كان حلماً صغيراً نما بنموِّي، ورافقني في حياتي كلها؛ منذ تلك اللحظة التي بدأت أذني تلتقط أخبار عنترة بن شداد، ونحن الإخوة والأخوات الصغار نتحلق حول أختي أمة الخالق رحمها الله، وهي تساقط من فمها كلمات قصص عنترة، ولم تكن في الواقع تساقط كلماتٍ وألفاظاً، بل بوارق سيوف، ولمعان رماح، وحفيف سهام، فأرى سيف عنترة يقطف رؤوس الأبطال المتساقطة، وأرى الدم يتفجر من العروق المفتوحة، فأغمض عيني على صورة مرعبة، ومع ذلك فإني لسماعها لحريص.
نموت فنما حلمي، كنت وقتها في الرابعة عشرة من عمري في سجن قاهرة حجة أدرس على أيدي علماء وأدباء الثورة الدستورية ودرست فيما درست تاريخ ابن الأثير الكامل وراعني ما قرأته عن مجزرة كربلاء، ومجزرة المدينة، وإحراق الكعبة، و.. و.. إلخ، وقرأت كيف فرقت السياسة بين صديقين حميمين من كبار رجال العرب هما مصعب بن الزبير وعبدالملك بن مروان عندما نزغت السياسة بينهما، وكيف انقلب الحميم إلى خصيم، وكيف لم يبك عبدالملك وقد رأى رأس صديقه مصعب ملطخاً بدمه، ملقىً في طشت بين يديه، يتحلق في أسفله دم أسود، فلم يحزن، لهذه النهاية المأساوية وإنما أطلق فرحته المجلجة (إنها والله لقديم صحبة ولكن المُلْك عقيم) وهي جملة معبرة عن أقسى ما في النفس من وحشية. وتسأل لماذا يقتل المسلم المسلم؟ وعلام؟ ولماذا؟
وزدت نمواً وزاد حلمي هو الآخر نمواً، وخلت أن العمل السياسي السلمي منفذ لإيقاف سلسلة الرأس المقطوع والجسد الممزق، زان الحوار بالقلم واللسان بدلاً من السيف والسنان، أجدى فعملت مع إخوة لي -اتفقت رؤانا على العمل السلمي – وقطعنا أشواطاً وساهمنا في إيقاف الدم المسفوك في الحرب الملكية الجمهورية، وما زال شعار السلام هو الراية التي تسير في ظلالها، نعمل على إسكات دوي المدافع وإطلاق ألسنة الأقلام، ولكن دهاليز السياسة عملت في الأحزاب ما عملته المذاهب في الدين فأراقت الدم وسحلت الجثث، ولحسن حظي فإن حزبي استمر يعمل للسلام، ولم يدخل في مواجهة قط، ولم يدع إلى إراقة نقطة دم، إلا أنه لم يتمكن حتى الآن من الوصول إلى الشاطئ الأمين.
غادرت بحلمي مجال السياسة إلى تحقيق حلمي عن طريق الفكر والبحث والتنقيب عن العوائق والأسباب التي تبقي سحابة الدم والكراهية تمطر بوابل هتان، فرأيت مع الكثيرين رفاقاً لي يرون نفس الرأي ويجمعنا هدف واحد أن نؤسس مركز التراث والبحوث اليمني ليفي بتحقيق هذا الهدف، ومن هذا المركز انطلقنا باحثين منقبين في داخل النفس وخارجها في الماضي والحاضر، في هذا الخصام الألد بين المسلمين وهذا الصراع الدامي والتفريق الوحشي وانتهينا إلى أن الداء داخلنا ترفده أمراض الخارج، فنجد القابلية الواسعة لاستيطان المرض القديم والجديد.
إزاء هذه الحقيقة البشعة رأينا أن التقريب بين المذاهب الإسلامية والقبول بالرأي الآخر وحرية التعبير هو السبيل الوحيد لإطفاء حرائق التعصب التي يشعلها السياسيون وعلماء السلطة والمتعصبون، والتي سيخف حوار الفتنة ويغمد منطق السيف ويقوم مقامهما حوار القلم الرصين، وكذلك فإنها تعيق بكل تأكيد طريق المستقبل والاستفادة من إيجابيات الحضارة المعاصرة، فإذا تم ذلك فإن البغضاء ستزول تدريجياً، والنار ستتضاءل، وسيحل محلها حوار المحبة والحضارة، ويتكون من هذه الثقافة تيارٌ معرفيٌ إنسانيٌ تنمو في حقوله اليانعة ثقافة الإنسان، ومنها تنبثق سياسة الإنسان، لأن ما يجري اليوم – كما قلت مراراً – سياسة تخلق ثقافة كراهية وإماته، ونحن نريد ثقافة رفيعة تخلق سياسة رفيعة، ولن تنجح إلا إذا أصبحت الثقافة من القوة بحيث تنشأ سياستها مالم فستظل السياسة التسلطية تستخدم ثقافتها السائدة، فلتغتسل القلوب من أحقادها، ولتتوقف السهام عن انهمارها أولاً كي يبدأ الحوار دوره الفعال. من هنا حملت المسار على عاتقها مسؤولية التنوير بثقافة المحبة بالاتصال بالتواصل بالحياة بالحضارة بالإنسانية،