قاهرة حجة»، وأثاره في «مركز الدراسات والبحوث اليمني»، وهو في الوقت نفسه يتقبل ما يُكال له بعنف بانفتاح، وهذه ميزة نقدّرها له، إيماناً منّا بحق حرية الرأي المخالف، وبنفس المستوى إيماناً بحق التصحيح والتوضيح، ولهذا نشرنا كل المحاضرات والمقالات على ما هي عليه، ولم نعترض علىّ أي منهما، وتُرِكَت أراءها لمن يقرأها، ولمقالٍ خصّصته لقراءتها وهو هذا الذي أكتبه، ثم إن «مجلة المسار» على استعداد لنشر أي مقال يقوّم هذا المقال، لأن المراد هو المزيد من التوضيحات وإلقاء أشعة جديدة على جوانب مظلمة، وهو بعد ذلك حوار بين أصدقاء فكر يبتغي الوصول إلى الحقائق.
كان الصديق الأستاذ محمد الفسيل في مقاله محدّداً هدفه من مقاله، وأنه ليس بحثاً موضوعياً وإنما هو لمحات سريعة، ولأنها لمحات، فقد يكون من المفيد توسيع المختص بإضافات تكميلية من أجل اكتمال الصورة، واستكمالاً للفائدة، وتوضيحاً للغائم منها، ومزيداً من النقاش بقصد الإثراء.
من الواضح أن الصديق «الفسيل» أراد بالتركيز على «الأحرار» كل أجنحة المعارضة، ولا أختلف معه، فكلهم كانوا أحراراً، إلا أن الزمن اليوم أصبح زمن المصطلحات «الحاصرة» فـمصطلح «الأحرار» في تاريخ اليمن المعاصر يسرع بالذهن تلقائيا إلى حزب الأحرار الذي أسس قبيل قيام الثورة الدستورية بأربع سنوات، وهذا التوضيح ضروري حتى لا يُظن أن الأستاذ «الفسيل» ركّز لمحاته على جناح واحد من أجنحة المعارضة الدستورية، التي نبت ريشها في الداخل أيضاً؛ لأن كلمة الأحرار قد التصقت بقوة بهذا الحزب الذي سمي حزب الأحرار؛ ومن الجليّ فالمتأخر لا يطغى على حركات المتقدم، ومن ثم يقضي التخصص بتمييز الأدوار.
ويعجبني في الصديق الزميل محمد عبد الله الفسيل أنه يثير بآرائه قضاياً تتطلب بحثاً، وتستدعي نقاشاً، ومن ثمّ فهو يطرح آراء يستوجب الدخول معها في حوار إن لم يكن في جدل.
وأول ما أجدني في نقاش معه هو – من أجل احتفاظ المصطلحات بمضامينها ووقائعها – أن ما ذهب إليه من وصف العمليات العسكرية التي قام بها بعض قادة الإمام يحيى: ضد المناطق التي تمردت بعد خروج الأتراك بأنها من أجل طاعته، يبدو لي أنها بحاجة إلى تقويم، فهذه التسمية قد تكون صحيحة بالنسبة لتمردات «اليمن الأعلى» ولبعض الحالات وليس كل الحالات، فبالنسبة لعمليات «اليمن الأسفل» فإن التعبير الأدق – فيما أعتقد – هو توحيدها؛ لأنه من الثابت الأن وبالوثائق أن اليمن الأسفل كان على وشك الانفصال، فلم يعد الأمر أمر طاعة، وإنما بترٌ وتجزئة، وكذلك عملية «تهامة» واسترداد الحديدة من قوات الإمام «الإدريسي». ومن هنا تبدو أهمية التفاصيل.
