نأتي الأن لنصغي إلى محاضرة الدكتورة «صفاء لطف عروة» عن «موقف الجامعة العربية من ثورة 1948م» وهي حائزة على درجة الدكتوراه في «تاريخ اليمن الحديث والمعاصر»، من جامعة صنعاء 2016م. ولعله من التدابير الخفية أن ينعكس أسمها واسم أبيها واسم أسرتها على محاضرتها؛ فهي صافية الوضوح لطيفة العرض مشدودة العرى. إن الحديث عن الجامعة العربية حديث ذو شجون وأسى، فهي قد تشكلت – كما قال عظيمها عبد الرحمن عزام رحمه الله -: «لتكون مرآة يرى العرب فيها عيوبهم». وصدق رحمه الله، فما من مرآة كشفت عيوبهم وعرّت سوأتهم كما فعلت مرآة الجامعة العربية، والمتتبع لسبب نشأتها يجد أنها حيلة بريطانية نسجتها أصابع «مستر ايدين» – وزير خارجية بريطانيا آنذاك – لتمنع قيام الوحدة العربية الحقيقية. ونجح في ذلك نجاحاً باهراً ليس بيديه، وانما بأيدي العرب أنفسهم، وكان الحال كما وصفها ووصفهم شاهد من أهلها هو الملك عبد الله بن الحسين الأول – ملك الأردن – أحسن الوصف: «جراب أدخلت فيه سبعة رؤوس -اليمن والعراق والشام ولبنان ومصر وشرقي الأردن – بسرعة عجيبة في وقت كانت فيه سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي وشرقي الأردن تحت الانتداب البريطاني والعراق ومصر تحت لمعاهدتين الساريتين إلى الأن. فالدول العربية كانت حينذاك في قيود انتدابية وعهدية، ماعدا اليمن ونجد، فإنهما كانتا حرّتين. وفي هذا يتجلّى للإمة العربية التسابق العجيب بين دولها السبع: تسابق بين مقيّد ومطلق؛ إما قيد احتلال وإما قيد عهد وإما قيد جهالة، وفي نظر الدول نفسها نعم الحجاب الساتر لما يريدون كتمه، ونعم التمدّح غير المجدي بما يريدون إذاعته، وظن الغريب الراضي عن هذه الجامعة أنها ستكون خيراً أداة لدوام الانتدابيات، ودوام الأحكام العهدية، وإنّي لتارك لغيري تفسير هذه الظنون» [1] ومن الواضح أن هذا النص يعكس بدقة رؤية الحكام لا رؤية الشعوب، أما الشعوب والمقاومون لظلم حكامهم وللاحتلال، فلم يكتشفوا ما وراء الحجاب الساتر إلا بعد أن عصفت بها أعاصيرها. وهذه ما نشهده في قضية الثورة الدستورية، حيث كان رجالها يعتمدون عليها ويؤملون فيها ويثقون بنجدتها، كما أن زعماء المقاومات العربية آنذاك كلهم يؤملون منها تأييداً حاسماً لنضالها ضد الاحتلال الخارجي، وضد الاستبداد الداخلي، ومن هؤلاء «دستوريو اليمن» في القاهرة فقد تعرّف عبد الله بن علي الوزير على عبد الرحمن عزام وفي رسالة عبد الله بن علي الوزير إلى الحكيمي ما يوضح ذلك الموقف. وأكتفي هنا بذكر وعد عزام له بالنصرة والتأييد «فكنت أكثر الاجتماع به بمناسبة الحفلات»، وذات يوم أرسل له عزام يطلبه، وأجريا جولة من الحديث انتهت إلى طلب من عبد الله بن علي الوزير تأييد الجامعة العربية للحركة الدستورية في اليمن فوعده عزام بالدعم، وقال: «أظنه الرأي الوحيد وهو الأصوب وأنا موافق عليه، فقلت له: هل أخبر من يهمهم الأمر في اليمن بذلك؟ فقال: نعم، وطَمْئنْهم. فودعته مع السلامة، وإلى اللقاء» كذلك اجتمع السيد «الفضيل» بالزعيم عبد الرحمن عزام عند عود الفضيل من اليمن إلى القاهرة في المرة الأولى، من أجل التأكد منه فيما سبق له من دعم الثورة الدستورية أثناء الحديث الذي دار بيني وبينه وبين عبد الله بن علي الوزير، وأيضاً في نفس الوقت حرّر كل من عبد الله بن علي الوزير وحسين الكبسي رسالة إلى عزام مع الدكتور عبد العزيز «أكدّنا فيه ما قد وعدنا به فيما إذا مات الإمام فجأة»، وعندما عاد الفضيل «إلى صنعاء وكلّه ثقة وطمأنينة من عزام ومن العراق لا حد لها». ثم «وصل الدكتور عبد العزيز وأخبرنا أنه سلم الخطابين كلاً لمن هو له وأنه أتفق بعزام وعرف منه تصميمه على ما وعدني أولاً به.. ثم ما أكدّه للفضيل ثانياً وطمأننا كثيراً». وعندما فشلت الثورة الدستورية ذهب رئيس الوفد الدستوري وأعضاؤه لمقابلة وفد الجامعة فقال لهم عزام – بعد حديث – بحزن بليغ: «أنا أعرف أنكم وقضيتكم على الحقّ، ولكني غُلبت على أمري، فماذا أصنع لكم؟»[2]. هناك قضية ما زلت متشككاً فيها، ولم أصل فيها إلى يقين، وهي مقولة أن الملك هاجم وفد الحكومة الدستورية، مندّداً بقتلهم الإمام يحيى، مع العلم أنه في لقائه بهم، كما سجلها رئيس الوفد الدستوري لم يهاجمهم؛ بل هاجم الإمام أحمد، وأظهر تعاطفه مع الحكومة الجديدة. وأغلب ظنّي أن ما رواه الدكتور عبد الوهاب عزام عند وصوله إلى الرياض يوم الخميس 15 جمادى الأولى1367 ه/ 25 مارس 1948م، أي بعد مصرع الثورة الدستورية بـ 11يوماً في زيارته الخاصة ما يعطي ضوءً جديداً. قال الدكتور عبد الوهاب عزام: إن الأمير سعود بن عبد العزيز دعاه إلى شرب الشاي في بستانه «الناصرية» بـالرياض «.. وتحدث الأمير بعد الشاي عن اليمن واشتد على ابن الوزير وجماعته وسماهم: «بغاة»، وتلا آيات من القرآن الكريم في البغي، وأنشد هذا البيت: ولا ريب أن البغي يصرع أهله وأن على الباغي تدور الدوائر وظل الحديث في هذا الشأن و استفظع قتل الإمام، وذكر وفد ابن الوزير (الورتلاني وابن الوزير والزبيري) وما قال جلالة الملك عبد العزيز للورتلاني، وخلاصتها – وكنت قد سمعتها من قبل – أن الورتلاني طلب أن يخلو بالملك فكلّمه في حال اليمن و استنجده لابن الوزير، وقال: إن الذين يهاجمون صنعاء لصوص يريدون كنوز صنعاء لا ينتصرون لأحمد بن يحيى ولا غيره – وكانت هذه دعوى عبد الله بن أحمد وأنصاره حين استنجد بـالجامعة العربية لترسل طائرات لتخويف المغيرين على صنعاء – فلما ردّ الملك هذا الطلب، قال الورتلاني: الجامعة العربية إذاً تحمي اللصوص، فغضب الملك وقال: بل أنتم اللصوص والقتلة»[3]. ولعل هذا هو الأقرب إلى دقّة ما حدث، فالملك قد غضب عندما وجد نفسه متهماً بأنه أحد اللصوص التي تحميهم الجامعة العربية. هذا ما أردت إضافته على محاضرة الدكتورة، مساهمة منّي لما قدمته من خلال محاضرتها القيمة والمفيدة من صورة واضحة القسمات، وأشهد أنها أحسنت العرض، وأحسنت الأداء، وكان عرضاً صافياً كاسمها. [1]. أثار الكاملة للملك عبد الله بن الحسين، بيروت، الدار المتحدة للنشر، بدون اسم المصنف ومقدمة بقلم عمر المدني، الطبعة الثانية 1979، ص 238. [2] . ثورة 1948م؛ رسالة عبد الله بن علي الوزير إلى الحكيمي، بيروت: دار العودة، الطبعة الأولى 1982، ص85-486. [3]. عبد الوهاب عزام، رحلات عبد الوهاب عزام – الرحلات الثلاث القاهرة: مطبعة الرسالة 1370 /1951، ص، 236-237. أما الوثيقة التي اعتمدت عليها الدكتورة فليتها توسعت فيها وذكرت نصها، فقد يكون فيها ما يوضح ويبين. وأتمني على الصديق لطفي نشرها لنستفيد مما جاء فيها، والقضية بحاجة إلى مزيد من البحث