ترجمة: عبد الكريم الوظاف
أستهل الحديث عن مقال أ. د. “ديفيد ستيفان باورز” عن “نسخ آيتي الوصية بين النفي والإثبات”، ترجمة د. عبد الكريم الوظّاف. وقد لخص مدير التحرير موضوع هذا البحث في ثلاثة محاور:
1. مقدمة حول مسألة نسخ الآيات.
2. فقه الميراث في فترة عصر النبوة.
3. آراء المذاهب في الوصية والميراث.
ومنذ البداية أحببت أن أقف مع مترجم البحث، منوهاً بدقة عمله وحرصه وما قام به من جهد في ترجمته، فهو لم يستغنِ بما ترجم؛ ولكنه كان يعرض عمله على الكاتب ليتأكد من مقصده، ويتيقن من صحة قوله، وعليه فما نقرأه هو النسخة العربية من الإنكليزية طبق الأصل.
في المحور الأول تحدث الكاتب عن مسألة النسخ في القرآن، وهو موضوع مختلف عليه بين المذاهب والفرق، حيث يذهب بعض المفكرين إلى أنه لا يوجد نسخ في كتاب الله أبداً، ويرون أن الآية الكريمة التي جاءفيها: ﴿ما نَنسَخ مِن آيَةٍ أَو نُنسِها نَأتِ بِخَيرٍ مِنها أَو مِثلِها أَلَم تَعلَم أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ”﴾ [البقرة: ١٠٦]، المقصود بها آيات الله الكبرى في في الأنفس والآفاق، ونحن نعلم اليوم أن كواكب ونجومًا قد نُسخت بغيرها، وهي من العظمة لا يقدر أحد على نسخها إلا مَن خلقها وسوّاها، والآية تختتم قولها “أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ”، والإتيان بالنسخ دليل على عظمة الله وقدرته، فالنسخ إذن ليس في آيات القرآن الكريم، فأحكام الله لا تتناقض ولا تتناسخ، وما ظنوه تناسخاً هي أحكام تخص بعض الحالات، وأخرى تعالج بعض الحالات الأخرى، ولكل حالة آية لها أحكامها، ولا تعتبر تلك الحالات نسخًا ولا نسيانًا، والنسيان هنا بمعنى تركها على حالها شأن الكواكب التي هي باقية ولم تندثر ولم تنسخ بغيرها، والتي هي آيات الله الكبرى التي تتناسخ أو تلك التي تبقى.
وقد بدأ الباحث بمقدمة حول مسألة النسخ في القرآن، وما تذهب إليه المذاهب الإسلامية، وأشار إلى نفى بعض المعتزلة والزيدية وكثير من المفكرين النسخ أساسًا، بينما ذهب إليه فقهاء كثيرون من أهل السنة، واختلفوا في ما بينهم على عدد الآيات المنسوخة، فذهب البعض إلى أنها حوالي 235 آية، وتضاعف هذا العدد، في نهاية المطاف، واعترف السيوطي (المُتوفى 1505) بعشرين حالة نسخ، فقط، وخفّض شاه ولي الله (المُتوفى 1762) هذا العدد إلى خمسة. وذهب آخرون إلى حد رفض مبدأ النسخ برمته.
وقد أكد أبو مسلم الأصفهاني (المُتوفى 1066) أن النسخ لا يقع داخل القرآن، نفسه، على نحو ما فصله الباحث في مقاله الموضوعي الممتاز.
لقد تناول المؤلف موضوع وصية الإرث بإسهاب قبل الإسلام وبعده، والفرق بينهما أن الموصي في الجاهلية كان يتحكم بها كيف شاء بدون ضوابط كما هو الحال الآن في أوروبا وأمريكا، وجاء الإسلام فجدد الإرث بضوابط حاسمة وقوانين ثابتة، وبعد أن تحدث عن المواريث في القرآن الكريم تحدث عنها في السنة النبوية، ويخلص إلى القول: «كان الهدف من التقييد الثاني هو القضاء على التداخل الواضح بين الجوانب الطوعية والإلزامية لفقه الميراث».
وضرب مثلًا فقال: «إن أدب الحديث لا يُصور محمدًا على أنه أشار، مطلقًا، إلى نسخ آيتي الوصية. وحتى القول النبوي المأثور “لا وصية لوارث”، والذي يُنظر إليه، تقليديًا، على أنه دلالة على النسخ، لا يَذكر، صراحةً، النسخ. علاوةً على ذلك، هناك سبب للاعتقاد بأن هذا القول النبوي لم يتم تداوله في شكل حديث نبوي حتى الربع الأول من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي». ومن أهم ما تعرض له الباحث موضوع “وصية النبي” حيث «تحتوي العديد من أمهات كتب السُّنَّة على قسم، في باب الوصايا، بعنوان “هل أوصى لنبي؟”، وتنقسم الأحاديث الواردة في هذا القسم إلى فئتين عريضتين، تلك التي تُثير التساؤل عما إذا كان النبي قد ترك وصيةً، وتلك التي تُنكر أنه فعل ذلك».
ومعروف أن هذه القضية ماتزال من القضايا المثيرة التي اختلط فيها الدين بالسياسة، فكانت “فدك” تحجز عن “أهل البيت” حيناً، وتطلق حينًا بحسب الميول والمعتقد. وهي قضية بحاجة إلى بحث تاريخي بدون أي انتماء، ليس مجالها هنا.
ثم تحدث عن النسخ الكامل فقال: «لا يوجد في القرآن ولا في الحديث أية إشارة، صريحة، لنسخ آيتي الوصية. وأول إشارة صريحة لنسخ الآية 180 من سورة البقرة تأتي في بيان منسوب إلى ابن عباس». وأعتقد أن كثيرًا مما روي عن ابن عباس يشوبه الافتراء، وبما أن القرآن والسنة لم يشيرا إلى النسخ، فلا عبرة بما نسب إلى ابن عباس وغير ابن عباس. فما نسب إلى ابن عباس كثير من المفتريات تقربًا إلى الخلفاء العباسيين.
ثم تحدث عن النسخ الجزئي: فلم يقره، ثم تناول التخصيص، فذكر أن أداة التخصيص التأويلية «تكتفيان بتحديد جوانب من تلك الآية التي تدل على العموم» في الوصية. ثم تحدث عن البيانات التي تُشير إلى نسخ الآية 240 من سورة البقرة، وناقشها بإمعان ثم تحدث عن عدم النسخ، ثم تناول مصنفات الحديث وما جاء فيها من حديث. وأخيراً تناول الخلاصة والخاتمة، وأبدى رأيه على نحو ما ستقرأه في بحثه.
وأشهد أنه بحث قيم جدًا أحاط به مؤلفه من كل جوانبه، وقد يختلف معه البعض، إلا أن الشيء المؤكد أن الباحث استوفى فيه كل شروط البحث العلمي الدقيق. وكم أتمنى أن تتوالى الأبحاث حول القضايا المثيرة على هذا الشكل وهذا الأسلوب.