يحتوي عدد 65 من “المسار” على باقة من الأبحاث المتنوعة والمفيدة سياسية واجتماعية. وهي ترجو من الله سبحانه العون، وتأمل من الناس الإرشاد في ما تنشره وتذيعه، وهي منذ نشأتها فاتحة باب الحوار -ضمن أدب الحوار- لكل من يرغب أن يحاور وينقد ويناقش، لأنها تعتقد اعتقادًا جازمًا بأن الحوار والنقد الموضوعي يخصب ويثري.
تناول الأستاذ الباحث «بينوا شالاند» في مقاله الممتع موضوع اللامركزية في اليمن، فطاف محلقًا حول محاور مهمة مترابطة العرى، يشد بعضها بعضًا، ويوثق بعضها بعضًا، مما يعطي مقاله ميزة خاصة. وفي رأيي أن هذا المقال مهم للغاية، جدير بالقراءة العميقة المتأنية لما فيه إحاطة بالفترة التي كتب عنها بتجرد.
بدأ الأستاذ “بينوا” بمقدمة فرش فيها حديثًا لكل المحاور، وتمكن بجدارة من أن يلخص الجذر السياسي للامركزية بجملة واحدة، هي: «أن اليمن دولة ذات تاريخ طويل من التشرذم السياسي، يمتزج في الوقت نفسه مع انقسامات جغرافية فعلية، لكنّ اليمنيين عمومًا، معتادون على هذه الكيانات المجزّأة التي ولّدت أشكالًا واقعية للسلطة اللامركزية». وساق أدلته على ما قال.
ثم تحدث عن اللامركزية في تاريخ الجمهورية اليمنية قبل عام 2011، فذكر أن المطالبة بهما بدأت في الستينيات، ولعله يشير إلى رسالة كتبها المرحومان: النعمان والزبيري، طالبا باللامركزية؛ بل إني أذهب إلى أن أول من عرض اللامركزية على سلاطين الجنوب، هو الإمام يحيى حميد الدين، كما هو مذكور في كتاب رحلة الثعالبي، وما قام هو به من دور فيها، إلا أن الغريب أن الإمام أبقى الشمال شديد المركزية، ولسبب أجهله اكتفى الأستاذان بتلك الرسالة ولم يكرراها.
وأشار إلى ظاهرة مهمة، وهي تعايش المذاهب اليمنية تعايشًا سلميًا لعدة قرون، وفي رأيي أن هذا الرأي – وهو قائم على حقائق التاريخ – قد يكون من الأسباب الميسرة لتحقيق الدولة “للامركزية الاتحادية”، بخاصة وأن الأستاذ “ميسك” لاحظ أنّه من الممكن استبدال التفسيرات القانونية الشافعية والزيدية والاختلافات الدينية بالهويات المحلية.
ثم توسع في قراءة التاريخ الملتمس باللامركزية الاتحادية منذ الحكم العثماني لليمن إلى عهد الناس هذا، ثم توسع في الحديث عن الوحدة اليمنية حديثًا تاريخًا لاحظ فيه بحق أن الدستور بعد حرب 1994 تجاهل جميع بنود اتفاقية عمّان، المعروفة بـ«وثيقة العهد والاتفاق»، التي اتفقت عليها جميع القوى اليمنية، وخلص إلى القول بأن ما أعلنته سلطات الرئيس صالح من حكم محلي، قد نُفّذت بطريقة تفضيلية للدولة الموحدة؛ لذلك، ومن منطلق واقعي للسياسات، من الواضح أن السلطات الحالية تمكنت دائمًا من عدم تنفيذ أي إصلاحات لا مركزية، ووصل في بحثه إلى أن الفيدرالية حظيت بمستوى غير مسبوق من القبول الحقيقي والشعبي، لكن هذا التغيير الجديد سوف يترافق مع مشكلة تَدَخّل مموّلين أجانب مرهقين حملوا معهم المتاعب، الأمر الذي سوف يبطل مبدأ اللامركزية. وهذا صحيح، فالإخراج غير الحسن يعبث بالشيء الحسن، وهكذا كان البديل للامركزية هو الحكم المركزي المحلي.
