في ظل هذا المناخ المتجهم بدأت خطاها منذ عددها الأول، فطرحت كثيرة من المصطلحات والقضايا الدينية والفكرية: السياسية والاجتماعية للبحث والتشريح، وكان بعض هذه القضايا ملفوفة في توابيت المقدسات التي يحرم الاقتراب منها بغية التعرف عليها والكشف عنها، ولكن فقط للتعبد لها ؛ فكان لزاما على المسار أن تحاول إخراج المحنطات المقدسة وإخضاعها للتشريح العلمي الموضوعي. ومن ثم وضعت بعض القضايا المحسومة والتحصينات المقدسة – عبر الثلاث السنوات – تحت المجهر.
ولقد كان ثمر الثلاث سنوات الماضية يانعة، وحوارها مبدعة، ونقاشها مثيرة. ومن خلال الحوار والنقاش أصبحت بعض تلك القضايا المحسومة والمسلمة والمحصنة موضع بحث وساحة حوار، وهذا في حد ذاته إنجاز، على أن هناك إنجازا آخر لا يقل أهمية ، وهو أن مجلة (المسار) قد تمکنت – إلى حد ما – من إبراز تلك القضايا المحسومة والمسلمة والمحصنة بعوائق كثيفة تحول دون الاستبصار الرشيد، ومن ثم فإن اختراقها ونزع القداسة عنها وطرحها للنقاش والحوار، هو بحد ذاته إزالة للعوائق نفسها، وبدون تناولها ستظل عائقا أمام الفكر الفاحص، ومانعا للتنقيب الباحث، ومن ثم فلا بد – لكي تسطع الحقائق بنور علمها – من إخضاع تلك المسلمات لروح العلم الرصين، وحس البحث الرشيد. وأعتقد أنها نجحت في هذا السبيل، ويكفيها أنها في هذه الفترة القصيرة أنزلت بعض القضايا المحسومة من أماكنها المقدسة وعتباتها الدينية إلى حيث وضعها الله في مكانها الحقيقي، ومن هنا يحق لـلمسار القول أنها حركت أمواج البحيرة الراكدة على أقل تقدير.
ويصادف هذا العدد مرور خمسة وخمسين عاما على الثورة الدستورية، تلك الثورة الإسلامية التي شكلت حدثا هاما من ناحيتين: من ناحية أنها خلخلت بناء قائما منذ زمن بعيد، ومن ناحية أخرى طرحت جديدا. فلأول مرة في تاريخ الخلافة – وبالتحديد منذ نهاية الخلافة الراشدة – يجد الإمام نفسه أمام دستور يقيده، وبرلمان يراقبه، ومجلس تنفيذي يشاركه، ويجد نفسه أمام قضاء مستقل عنه، بعد أن كان الإمام أو الخليفة هو الحاكم المطلق، سواء أكان عادلا أم ظالما.
هذا الحدث الهام والكبير لم يكتب عنه – حتى الآن – كتابة موضوعية على أهميته وأهمية ما طرح من منهج هو جديد كل الجدة على ما تعارف المسلمون عليه من بعد الخلافة الراشدة. ومع ذلك أصيب البحث العلمي بالخرس والصمم، نتيجة جفاف المصادر، وانفتحت بدلا من ذلك كله أبواب التشويه المقصود، أو الإعجاب المفرط، أما الدراسة العلمية أو السرد الموضوعي فقد غاب عن السطح، ما عدا كتاب أو كتابين، ومن المتعذر في حالة غياب المراجع والمصادر والوثائق، أن يتمكن باحث من تقديم بحث موضوعي متكامل، وليس أمامه غير رصيد مفجع من قصائد القدح أو أناشيد المدح.
إزاء هذا الجدب الملفت للنظر رأت مجلة (المسار) أن تخصص هذا العدد للوثائق البريطانية والأمريكية من أجل توفير المواد اللازمة للباحثين عن هذه الثورة، إيمانا بأن تجميع المواد وتهيئة الإمكانيات وتوفير الآليات أمر ضروري لا يمكن أن يتم بناء بدونه. ومن هنا سوف توالي المجلة البحث عن هذه المواد لهذه الثورة الدستورية وغيرها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وبهذا التجميع تكون قد استوفت توفير الكمية اللازمة للبناء التاريخي. وعندئذ يتمكن الباحث من التقاط الحقائق والكتابة عنها بضوابط علمية واضحة.
وفي هذا السياق تحب المجلة أن تؤكد على أن هذه الخطوة ليست سوى بداية العمل كبير وشاق وأنه سيأتي ثماره المرجوة حتما، ولكنها تريد أن تنبه إلى أنها – وهي في طريقها إلى تحضير ما تقدر عليه من مواد – تشير إلى أن كمية منها ستحمل الغث والسمين، وليست الوثائق البريطانية والأمريكية بعيدة عن هذا الغث والسمين، والصواب والخطأ، فبعضها غير دقيق وبعضها يعكس صدى الحدث البعيد فلا تستبين منه كل حقائقه.
ومن هنا لا تمنع ندرة المراجع من دراسة المتوفر من الوثائق حتى قبل استكمال التجميع؛ فدراسة المتوفر أمر مفيد، لأنه يسهم في تقديم هذا المتوفر – بعد أن يكون قد تمت تصفية غثه من سمينه – في صورة أكثر وضوحا ونقاء، وبهذا تغني الباحث عن إعادة البحث فيها إن اقتنع بها، أو تسهل له إعادة البحث لو احتاج إلى إعادة النظر فيها، وكلاهما تساعدانه على إتمام بنائه بطريقة أسهل مما لو لم تقدم مثل هذه الدراسات العلمية.
وهذا ما تنوي (المسار) أن تقوم به؛ فبعد عرض الوثائق ستقوم المجلة بدراستها دراسة علمية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وسوف يكون هذا دیدنها مع كل الوثائق التي تعرضت للأحداث الكبرى : المعاصرة والقديمة.
على أن المسار سوف تلتزم بعرض الوثائق بدون إبداء الرأي في ما `ذهبت إليه الوثائق من آراء وتحليلات حتى لا توجه (المسار) القاريء وجهة يستوحي منها أنها تقصد هدف معينة، وإنها لترغب فعلا في جعل الوثائق أولا تتكلم عن نفسها، وتترك للقارئ حرية أن يكون رأيه الخاص. ومن هنا التزمت بعدم التدخل فيما يشكل توجيها وإرشادا، مكتفية في هذا العدد بتصحيح أسماء أعلام أو أماكن أو وقائع ثابتة هي واثقة منها كل الثقة ، متخذة من الحواشي مكانا لها.
وأخيرا فهذه الوثائق هي رؤية من الخارج للداخل، فلنظر ما في مرايا لقوم من صور.
تنبيه:
استخرج الوثائق البريطانية من مركز الوثائق البريطانية بلندن، وترجمها إلى العربية الباحث والمترجم د. تيسير كاملة الذي ترجم ايضا مجموعة الوثائق الأميركية . أما الحواشي وكل ما كان بين معقوفين فهي من رئيس التحرير.