أيضا طرح الأستاذ الفسيّل فكرة جديدة لم يسبقه إليها أحد فيما قرأت، وهو أن تسمية «الميثاق» – بدلاً من «الدستور»، كان نتيجة لتجنب ما قد أثاره الإمام يحيى من تشويه لكلمة الدستور وهو رأي مهم فعلاً وأحترمه، لكنه يحتاج إلى توثيق، لأني وجدت في نصوص الميثاق نفسه ما يتعارض مع هذا الرأي، فـ (المادة 3) تنص على «أن يكون نظام الحكم شوروياً (دستورياً) بما لا يخالف الشريعة السمحة الصحيحة من كتاب الله وسنة رسوله» كما نصت (المادة 4) «يقوم على وضع «الدستور اليمني»، لجنة خاصة يعينها مجلس الشورى من أهل الكفاءة والصلاح علماً وعملاً، ويجب أن تستعين في ذلك بـ الجامعة العربية وحكوماتها والعبقريين من رجالاتها، ثم يعرض على الإمام ما يقررونه، ليحيله حالاً إلى الجمعية التأسيسية» وتنص (المادة 5) «بعدما تضع اللجنة هيكل «الدستور» – بمواده المفصلة يجب أن يرفع إلى الإمام ليحيله على الجمعية التأسيسية لتنظر فيه وتناقشه..» الخ.
فهذه النصوص تثبت أن واضعي «الميثاق» كانوا على علم بأن الميثاق غير الدستور وأن الدستور يجب أن يكمل بأناةٍ ودراسة معمقة، وعن طريق الجمعية التأسيسية، وليسوا هم من يصيغه، ومن ثم فقد يُفهم بقوة أنهم لم يخافوا إطلاق اسم «الدستور» تجنباً لدعاية الإمام، ومع ذلك فالمرجو من الصديق الأستاذ الفسيل المزيد من التوضيح، أما الميثاق، فهو ما اتفق عليه للعمل به كنظام لهم قبل تطبيق الدستور، فهو بمثابة المقدمة للدستور، أو أنه مبادئ للثورة الدستورية في خطوطه العريضة، إذ تنص (المادة 39) على أن النظام الذي يحكمون في ظله «يُسمى هذا النظام: الميثاق الوطني المقدس، ويوافق الجميع على أن من خان أو يحاول أن يخون معنى من معانيه بنية سيئة يكون خائناً لله والمسلمين وتجري عليه الأحكام اللائقة به»[3]
وهذا الميثاق كما سبق القول قد صاغه السيد الفضيل مع خبراء من علماء القاهرة وتدارسه مع المسمري ويحيى زبارة وغيرهما، ثم صحبه معه إلى صنعاء، فدرسه العلماء دراسة معمقة، ثم أرسل إلى عدن، وأُقرّ من قبلهم، إلّا من اعتراض على الوظائف، كما ذكر ذلك الأستاذ نعمان رحمه الله، كما تقدم.
وأريد هنا أن أضيف إلى ما ذكره من «كتيبة الشباب» – واسمها الحقيقي «الكتيبة الأولى» – ما رواه أحد صانعيها، لمزيد من اتضاح الرؤية وتوفير كمية من المواد المفيدة – وهو الأستاذ يحيى زبارة قال: «وبدأنا نفكر بإنشاء نادٍ أو جمعية تضم اليمنيين، ولم يكن لنا مكان نجتمع فيه أو نعقد فيه الندوة، فاجتمعنا في حديقة الأندلس: «عبد الله بن علي الوزير، محمد محمود الزبيري، الشيخ أحمد محمد نعمان، محمد صالح المسمري، يحيى زبارة، محمد الجفري من حضرموت، من الجنوب، أحمد الجفري أيضاً، حسين الصافي». وسميناها «الكتيبة الأولى»؛ سميناها الكتيبة الأولى، واجتمعنا في حديقة الأندلس، وعملنا تلك الوثيقة واحتفظ بها الشيخ أحمد محمد النعمان عنده كما هو دأبه، فهو يحتفظ بكل شيء، وهي عنده، تلك الوثيقة التاريخية. وسميناها الكتيبة الأولى. ثم بدأنا ننشر ونكتب ونتكلم عن أوضاعنا في اليمن وعمّا فيه من تخلف .. » الخ.
ويضيف: «كانت هناك جريدة اسمها «الشورى» لصاحبها المسلم المجاهد محمد على الطاهر، وكان ينشر لنا بعض الأشياء عن اليمن، وكانت صداقته أكبر مع الشيخ أحمد محمد نعمان. وهكذا بدأنا نشاطنا في القاهرة، وبدأنا في تاريخ، أو في تكوين الكتيبة الأولى والتي تمثل الوحدة اليمنية جنوباً وشمالاً، واستمرينا على هذا المنوال حتى تخرّجنا من كلياتنا ومن جامعاتنا، وبدأنا نطبع المناشير وبعض الكتيبات عن اليمن وأوضاعها».