ثم مضى فتحدث عما سمي «الربيع العربي»، وقسمه إلى موضوعين: الأسلوب اليمني والخليجي، وتحدث عن ثورة التغيير، وعن ثلاثة محاور شغلت الساحة السياسية، وهي محور أنصار الله، ومحور المطالب الجنوبية، ومحور اللقاء الثلاثي، وأهم ما جاء فيه أن الرئيس صالح غضّ الطرف عن استقرار مقاتلي القاعدة في جنوب اليمن، ما أدّى إلى تزعزع الاستقرار في الجنوب، وازدياد المعارضة لسياسات صنعاء. وقد أوفى هذه المحاور حقها من البحث.
وأراني أضيف أن فكرة «اللقاء المشترك» الذي تأسس عام 2005، جاءت من قِبَل المرحومين: عمر الجاوي من «الحزب الاشتراكي»، ومحمد عبد الرحمن الرباعي من «اتحاد القوى الشعبية»، وأسهم فيها كل من الإصلاح، وحزب الحق، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، لكن حزب الإصلاح استولى – بدهاء في النهاية – عليه واستخدمه في ركابه.
ثم تحدث عن دور «مجلس التعاون الخليجي» في منح الرئيس صالح وأسرته الحصانة الكاملة من الملاحقة القانونية، وقال بحق: «اتفّق المراقبون على أنّ دول مجلس التعاون الخليجي، بصفتها داعمًا خارجيًّا امتلكت فعليًّا حق النقض (الفيتو) في شؤون اليمن الداخلية، ولا تمثل موجة احتجاجات 2011» أي مطالب ثوار الحرية في ساحات التغيير المنتشرة في كل المدن اليمنية.
ومن ثورة الساحات انتقل إلى الحديث عن مؤتمر الحوار الوطني، فلاحظ أن عملية الانتقال «حدّدها مجلس التعاون الخليجي بالطريقة التي اعتبرها الأكثر ضمانًا لاستقرارها»، وكانت فكرة الفترة الانتقالية ضمن مواد المبادرة الخليجية التي انبثق عنها تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤلفة من الحزب الحاكم والمُعارضة بالتساوي. وأضاف إلى عامل تدخل المبادرة الخليجية في الشؤون اليمنية قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، التي أتاحت للمجتمع الدولي التدخل في عمل مؤتمر الحوار الوطني من خلال التمويل المالي ومشاركة الخبرات التقنية. قضى القرار الأوّل بالدعوة إلى إقرار تنفيذ تسوية سياسية مبنية على المبادرة الخليجية التي لم تكن قد اكتملت آنذاك، بالإضافة إلى اتفاقية الفترة الانتقالية المُقترحة، في حين كان القرار الثاني دعوةً واضحةً لعقد مؤتمر حوار وطني شامل.
ثم ذكر نقطة مهمة عن حق الرئيس في ضم 66 عضوًا إضافيًّا. وأنا أعتبر هذا البند سببًا في تهديم “الحوار الوطني” من الداخل، إذ إن المعروف أن أي حوار وطني يتم بالتساوي، ويمنع تمكين أي عضو أن يستقوي بأنصاره فيه.
