ذلك أن المعرفة عالمية العطاء لا تحتكرها فئة مختارة، ولكنها كالشمس مفتوحة الحدود، لا تحصرها سدود ، ولا يقيدها زمن. وهي كالشمس أيضا تمنح ضوءها دون أن تفرّق بين السهول الخضراء أو الجبال الجرداء أو البحار الواسعة أو الغابات الملتفة، فيستفيد من أشعتها وضوئها السهل والجبل والبحر والغاب، كل على حسب حاجته ومن مقدار طاقته. ومن ثم يصبح لبني البشر الحق في المعرفة، خاصة في ظل ثورة المعلومات الكاسحة التي تقدم لنا «عولمة الثقافة» في نفس الكأس التي أنهت حياة سقراط العظيم.
هذه الثورة باختصار تحاول أن تغلب سلوكا ثقافيا معينا على بقية الثقافات، مستعينة بإمكانياتها الهائلة للدخول إلى البيوت الغافية والغرف المقفلة والمخابئ السرية، عبر العين والأذن والشم ومن واللمس، تحت شعار ظاهره الرحمة ومن باطنه العذاب الأليم. إن ثورة المعلومات تمثل لعالم التخلف هجمة مفترسة، تعيد إلى الذهن هجمة الحضارة الغربية عندما اصطدمت بالشرق الغافي، فكانت تلك الرّجة التي هزت العقول هزا وكادت تعصف بالشرق عصفًا لولا ثبات الثقافة المستنيرة التي أضاءها جمال الدين الأفغاني وتلاميذه.
إزاء هذه الهجمة الجديدة لا يمكن – بطبيعة الحال – التعامل معها بفکر منحرف؛ إذ أن الثقافات المتدنية هي أولى فرائس «عولمة الثقافة» وأسرعها سقوطا بين فخاخها، لكنها تشكل تحديا للثقافات الحية.. وقد قبلت المسار هذا التحدي، وهي تعلم علم اليقين أنها تضع نفسها في الطريق الصعب، ولكنها مصممة عليه، وليس في وسعها إلا أن تقبل التحدي، وليس لها من عدة لمواجهته – بنجاح – سوى البحث عن الآيات في الآفاق والنفس، حتي يتبين خيط الثقافة الأبيض من خيطها الأسود، وعندئذ يتنفس صبح بهيج.
ومن هنا فـ«المسار» ملتزمة بأن تجعل أبحاثها نقية كالشعاع، صافية كالنَّمِير، لا تتلفع بغيمة هوى، ولا تلتف بعتمة تَعصب، وإنما تسعى وراء الحقيقة حيثما كانت وأنّا وجدت.. هدفها البحث عن اليانع من الثمر، وعن الواضح من الفكر، وعن المفيد من المُبتكر، ومهمتها أن تستفيد من الجنى الثَّمير لتُزيل الغائر في النفس نتيجة الترسبات الآسنة، ولتجلو الغائم في الذهن نتيجة فهم مغلوط، وتقدم ذلك زادًا هنيئا وشرابا سائغا، وهي تلتزم بذلك عهدا وثيقًا.
وعليه فستدور مجلة «المسار» في آفاق الشرق وآفاق الغرب وآفاق الشمال وآفاق الجنوب، متتبعة المعرفة، باحثة عن الحقيقة، ملزمة نفسها بالموضوعية الصّرفة، لا تدعي لنفسها أنها تحتكر الصواب، ولا تمثل السبيل الأرشد؛ لكنها تحاول أن تجعل من صفحاتها ساحة حوار ومنبر خطاب، يتحاور عليه المتحاورون ويتخاطب المتخاطبون بلغة نقية، من أجل غاية نبيلة، هي محاولة الوصول إلى الحقائق، في غير ما خوف من تسلط ولا وَجَل من رقيب، ولا فَزَع من إرهاب، مهما كان نوعه؛ فمن كان يأنس في نفسه الجرأة على قول الحق فسيجد فيها مجاله وميدانه.. ولن يجد عندها رقيبا يمنع ولا مقصا يقطع ولا حبرا أسود يوضع، لا رقيب إلا الضمير العلمي ولا التزام إلا بقوانين المعرفة.
يأمل القائمون على “مجلة المسار” ألا تكون مجرد رقم في سجل مجلات تتراكم بعضها فوق بعض، على منضدة تعلوها الأتربة ذات نكهة معتادة ومذاق معروف؛ ولكنهم يأملون أن يجعلوا منها – کاسمها – مسارًا للسان السجين، وعينا للنظر الكفيف، ومنطلقًا للفكر المقيد. كما تأمل أن تكون ریاحًا موسمية تحمل الطيب من المطر للشجر الجَدِيب.
