إسهام الزيدية في رواية وتدوين السنة النبوية

كتب الأستاذ محمد عزان عن إسهام الزيدية في رواية وتدوين السنة النبوية، موضحا أن المهتمين برواية الحديث وتدوينه من الزيدية جزءا من مدرسة الحديث الكبرى، وليسوا فريقًا خاصاً لا يَتشارك الرواية مع غيرهم، وليس لهم منهج خاص يختلف كليًا عن منهج المحدثين. مخصصا هذا الجزء للتعريف بالإمام محمد بن منصور المرادي، وما ترك من تراث حديثي.

تستهل مجلة “المسار” عددها السادس والستين بمقال مهم للأستاذ العلامة محمد عزان تحت عنوان “إسهام الزيدية في رواية وتدوين السنة النبوية”. وأهمية هذا البحث أنه يوضح بطريقة علمية ما تُتهم به الزيدية من ابتعادها عن الأحاديث النبوية، وعدم مشاركتها في تدوينها، كما تتهمها المذاهب التي تأخذ برواية الحديث، وليس بدرايته. وليس من شك عندي أن الباحث عن الحقائق سيخرج من قراءة هذا البحث برؤية جدية وجديدة، وباقتناع بما توصل إليه العلامة من توضيح هذين الاتهامين توضيحًا شافيًا لمن يرغب في معرفة الحقائق، ويبعد نفسه عن دائرة التمذهب الضيق. وينبئك عن سعة المؤلف في علم الحديث أنه صحح ما ذهب إليه الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير عندما قال إن المرادي روى عن البخاري، وليس الأمر كذلك كما ستقرأه.

ذلك هدف من أهداف هذا البحث، والهدف الثاني أنه حاول به أن يردم بعض جوانب الخلافات المفتعلة بين المذاهب، حتى تتلاقى أواخرها، كما كانت أوائلها مدراس عديدة خصبة تستقي من بعضها البعض، فأخصبت الثمار بنور العقل والفقه معًا، لكن إغلاق باب الاجتهاد وحصر المدارس المتعددة وتسميتها مذهبًا، أدت إلى أن يتنامى التعصب ويلتهب، حيث أدى ذلك الإغلاق والحصر إلى أن يتقوقع كل مذهب في قلاعه، ومنها يصب على القلاع المعارضة والمتقوقعة نارًا حامية.

من هنا ندرك أهمية هذا البحث الذي تناول فيه عالمنا الكبير جهل من يتهم الزيدية بعدم الاهتمام بالحديث النبوي، والآتي من نتيجة تقوقع كل مذهب على ما لديه، وتجمده عليه، وتلك إحدى نتائج التقوقع وضرره، الضارة بالمصدر الثاني في التشريع الإسلامي. ومن المعلوم بالضرورة أن تنظيف الينابيع خطوة أولى في طريق التنقية وإزالة أثقال الخلافات الوهمية.

بدأ العلامة بحثه بمدخل، عرَّف قراءه بالإمام محمد المرادي ومكانته، وحياته العلمية ومؤلفاته. وتقرير أن “الحديث المروي عن النبي صلوات الله عليه، هو ميراث أمته كل أمته، وليس حكرًا على مدرسة إسلامية دون أخرى، غير أن بعض المدارس أولته اهتمامًا أكثر من غيرها، مما جعلها أكثر تخصصًا، وبالتالي صارت قواعدها في علم الرواية وتقييم الرواة وما يترتب على ذلك من قبول ورد، هي الأكثر مرجعية والأوسع انتشارًا، على الرغم من أن في دقة بعضها ما يستدعي المراجعة وإعادة النظر”.

ومن ثم فقد ركَز فيه على «إسهام المحدّثين الزيديين في رواية الحديث وجمعه وتدوينه ودراسته، والتعامل مع مختلف الروايات، ومدى اهتمامهم بالسنة النبوية كثاني مصادر التشريع الإسلامي. وفي الوقت نفسه أوضح “أنه لا يدعي أن للزيدية فريقًا حصريًا من المحدثين لا يَتَداخل مع غيرهم ولا يتداخل غيرهم معهم، أو أن لهم منهجًا خاصًا يختلف كليًا عن منهج المحدثين، سواء كانوا من أهل السنة، أو المعتزلة، أو الإمامية، أو الإباضية، وإن اختلفوا في بعض الاختيارات والقواعد، خصوصًا ما يتعلق بعلل المتون».

وأوضح ما تركته الزيدية من إرث معرفي في هذا المجال، والتحقيق في ما له علاقة بعلم الرواية والإسناد، إلا أنه لم يرجح منهجًا على آخر، ولا حرص على التوصيف مدحًا أو قدحًا، أو التقييم جرحًا وتعديلًا”. ولعمري إن هذا هو الإنصاف بذاته، فقد عرض ما توصل إليه، وترك للقارئ أن يختار، وفي رأيي كان التوفيق حليفه.

بعد المدخل، تناول التعريف بالإمام محمد بن منصور المرادي -إمام الحديث الزيدي- الذي تلقاه جملة من محدثي القرنين الثالث والرابع بالقبول، ورووا عنه. تحدث عن مكانته عند علماء الحديث الذين وثقوه وأخذوا بروايته، ويكفيه توثيقًا ما قال فيه إمام السنة الحافظ “محمد بن إبراهيم بن الوزير”، بأنه «العالم الكبير محمد بن منصور»، وما قال عنه الحافظ الشوكاني: «محمد ‌بن ‌منصور ‌المراديُّ حافظُ آل محمد»، وستقرأ في البحث أوصاف العلماء له بما يجعله أحد كبار أئمة الحديث.

وتحدث عن مصنفاته، وهي كثر، وذكر أن كتابه “الجامع”، أو “الأمالي والعلوم”، بأنه كما قال فيه الإمام محمد بن إبراهيم الوزير «أول كتابٍ صُنِّفَ في تجريد أدلة الأحكام من الحديث للزيدية، هو كتاب “علوم آل محمد”، وقال أيضًا: «هو أساس علم الزيدية ومنتقى كتبهم ويذكر فيه الأسانيد»، وأوضح أنه كان للإمام المرادي طريقة خاصة لمفهوم عدالة الراوي، قال عنه العلامة ابن الأمير: «وهذا -الحمل على السلامة بالظاهر- هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول».

ومن أهم ما جاء في هذا البحث، ما قام به علامتنا من التصويبات التي “لا بد من التنبيه عليها عند الدراسة والتحليل”، صحح بعض المعلومات وردت في كتب التراجم كما ستقرأها.

وختم بحثه بضرورة إعادة قراءة وتوثيق كثير من كتب التراث، لاسيما مع ما سمح به الزمان من توفر المراجع، وسهولة العودة إلى كثير منها، وخصوصًا أن من دوَّنوها أو نسخوها أو نقلوا عنها هم بشر، مشكورون على جهودهم.

أخرج أنا من قراءة هذا البحث الخصب، أنه أخرج صورة الإمام المرادي كما كانت عليه أو قريبًا مما كانت عليه، وهو أوفى بحث عن المرادي قرأته، وأقترح على العلامة الكاتب أن يعده للطباعة ليستفيد منه الناس.