ثم يقول: ومع أن المؤتمر لاقى دعمًا واسع النطاق من قبل المجتمع الدولي؛ غير أنّه اصطدم بأعداء لدودين أيضًا، وبحسب مراقبة الحياة السياسية اليمنية في الجنوب لفترةٍ طويلة «كان من الصعب العثور على شخصٍ في اليمن يؤمن بالحوار الوطني». إنّ توصية المؤتمر باستخدام الأموال القطرية للتعويض على الجنوبيين الذين طُردوا من أعمالهم بشكل غير قانوني أو الذين صودِرت أراضيهم كانت متواضعة للغاية، لا يمكنها إزالة موجة الشكوك لديهم «وفي وقتٍ لاحق، زعم الجنوبيون المنشقّون أنّ الـ85 عضوًا من الحراك، والمتواجدين في مؤتمر الحوار الوطني، لا يمثّلونهم فعليًّا، ومع ذلك شاركوا وصاغوا ووافقوا على معظم التوصيات التي اقترحت نظامًا فيدراليًا في عدّة أقاليم، كما وُعدوا حتّى بحق النقض (الفيتو) للجنوب في الشؤون الدستورية المهمّة، ومهما يكن من أمر فقد كان الإحساس بالإنجاز عظيمًا».
وعن لجنة صياغة الدستور ومنطق الأبواب المُغلَقة، قال إن لجنة توفيق الآراء اقترحت في مؤتمر الحوار الوطني أن يتمّ اختيار 30 عضوًا، من ذوي الخبرة الواسعة في القانون، إلاّ أنّ الرئيس هادي لم يُعيّن سوى 17 عضوًا كان معظمهم من حزبي الإصلاح والمؤتمر الشعبي العام، مقابل ممثّل واحد عن الحزب الاشتراكي اليمني، وأربع نساء، ومع أن الهدف من الدستور الجديد هو الحدّ من السلطة الرئاسية الواسعة، ولكن الرئيس هادي هيمن على الوضع، واستغلّ لجنة صياغة الدستور لتمديد ولايته. ولهذا فالكاتب يرى أن الدستور لم يخلُ من العيوب القانونية الخطيرة، وأتفق معه في هذا الرأي، ولعل أهم أخطائه الخطيرة أنه قسَّم الأقاليم تقسيمًا خاضعًا للسياسة الراهنة آنذاك والمناوئة لأنصار الله آنذاك، فحصر المنطقة التي هم فيها في إقليم ليس له منافذ بحرية ولا صحراوية، مما أدى إلى رفض قطاع كبير هذه التقاسيم، وبخاصة إقليم آزال الذي سمته نكتة بارعة «إقليم: إذا الوحوش حشرت». ثم إن هذه الأقاليم مخالفة لأي دستور؛ لأن دساتير العالم تنص على اتحادية الدولة أو مركزيتها، ولا تتدخل في عدد الأقاليم، وإنما الذي يحدد معايير الإقليم التي يستوجب به أن يكون إقليمًا لامركزيًا ضمن دولة اتحادية، هي لجنة مختصة تراعي فيه الجانب الاقتصادي بوجه خاص، ولهذا فهي تسمح لهذا الإقليم أن ينضم إلى إقليم آخر على أساس استفتاء شعبي، بينما راعى هذا الدستور الجانب السياسي فقط بدون النظر إلى الحالة الاقتصادية، ثم إنه راعى المذهبية وكرسها فجعل المناطق الشافعية تختص بأقاليمها، وجعل المناطق الزيدية تختص بأقاليمها، فكرس المذهبية دستوريًا، في حين أن اللامركزية لا تقيم للتمذهب وزنًا، لأنها أساسًا جاءت تلبية لعجز المركز الاقتصادي عن القيام بواجباته، أما أن يراعي أي دستور المذهبية ويجعل وجودها دستوريًا، فلا صلة له بمركزية ولامركزية، وإنما ينطبق على دولة مذهبية، ثم إن بداية صياغة هذا الدستور في ألمانيا وانتهى في أبوظبي، وسلم ناجزًا في صنعاء، فبدا كأنه صُنع في غير اليمن، وأنه من جملة المستوردات، وقد لا يكون ذلك معيبًا، إلا أنه في خضم صراع المنطقة وما أسفر بعده من اضطرابات أوجد الشك فيه.