وأثار الأستاذ الفسيّل موضوعاً آخر يستحق النقاش من أجل إثرائه وهو رأي جديد لم يطرحه غيره، وهو أن الثورة الدستورية سقط أشخاصها، ولم تسقط فكرة الدستور وأنها بقيت حتى تحققت بإعلان «الجمهورية»، وأجدني – مع احترامي لرأيه – غير متّفق معه حول ما ذهب إليه إلّا من ناحية الشكل، أما المضمون فقد تم سحق الدستور تحت جنازير الدبابات العسكرية و«صميل» المشايخ الأقوياء، وتم في ظلها إلغاء الدساتير المدنية، وإلغاء الأحزاب، وتكميم الصحف، ووضع دستور عسكري قام على أنقاض دساتير مدنية، وكان الحال شبيه بما حدث في تاريخ الإسلام المبكر، عندما خلق الحكمُ الملكي الفردي الوراثي اسمَ الخلافة الإسلامية ليعمل هدماً في ظلها لـ «نظام الشورى والانتخاب والعقد الاجتماعي» الذي كان قائماً. وهذا ما حدث بالفعل للدستور المدني، ولهذا فأنا لا أعتبر قيام «الجمهورية العسكرية» امتداداً للثورة الدستورية، وإنما ترديداً للانقلاب العسكري في مصر بقيادة الرئيس الذائع الصيت «عبد الناصر»، وبشكل باهت.
كذلك رأيه الذي ذهب فيه إلى أن الثورة الدستورية قد تحولت إلى «انقلاب»، فهذا أولاً رأي أحترمه كرأي، ولكنه بحاجة إلى توثيق لأقتنع به، ما لم فسيظل رأياً، ولن يكون تاريخاً، ويكفي القول في عدم تقبّله بسهولة أن «الثورة الدستورية» كلّها لم تعش سوى 24 يوماً؛ أي أن الزمن لم يسمح لها بهذا التحوّل المقيت؛ لأن الواقع أنها تحولت ضحية شهيدة.
وثمة رأي آخر أختلف معه فيه، ولا أحتكر صوابه، فهو قد أرجع سبب سقوط الثورة الدستورية إلى أن أصحابها، لم يكونوا على مستوى فكرتها.
وهو رأي أقدره كذلك ولا أتفق معه، «الدستوريون» هم من صنع الفكرة وهم من نمّاها وهم من صاغها وناقشها وتعب في نقاشها، فهم في مستواها، وأقدر على حملها، لكني أفهم هذا التعليل لو كانت الفكرة نفسها سقيمة، أما وهي بهذا السمو فمن الصعب قبولها.
وأخيراً .. أثار موضوعاً كثر فيه التداول، وخلاصته أن عدم ثقة وجدت بين الإمام الدستوري وبين أعضاء حزب الأحرار، وهو بحاجة إلى بحث أيضاً من كل الجوانب من الجانب التاريخ كيف وقع، ومن الجانب السياسي لماذا وقع، وكل من أثار هذه الموضوع استند إلى مقولة منسوبة للشهيد «عزيز يعني». بدون أن نعرف من كلّمه بالضبط، وأنا لا أدافع عن هذا أو ذاك ولكني أبتغي وجه الحقيقة المجردة.
تلك إذا مجمل قضايا أثارها الصديق الكريم وله الشكر على ما تقدم به من آراء أثارت نقاشاً وتساؤلات، ودعت إلى أن تُبحث القضايا بمناظير علمية خالصة، ولا يحسن ردّها أو قبولها، إلا بنتيجة ما تفرزه المناظير العلمية.
—————————–
[1]. انظر في ذلك كتابي غيوم حول الثورة الدستورية – تحت الطبع
[2]. عبد الرحمن الارياني، مذكرات الرئيس القاضي عبد الرحمن بن يحيى الارياني، الطبعة الأولى 2013م، ص 133، يحيى أحمد زبارة، مذكرات يحيى بن أحمد زبارة، مجلة المسار العدد 16- 17، ص132-133.
[3]. انظر نص الميثاق المقدس وملحقه في رياح التغيير ص208-214؛ مذكرات الرئيس القاضي، ج 1 ص 54-156؛ وانظره مع القَسَم في ثورة 1948م، للزبيري ص47- 558.