خطوة خطوة، وإيقاعًا بعد إيقاع، تسعى “المسار” جاهدة مخلصة إلى تفكيك العوائق المألوفة المتجذرة في النفس بفعل أحقاب طوال مرت عليها وهي ترضع من وإلى استكشاف الغامض من التاريخ، وإلى النقي من الفقه، وإلى الانطلاق من الفضاء المحصور والحاصر إلى الرحاب الواسعة، النقية من كل زيف، من أجل أن تعبد الطريق إلى المستقبل المنشود والموعود، حسبما تعتقد. لأنه لا يمكن لأمة ما أن تتخلص -وهي مربوطة بسلاسل غلاظ- من تدين مصطنع، من تمذهب منغلق، من مجتمع يكرر ذاته، ما لم تُفك الأغلال، ويعاد للفكر الغائب دوره ليهدي من ضل عن سبيله، وعندئذ تقوم الموازين بالقسط.
خطوة خطوة، وإيقاعًا بعد إيقاع، تسعى “المسار” جاهدة مخلصة إلى تفكيك العوائق المألوفة المتجذرة في النفس بفعل أحقاب طوال مرت عليها وهي ترضع من وإلى استكشاف الغامض من التاريخ، وإلى النقي من الفقه، وإلى الانطلاق من الفضاء المحصور والحاصر إلى الرحاب الواسعة، النقية من كل زيف، من أجل أن تعبد الطريق إلى المستقبل المنشود والموعود، حسبما تعتقد. لأنه لا يمكن لأمة ما أن تتخلص -وهي مربوطة بسلاسل غلاظ- من تدين مصطنع، من تمذهب منغلق، من مجتمع يكرر ذاته، ما لم تُفك الأغلال، ويعاد للفكر الغائب دوره ليهدي من ضل عن سبيله، وعندئذ تقوم الموازين بالقسط.
تستهل مجلة “المسار” عددها السادس والستين بمقال مهم للأستاذ العلامة محمد عزان تحت عنوان “إسهام الزيدية في رواية وتدوين السنة النبوية”. وأهمية هذا البحث أنه يوضح بطريقة علمية ما تُتهم به الزيدية من ابتعادها عن الأحاديث النبوية، وعدم مشاركتها في تدوينها، كما تتهمها المذاهب التي تأخذ برواية الحديث، وليس بدرايته. وليس من شك عندي أن الباحث عن الحقائق سيخرج من قراءة هذا البحث برؤية جدية وجديدة، وباقتناع بما توصل إليه العلامة من توضيح هذين الاتهامين توضيحًا شافيًا لمن يرغب في معرفة الحقائق، ويبعد نفسه عن دائرة التمذهب الضيق. وينبئك عن سعة المؤلف في علم الحديث أنه صحح ما ذهب إليه الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير عندما قال إن المرادي روى عن البخاري، وليس الأمر كذلك كما ستقرأه.
ذلك هدف من أهداف هذا البحث، والهدف الثاني أنه حاول به أن يردم بعض جوانب الخلافات المفتعلة بين المذاهب، حتى تتلاقى أواخرها، كما كانت أوائلها مدراس عديدة خصبة تستقي من بعضها البعض، فأخصبت الثمار بنور العقل والفقه معًا، لكن إغلاق باب الاجتهاد وحصر المدارس المتعددة وتسميتها مذهبًا، أدت إلى أن يتنامى التعصب ويلتهب، حيث أدى ذلك الإغلاق والحصر إلى أن يتقوقع كل مذهب في قلاعه، ومنها يصب على القلاع المعارضة والمتقوقعة نارًا حامية.
من هنا ندرك أهمية هذا البحث الذي تناول فيه عالمنا الكبير جهل من يتهم الزيدية بعدم الاهتمام بالحديث النبوي، والآتي من نتيجة تقوقع كل مذهب على ما لديه، وتجمده عليه، وتلك إحدى نتائج التقوقع وضرره، الضارة بالمصدر الثاني في التشريع الإسلامي. ومن المعلوم بالضرورة أن تنظيف الينابيع خطوة أولى في طريق التنقية وإزالة أثقال الخلافات الوهمية.
بدأ العلامة بحثه بمدخل، عرَّف قراءه بالإمام محمد المرادي ومكانته، وحياته العلمية ومؤلفاته. وتقرير أن “الحديث المروي عن النبي صلوات الله عليه، هو ميراث أمته كل أمته، وليس حكرًا على مدرسة إسلامية دون أخرى، غير أن بعض المدارس أولته اهتمامًا أكثر من غيرها، مما جعلها أكثر تخصصًا، وبالتالي صارت قواعدها في علم الرواية وتقييم الرواة وما يترتب على ذلك من قبول ورد، هي الأكثر مرجعية والأوسع انتشارًا، على الرغم من أن في دقة بعضها ما يستدعي المراجعة وإعادة النظر”.
ومن ثم فقد ركَز فيه على «إسهام المحدّثين الزيديين في رواية الحديث وجمعه وتدوينه ودراسته، والتعامل مع مختلف الروايات، ومدى اهتمامهم بالسنة النبوية كثاني مصادر التشريع الإسلامي. وفي الوقت نفسه أوضح “أنه لا يدعي أن للزيدية فريقًا حصريًا من المحدثين لا يَتَداخل مع غيرهم ولا يتداخل غيرهم معهم، أو أن لهم منهجًا خاصًا يختلف كليًا عن منهج المحدثين، سواء كانوا من أهل السنة، أو المعتزلة، أو الإمامية، أو الإباضية، وإن اختلفوا في بعض الاختيارات والقواعد، خصوصًا ما يتعلق بعلل المتون».