ثم تحدث بتوسع عن المعنى المُتنازَع للفيدرالية (الاتحادية) حديثًا شاملًا ألتقطُ منه قوله إن الكثيرين يخشون «من أن تكون اللامركزية هي الخطوة الأولى في كسر وحدة البلد». وتأكيدًا لما ذهب إليه فعندما أصدرت كتابي «نحو وحدة يمنية لامركزية»، بعد إعلان الوحدة، عنون أحدهم في صحيفة: «لقد كفر زيد بن علي بالله وبالشعب». وفي حديث مع المرحوم الشيخ عبدالله الأحمر قال لي قرأت كتابك فلم أنم لأنه دعوة لتقسيم اليمن وتمزيقها، فقلت: بل هو دعوة لحفظ الدولة مما ستكون فيه، وفي حديث آخر مع القائد العسكري للواء تعز عبدالله القاضي، قال لي: لقد وضعتنا في مشكلة، انتقمت به منا، فقلت له: بل اللامركزية هي الطريق الأسلم لحل المعضلة التي نحن فيها، ولا ينتقم بالأفضل.
وجه آخر مختلف لما يكتبه الغربيون عن اليمن في هذا العدد، بينهما من الفوارق ما بين الصبح المبين والليل المدلهم؛ وإذ مثل الأستاذ «بينوا» وضوح الصبح، مثل «فارتيما» ظلمة الليل، ويتضح ذلك من خلال كلمة المترجم في توصيف الرحلة، وانعكاس الرحلة في لوحات «يورغ برو»، والإقبال الأوروبي على الرحلة، وخيال الصورة ومجافاة الواقع.
ليس لي ما أضيفه هنا بعد أن استخرج الأستاذ الدكتور حميد العواضي (حميد التوضيح والتبيين) كل ما في الكتاب من أساطير، وسأنقل كلمة المترجم كلها هنا كاملة، لأنه ليس في الإمكان اختصارها لشدة ترابطها ووضوحها وقدرة دكتورنا الحميد على حسن العرض وعمقه. بحيث أن تأخذه كله، أو تدعه كله، فلا حيلة في أخذ بعضه.
وإذا كان لي أن أتحدت في هذه الافتتاحية عنه، فسأتحدث عما إذا كان لقائل أن يقول: ما لنا ولمثل هذه المقالات وهي تنضح كذبًا؟ فأقول إن ضرورة الاطلاع على الرديء قد يكون في مستوى الجيد، فالاطلاع على الرديء ضرورة لتفنيده، حتى لا يتسرب إلى النقي، فيختلط فيه، ثم إن أصوات المدح لا تجذب الحديث عنه، ولكننا بحاجة إلى أن نعرف ما يقال عنا من أصوات القدح، حتى نفرز الصحيح من الكذب، وهذا بالفعل ما قام به أستاذنا “العواضي”، فأحسن إلى التاريخ اليمني بما ينقله من صورتي المدح والقدح، لنكون بتاريخنا عالمين.
يقول الأستاذ الدكتور “الحميد”: «شكلت رحلة ليودفيكو دي فارتيما -الجندي الإيطالي المغامر- مصدر إلهام للأوروبيين عن الشرق في مطلع النهضة الأوروبية. وثَمّ إجماع بين المؤرخين أن سردية الرحلة تنطوي على كثير من التشويش وعدم الصدقية. ولم يعدُّها أحدٌ مصدرًا تاريخيًا موثوقًا به، وإن انطوت على تجربة إنسانية طريفة، تخللتها ثنائية الصدق والكذب، المعقول والمتخيل، الملموس والوهم، مع غلبه الشطر الثاني من هذه الثنائية.
وقد تُرجمت هذه الرحلة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، تحت عنوان: «رحلة يونس المصري»، لأن «فارتيما» تَسَمى بيونس، وادعى الإسلام أثناء رحلته هذه. كما ترجم الزميل والصديق الدكتور عبد الغني الحاجبي نصه الخاص بتنقلاته في اليمن، وكشف ما اعتور روايته من خلل في السرد، وارتباك في الوصف، وضعف في المعلومة، وخيال لم يخلُ من سقم.