ولهذا فهي لن تقنع بالدوران في فلك الحاضر فقط؛ بل ستدور في فلك الماضي المقروء كله للبحث عن جديده النافع.. على يقين منها أن لكل ماض حضاري جديده المشع. لكن لسوء حظ البشرية وهي تشق دربها الطويل فرض عليها لعدة أسباب أن لا تسقي حقولها بما يبسق عودها ويخصب نماءها بحجة شعار تضليلي بحجة أنه – أي الجديد – هرطقة دينية، أو تمرد سیاسي، أو زندقة فكرية، أو كفر بواح، وما هو كذلك، ولكن بطشة الجبارين كانت ساحقة، وهكذا تم الاستغناء عن الاستفادة من ذلك النبع النقي الجديد، بل تم دفنه تحت عقب تبريرات مجحفة من قبل علماء السلطة وفعل القوة وكيد السياسة، فتأخرت لهذا السبب يقظة البشرية الجديدة أحقابًا طويلة، وعندما أفاقت بعد طول إغفاء كانت تلك الأفكار ما تزال تحتفظ بنبعها الدفين، في انتظار من يزيل عنه ما تراكم من الأتربة عبر السنين، ولما تم اكتشافه كان رافدا قويا مَدّ غِراس الشجر الباسق بمائه.
وسوف تهتم «المسار» بهذا الفكر المنسي على إيمان منها أنه لغة من لغات حوار الحضارات، وركيزة من ركائزها ، وأنه متى وصل جديد اليوم بجيّد الأمس فسيفتتح المجرى الجاف ليتصل الرافد بالتيار.. على أن جید الماضي كجديد الحاضر بحاجة إلى مواجهة شجاعة مع النفس وترسباتها، مع المجتمع وعاداته.. مع إرهاب السياسي وبطشه.. مع انحراف الديني وقداسته. ذلك أن أغلال الماضي أفقدت حامليها بفعل التعود المزمن قدرة التمييز، فخبطوا في بهيم القضايا وغائم الأفكار ، ولم يتبينوا أن ما يحملونه من أسفار هي أسفار مضللة هم بها معتزون، وبحملها فخورون. وهنا يكمن جانب من المواجهة.. إن إعادة النظر في جذور الأفكار التي صاغت بوجه خاص مجتمع ما بعد القرن الثامن /الثالث عشر، ينبغي أن تواجه بموضوعية جادة.
وبنفس القدر من الجدية ينبغي – من أجل إعادة الروح للغة الحضارة الجافة – التركيز على توضيح ما حدث من تغيير في مدلول المصطلحات أدى- تبعًا لتغير المدلول – إلى تغيير المسار الحضاري؛ فتَكوَّن- نتيجة لذلك – مجتمع آخر بعيد عن ذاته، ومن ثم لم يتمكن من التعايش مع مساره الحضاري، فانزلق إلى التيه وهبط إلى التخلف واتجه نحو الانحدار. ومن المسلم به أنه ما لم يتم الانسجام بين المصطلحات ومدلولاتها فلن نجد للخروج من التخلف سبيلًا، ومن ثم لن نجد للدخول في أي دورة حضارية طريقا. ولكيلا تتكرر تجربة الماضي فإن فهم المصطلحات على حسب مدلولها الحضاري من أوليات المسير في «المسار».
من هنا يأمل القائمون مخلصين أن يجعلوا من مجلة «المسار» میزانا للقسط، وصراطا للعقل؛ بل وجسر حوار، وتعایش جوار، حتى لا تبقي هناك ثقافة عبيد؛ لأن معنى ذلك أن يفقد الإنسان صوابه ويبقى ترابه، ومعناه أيضا أن يظل الغثاء يعربد في مساحة واسعة.
على ضوء ذلك كله يلتزم القائمون على هذه المجلة بمواصلة رسالتها، ولا يميلون عنها، ولا يلون عن تحقيق أهدافها، ولا يحيدون عن سبيلها مادامت الكلمة عهدًا مسؤولا ووعدا ملتزما. لذلك يعطون عهدًا ثابتًا لا يتزعزع، صامدًا لا يتراجع، متماسكا لا يتصدّع.
وهذا هو العدد الأول من مجلة «المسار»، آملين أن يكون خطوة ناجحة في المسار الطويل.. له الموفق إلى الصواب.