من نقوش المسند الحميري (في الحرب والبناء)

في سبيل الكشف عن أشد التاريخ اليمني غموضًا، يوالي الأستاذ الباحث في الآثار "عباد بن علي الهيال" أبحاثه في تاريخ "الحضارة اليمنية" في مختلف عهودها، فيقدم لنا نص نقشين مسنديين - لا ندري أين موقعها في الزمن - يعرضان صورةً قاتمةً نرى فيها اليمانيين يقاتلُ بعضُهم بعضًا، ويوسعُ بعضُهم للغُزَاة في أرض اليمن، بل يصطفون مع الغزاة على إخوانهم وأهلهم.

وفي سبيل الكشف عن أشد التاريخ اليمني غموضًا، يوالي الأستاذ الباحث في الآثار “عباد بن علي الهيال” أبحاثه في تاريخ “الحضارة اليمنية” في مختلف عهودها، وفق ما يجد من تراث، غير متواصل، ففي النهاية يمكن عند تجميع ما عثر عليه، أن تظهر معالم تاريخ يتكامل. والأمل في تحقيق هذا الهدف قوي لوجود باحثين ينهجون هذا النهج الذي بتواصله سيكشف لنا عن مزيد من ملامح “الحضارة اليمنية”.

تحت مسلسل: سطور من نقوش المُسْند، كتب باحثنا عن نقوش لها صلة بالحَرْب والبِنَاء، وثقه بعرضه الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد الصلوي، فدعم ما توصل إليه الأستاذ الهيال.

يطالعنا بحثه بصرخة ألم: “ما أشبَهَ الليلةَ بالبارحة! ها هنا نقشان مُسْنديان غير كاملين، لكنّ أسْطُرَهما الناقصة تعرض صورةً قاتمةً من تاريخنا البعيد، صورةً نرى فيها اليمانيين يقاتلُ بعضُهم بعضًا، ويوسعُ بعضُهم للغُزَاة في أرض اليمن، بل يصطفون مع الغزاة على إخوانهم”! وهذان النقشان يتحدثان عن فترة لا ندري أين موقعها في الزمن إلا على وجه الترجيح، وقد تكون محصورة بفترة محددة، ولكن معظم النقوش التي ذكرها الدكتور الكبير المرحوم “جواد علي” في كتابه الشامل المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، تتحدث عن نهاية “الدولة المعينية”، كانت على يد “الدولة السبئية”، وانتهت على يد “الدولة الحميرية”، ودخلت “الدولة الحضرمية” في ذلك الصراع، كل ذلك داخل وطن الواحد، ولم يقتصر الصراع بين تلك الدول الكبرى، بل كان أشد وأضرى عندما تفككت عهود الحضارات، وإذا كان هدف صراعها هو التوسع، فهدف هذه القوى المتفككة، هو من أجل صيانة التفكيك، وهذه ظاهرة عامة في سائر الأمم، بيد أن المؤلم حقًا في هذين النصين أن القتال لم يعد بين يمنيين، وإنما أصبح بمشاركة خارجية تستخدم ضعاف النفوس لمقاتلة إخوان وأشقاء كما لو كان التاريخ يعيد نفسه.

ثم شرح الباحث طريقته في قراءة النصوص ووجوب توثيقها في المقام الأول، ثم تحدث عن محتوى النقش الأول الذي تآكل وبقيت منه بقايا تذكر معركة من تلك “المعارك التي خاضها السبئيون في وجه أعداء تآبوا عليهم من الأحبوش ومقاتلي السهرة وحِمْيَر وعشائر خَوْلان الجديدة: خولان صعدة”.

وبجانب هذا النفش، وجد كسر نقش آخر تحدث فيه عن وجود معارك شرحها تؤكد تلك الحقيقة المرة، ولكن الذي لفت نظري فيه أنه تحدث عن وجود كلمات حميرة ماتزال يمنيًا تتردد مثل “لِفي” التي بصيغتها المجردة ليست واردة في معجمات الفصحى، وهي بصيغتها المجردة بمعنى أدرك باقية على ألسن أهل اليمن إلى اليوم، وأن الشاعر الكبير الحسن بن علي بن جابر الهَبَل (ت ١٠٧٩هـ) رددها وهو يُفاخِرُ بأهل اليمن:

واسألْ لسانَ المعالي ما تَلا فِيْنا        وقُلْ لِلاحِقِنَا هل أنتَ لافِيْنا

وقد تتبع الباحث زمن بعضها، كما ناقش كلمات المسند والفصحى، ولعمري إن ما تحدث عنه له من الفوائد ما يجب الاستفادة منها. ثم تحدث عن النقش الثاني، فوجده يؤكد ما ذهب إليه النقش الأول من وجود قوى خارجية تستعين بها دول الداخل. لم يكتفِ الباحث بالنقشين المحاربين، فتحدث عن نقس ثالث يرد فيه اسم أسرة ورد اسمها في نقوش سبئية عدة، تحدث عنها بإسهاب، وفي النقش الرابع تحدث عن تملك زبر على منشأة خاصة بالماء يملكها رجلان هما كليب يرخم من بني سمه سميع ويشمر يشعر. ثم توسع في دراسته كما ستراه، وعرض نقشًا خامسًا عن أفراد هم أسد يُرحِب ويدُوم وضابِئ وربيب من بني رَنَيْن، وأنهم نصبوا هذا القَيْف للمعبد المسمى “حدثان”، وهو نصب معبودهم “مُنْضِحهم” سيّد/ حامي “البيت” من أجل سلامة هؤلاء الأفراد وفقًا لما أمرهم به معبودهم.

وهكذا أعطانا البحث فوائد لجوانب من السياسة والاجتماع والتدين، واستشرفت من خلاله على تاريخ قديم كان للباحث فيه فضل كبير على كشفه، وفضل كبير على سياحته فيه سياحة علمية جذابة.

وللباحث مقالات أخرى من هذا القبيل نشرت على صفحات المسار ويمكن مراجعتها في الاعداد السابقة أو على موقع المسار.