وتلقف الأوروبيون في حينها سردية فارتيما بشغف وولع، وتمت ترجمتها إلى جل اللغات الأوروبية، كما وقع رسم مشاهدها رسمًا اعتمد على الرواية المكتوبة والمترجمة.
وفي ما يخص رحلته في اليمن وقع الوقوف على أربع لوحات رسمها «يورغ برو» في ألمانيا، ونشرت آنذاك، وقد كان للدكتورة «ليلي فيلصن» فضل الوقوف عليها -مع كونها الآن متاحة على الشبكة- وصياغة هذه المادة عن اللوحات المرفقة بها.
وننشر المادة هنا من باب ربط الفن بالتاريخ، وتقدير الخيال بما له من علاقة بالواقع، مع التنبيه أن ما تمثله الصور هو انعكاس لما جاء في رواية فارتيما. وجِمَاع الأمر في أن الغرب قد تخيل الشرق بصورة عجيبة يجهلها الشرقيون، ولكنها صورة أخذت تتبلور في الذاكرة الغربية لصنع مزيد من الوهم في فهم هذا الشرق العجيب، وكما يشير إدوارد سعيد بما مؤداه أنها صورة الشرق كما يراها الغرب، لا كما يبدو عليه الشرق حقيقة تاريخية وواقعية».
سأرحل الآن من التاريخ القديم إلى التاريخ الأقدم، مع باحث متميز يولي أبحاثه هذه كل اهتمام، هو الأستاذ الباحث «عباد الهيال» الذي عثر على ثمانية نقوش مختلفة من أماكن مختلفة، ولكنها كلها تنبئ عن حالة فكرية وعملياتية متقاربة، وهذا في حد ذاته مهم. ومن خلال ترجمتها أو قل تفسيرها ومقارنتها بالفصحى، يتجلى لنا سعة اطلاع الأستاذ الهيال وتمكنه.
بدأت رحلتي معه بالعثور على خاتم نقش فيه: «سعد يكف»، وحتى الآن لا نعرف من هو هذا السعد اليكف، إلا أنه -في رأيي- يكشف عن مرحلة لغوية اشترك فيها اللسان الشمالي بلسان المسند كما أعتقد، وهي مرحلة توضح التقارب بين اللسانين في زمن لم أعرف بدايته، فأنا من مدرسة تذهب إلى أن صرف ونحو المسند غير صرف ونحو لسان الشماليين، وكان علماء اللغة الأقدمون يدركون هذا الفارق بين اللسانين، بل إن ابن سلام الجمحي (ت عام 231هـ/847م) روى عن عمرو بن العلاء (ت 154هـ/771م): قوله: «العرب كلها من ولد إسماعيل إلا حمير وجرهم»[1]. وقال عنه في موضع آخر: «قال أبو عمرو بن العلاء: ما لسان حِمْير وأقاصي اليمن اليومَ بلساننا، ولا عربيَّتُهم بعربيَّتِنا»[2]. وذهب الدكتور طه حسين إلى هذا القول، وذهب الشامي إلى عكسه، وذهبت أنا وسطًا بين، فلم أوافق د. طه في رأيه أن اليمن تكلمت بلسان الشماليين بعد الإسلام بفترة طويلة، ولكني أقول: إن لسان المسند مستقل بنفسه، ولكنه اختلط تدريجيا بعد انهيار الحضارة وقبل الإسلام بفترة طويلة[3].
وهذا عارض من الحديث اقتضاه هذا البحث الممتع وما قرأته عن النقوش التي وردت فيه، والتي أوحت لي أنها من العصر المختلط، وليس موضوعها هنا على كل حال، وفوق ذلك أنها ماتزال غامضة، ومايزال البحث فيها مستمرًا، ولم يقل فيها -حتى الآن- القول الفصل.
قرأت النقش الأول، فإذا خاتم نقش عليه اسم «سعد يكف» وكلمة «سعد» هي في الأصل اسم مسندي معروف في النقوش المعينية، والقتبانية والسبئية. ولعل لسان الشمال اقتبسته بفعل سيطرة الحضارة اليمنية، وكثيرة هي الكلمات التي أخذها لسان الشمال ولغاتها، أي لهجاتها، من لسان الجنوب ولغاته، وربما كان قول الباحث عن وجود ثلاثة رموز في نقش من النقوش لم يعرفها من نقوش المسند، ولا من الخطوط القديمة، قد تكون إفراز مرحلة الاختلاط التي أشرت إليها، حيث يكون تغيير الرموز واردًا نتيجة الاختلاط.
ومررت على النقش الصخري الثاني في «جبل النبي شعيب» في «بني مطر»، فعرفت منه أنه يتحدث عن المعبود «عثتر»، وأنه وجد في «ذي خمر»، وتحدث عن معاني خمر، ومن معانيها في لغة النقوش اليمانية: وَهَبَ، مَنَحَ أحدًا، والخَمْر: العنب بلغة أهل اليمن. وقد توسع الباحث في كلمة خمر ومشتقاتها في المسند وفي الفصحى توسع خبير.
ووقفت مع الباحث فأمتع ذهني بالنقش الثالث الموجود في مسجد إبراهيم بن حمزة، من «الزاهِر» في «الجوف». ومع أن هذا النقش قد امتحت أطرافه فهو كما قال باحثنا يتعلق بمسألة تشريعية، فهو يضاف إلى ما عثر عليه من نقوش تشريعية أخرى.
وواليت خطاي حتى توقفت عند النقش الرابع: وهو يبدو نقشًا من تلك النقوش الذرية الكثيرة التي حفلت بها نقوش الحضارات اليمنية، والتي دلت على روحانية تلك الحضارات إلى جانب مادياتها، كما أوضحت ذلك في كتابي «محاولة لفهم المشكلة اليمنية». وهذا النقش يرجع إلى صاحبه (الراجح أنه سمه “كرب”) بمناسبة إيفاء الإلهة له بأمر ما. وتساءل الباحث: هل يمكن أن نضيف سمه «كرب» في هذا النقش إلى القائمة التي كان يؤرخ بها؟ أم أنه اسم «مكرب» من مكاربة سبأ؟
كذلك أطللت على النقش الخامس الموجود في محل «بيت العويدي» بالقرب من «البَرَدُّون» في «الحدا» من محافظة «ذمار»، وهو من نقش في حصن أثري على مرتفع، وللحصن سور محيط به، وليس له إلا مدخل واحد هو باب الحصن. النقش هو تعويذة (حرز).
وأرشدني الباحث إلى أن النقش السادس قد تعرض لتلف شديد، ومما بقي منه يفهم أن كاتبه شخص تابع/ مولى لـ«شمر العمدي» (ذي عمد)، وصيغة اسم العلم (ح أ ف د) ليست مما أعهده من صيغ الأسماء في النقوش، والنقش مؤطر بإطار محزز، وقد دونت خارجه أسماء أعلام (رجال).
أما النقش السابع: فقد وجد في «مسجد نجاد» في محل «شراع» من «أرحب»، كان قد نشره «جلازر»، ثم أعادت نشره «ماريا هوفنر»، وصورته على المدونة الإلكترونية DASI غير واضحة، كما أن هذا النقش على DASI ينقصه السطر الأخير.
وكذلك النقش الثامن الذي كان المرحوم يوسف محمد عبد الله نقله في النقش الموسوم بـ(YMN 4)، وهو نقش إنشائي على صخرة في «المعسال» («وعلان» قديمًا) من محافظة البيضاء.
خرجت من هذه الرحلة -كما خرجت من سابقاتها- بمعلومات مفيدة وجديدة، وفي الوقت نفسه بأسى بليغ أيضًا على تفرق النقوش في بناء المساجد والبيوت، وعلى عدم الاهتمام بها قديمًا. وليس من حل إلا أن يعاد تجميعها من أي موضع كان، هي ليست نقوشاً تُعرض، بل تاريخ يُقرأ. والتاريخ لا يتبضع، وقد ينقطع، لكن الأبحاث كفيلة بأن تعيد خلقه من جديد، فيتوحد من جديد. إن اكتشافات التاريخ الغائب -التي يقوم بها علماء الآثار- اليوم لا تقل أهمية عن التاريخ الحاضر، بل تتفوق، لأنه تاريخ حضارة غائبة، فاستخراجها وتجميعها وإحياؤها ليس سهلًا كمراجعة مصدر أو مرجع. والاهتمام بالماضي واجب، وإلا سوف نستحق قول شاعر الإسلام الكبير «أحمد شوقي» عندما قال:
مثل القوم نسوا تاريخهم * كلقيط عي في القوم انتسابا
أو كمغلوب على ذاكرة * يشتكي من صلة الماضي انقضابا
وأعود من الماضي البعيد إلى الحاضر القريب، ومن اليمن إلى الجزائر، لأسلم على الدكتور الباحث «أيت بعزيز عبد النور»، وأثني على ما كتبه عن نجل الفضيل الورتلاني، المرحوم مسعود حسنين، فما كتبه عنه، حديث عالم محقق.
أول ما لفت نظري -وليس على الله بمستنكر- شجرة المجاهد الكبير السيد «الفضيل» رضوان الله وسلامه عليه وعلى آله، لم تجف أوراقها، بل ظلت يانعة مزهرة تحمل فوحها من بعده، في شخص نجله العلامة المصلح مسعود حسنين رحمه الله، ويأتي دكتور محقق ووفي فينشرها بين الناس، فتستروح بها قلوب قوم مؤمنين.
تناول د. “أيت” في مقاله نبذة عن حياة الفقيد: مراسلاته، ونشاطه الإصلاحي، وجهوده في مجال جمع تراث والده، وللدكتور “أيت” نشاط ملحوظ في تتبع حركة الإصلاح المعاصرة وأعلام الفكر والثقافة في سائر بلاد “المغرب”. وفي هذا المساق نشرت له “المسار” أبحاثًا مفيدة أخص منها ما كتبه عن السيد “الفضيل الورتلاني”، والآن عن ابنه الوحيد الذي خلفه فأحسن خلافته. نور الله ضريحيهما.
ومن المقادير الأهلية أن تكون وفاة المصلح “مسعود الورتلاني” متزامنة مع الذكرى الستين لوفاة والده “الفضيل الورتلاني”، في 12 مارس/ آذار، ومع شهر الشهداء في الجزائر، أولئك الذين قضوا نحبهم في هذا الشهر خلال حرب التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي.
وفي هذا المقال، وإلى جانب حديثه عن السيد “مسعود حسنين”، سيتعرف قراء “المسار” على كوكبة من علماء الجزائر كانوا شيوخًا للمرحوم مسعود، ومن ثم تزداد سعة تعرف اليمنيين على الحركة العلمية في “الجزائر”، وتحث على البحث عنهم والاطلاع على ما لديهم، وبهذه الطريقة -ولعلها من أنجع الوسائل- يتم التواصل، ويتلاقى المتباعد، وتعود لحمة الفكر إلى سابق عهدها بعد انقطاع طويل.
ومن خلال هذا المقال تطالعني صورة الدراسة والتدريس في الجزائر بما لاتزال عليه حالة الدراسة والتدريس في اليمن، ومن يقرأ مذكرات الجواهري عن دراسته في العراق، يرى نفس التشابه مشتبهة، ولما زرت “إيران” قبل الثورة الإسلامية، وزرت بعض مدارس الحلقات العلمية، تشبه نفس الحالة في الجزائر واليمن والعراق وإيران، مما يؤكد وحدة الأمة مع تنوع في الإنتاج، وقد كان لهذه الطريقة ولهذا الرابط الأثر البليغ في مقاومة الاحتلال الأوروبي في كل من الجزائر والعراق وإيران، ومقاومة التخلف في الدول التي لم يصبها الاحتلال كاليمن التي أنتجت الثورة الدستورية الشهيرة. وليس من شك أن لتدريس المساجد أثرًا كبيرًا في حماية الإسلام من كل مغير ومن كل تخلف إذا استثنينا علماء القصور الحاكمة ممن يطلق عليهم فقهاء السلطة أو وعاظ السلاطين.
بسط الدكتور “عبد النور” حياة المجاهد “مسعود”، فأحسن، وأحاط بها، فأبدع، وعرض لنا صورة عن الظروف التي عاشها الولد، في ظل تشرد الوالد، والتعطف الذي لقيه من المصلحين الكبيرين “البشير الإبراهيمي” و”ابن باديس”، وأمثالهما كثيرون ذكرهم الدكتور في مقاله أو بحثه.
وما يثير الأسى أن الولد فارق والده منذ وقت مبكر بسبب مطاردة الاحتلال الفرنسي لأبيه، وفراره من الجزائر مجاهدًا في سبيل الإسلام، وكان آخر لقاء بينهما يعود إلى يوليو 1936، وهو ما جعل ابنه مسعود ينشأ ويتربى يتيمًا فاقدًا حنان الأبوة أولًا والأمومة ثانيًا، كما أن جده من أمه “السعيد وزير”، الذي تكفّل بتربيته وتنشئته وتعليمه، كان تاجرًا وميسور الحال، وصدق فيه قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح : 5].
ومن أهم ما أورده، تلك الرسائل التي أتى على ذكرها، والتي شكلت توثيقًا لطبيعة المرحلة الجزائرية. وعند دراستي لها ظننت أني أقرأ رسائل يمنية، مع اختلاف المحتويات، مما يؤكد من جديد وحدة الفكرة والأسلوب في الثقافة الإسلامية التي أرجو أن تعود إلى ما كانت عليه. ومثل هذه الأبحاث تشكل رافدًا من الروافد في النهر الكبير.
وفي وسعي -أخيرًا- أن أقول إن الدكتور “أيت” تمكن من إعطاء صورة واضحة في بحثه هذا، عن المرحوم، وعن المناخ الذي عاش فيه، بالرغم من أن المجال واسع عريض، إلا أنه -والحق يقال- تمكن بعبارات دقيقة مليئة، من رسم صورة واضحة الألوان والخطوط.
فسلامًا على “الفضيل” و”مسعود”، وحفظاً لـ”أيت بعزيز”.
يختم هذا العدد صفحاته بالجزء الرابع عشر من وثائق الخارجية البريطانية عن أحداث وقعت ما بين أواخر أغسطس من عام 1906 إلى أكتوبر من نفس العام، وتتضمن: أخبارًا عن التنافس البريطاني العثماني في اليمن، ووثائق عن وضع خطوط التواصل ودور الأهالي في تأمنيها، وكذلك مراسلات واتصالات شريف مكة مع اليمن، وشيئا من مراسلات للإمام يحيى حميد الدين الى بعض سلاطين الجنوب، وهجمات رجال القبائل في الضالع ولحج على القوات البريطانية، وكثير من الأحداث العسكرية والسياسية المتعلقة بالدولة العثمانية وكيف كان البريطانيون يرصدونها عن كثب ويحصون عدد القوات العثمانية في اليمن وطبيعة تحركاتها، إلى جانب كثير من المفردات التي يمكن من خلالها تصور حركة التاريخ وطبيعة الأحداث في تلك الآونة.
رئيس التحرير
[1] ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، قرأه وحققه: أبو فهر محمود محمد شاكر، جدة: دار المني، الطبعة الثانية، 1974، السفر الأول، ص9. وانظر أحمد الشامي، قصة الأدب في اليمن، صص 41-42.
[2] ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، السفر الأول، ص11.
[3] انظر كتابي دراسة في الشعر اليمني القديم -الحديث.