وأوضح ما تركته الزيدية من إرث معرفي في هذا المجال، والتحقيق في ما له علاقة بعلم الرواية والإسناد، إلا أنه لم يرجح منهجًا على آخر، ولا حرص على التوصيف مدحًا أو قدحًا، أو التقييم جرحًا وتعديلًا”. ولعمري إن هذا هو الإنصاف بذاته، فقد عرض ما توصل إليه، وترك للقارئ أن يختار، وفي رأيي كان التوفيق حليفه.
بعد المدخل، تناول التعريف بالإمام محمد بن منصور المرادي -إمام الحديث الزيدي- الذي تلقاه جملة من محدثي القرنين الثالث والرابع بالقبول، ورووا عنه. تحدث عن مكانته عند علماء الحديث الذين وثقوه وأخذوا بروايته، ويكفيه توثيقًا ما قال فيه إمام السنة الحافظ “محمد بن إبراهيم بن الوزير”، بأنه «العالم الكبير محمد بن منصور»، وما قال عنه الحافظ الشوكاني: «محمد بن منصور المراديُّ حافظُ آل محمد»، وستقرأ في البحث أوصاف العلماء له بما يجعله أحد كبار أئمة الحديث.
وتحدث عن مصنفاته، وهي كثر، وذكر أن كتابه “الجامع”، أو “الأمالي والعلوم”، بأنه كما قال فيه الإمام محمد بن إبراهيم الوزير «أول كتابٍ صُنِّفَ في تجريد أدلة الأحكام من الحديث للزيدية، هو كتاب “علوم آل محمد”، وقال أيضًا: «هو أساس علم الزيدية ومنتقى كتبهم ويذكر فيه الأسانيد»، وأوضح أنه كان للإمام المرادي طريقة خاصة لمفهوم عدالة الراوي، قال عنه العلامة ابن الأمير: «وهذا -الحمل على السلامة بالظاهر- هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول».
ومن أهم ما جاء في هذا البحث، ما قام به علامتنا من التصويبات التي “لا بد من التنبيه عليها عند الدراسة والتحليل”، صحح بعض المعلومات وردت في كتب التراجم كما ستقرأها.
وختم بحثه بضرورة إعادة قراءة وتوثيق كثير من كتب التراث، لاسيما مع ما سمح به الزمان من توفر المراجع، وسهولة العودة إلى كثير منها، وخصوصًا أن من دوَّنوها أو نسخوها أو نقلوا عنها هم بشر، مشكورون على جهودهم.
أخرج أنا من قراءة هذا البحث الخصب، أنه أخرج صورة الإمام المرادي كما كانت عليه أو قريبًا مما كانت عليه، وهو أوفى بحث عن المرادي قرأته، وأقترح على العلامة الكاتب أن يعده للطباعة ليستفيد منه الناس.
تحت مسلسل: سطور من نقوش المُسْند، كتب باحثنا عن نقوش لها صلة بالحَرْب والبِنَاء، وثقه بعرضه الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد الصلوي، فدعم ما توصل إليه الأستاذ الهيال. وفي سبيل الكشف عن أشد التاريخ اليمني غموضًا، يوالي الأستاذ الباحث في الآثار “عباد بن علي الهيال” أبحاثه في تاريخ “الحضارة اليمنية” في مختلف عهودها، وفق ما يجد من تراث، غير متواصل، ففي النهاية يمكن عند تجميع ما عثر عليه، أن تظهر معالم تاريخ يتكامل. والأمل في تحقيق هذا الهدف قوي لوجود باحثين ينهجون هذا النهج الذي بتواصله سيكشف لنا عن مزيد من ملامح “الحضارة اليمنية”.
يطالعنا بحثه بصرخة ألم: “ما أشبَهَ الليلةَ بالبارحة! ها هنا نقشان مُسْنديان غير كاملين، لكنّ أسْطُرَهما الناقصة تعرض صورةً قاتمةً من تاريخنا البعيد، صورةً نرى فيها اليمانيين يقاتلُ بعضُهم بعضًا، ويوسعُ بعضُهم للغُزَاة في أرض اليمن، بل يصطفون مع الغزاة على إخوانهم”! وهذان النقشان يتحدثان عن فترة لا ندري أين موقعها في الزمن إلا على وجه الترجيح، وقد تكون محصورة بفترة محددة، ولكن معظم النقوش التي ذكرها الدكتور الكبير المرحوم “جواد علي” في كتابه الشامل المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، تتحدث عن نهاية “الدولة المعينية”، كانت على يد “الدولة السبئية”، وانتهت على يد “الدولة الحميرية”، ودخلت “الدولة الحضرمية” في ذلك الصراع، كل ذلك داخل وطن الواحد، ولم يقتصر الصراع بين تلك الدول الكبرى، بل كان أشد وأضرى عندما تفككت عهود الحضارات، وإذا كان هدف صراعها هو التوسع، فهدف هذه القوى المتفككة، هو من أجل صيانة التفكيك، وهذه ظاهرة عامة في سائر الأمم، بيد أن المؤلم حقًا في هذين النصين أن القتال لم يعد بين يمنيين، وإنما أصبح بمشاركة خارجية تستخدم ضعاف النفوس لمقاتلة إخوان وأشقاء كما لو كان التاريخ يعيد نفسه.
ثم شرح الباحث طريقته في قراءة النصوص ووجوب توثيقها في المقام الأول، ثم تحدث عن محتوى النقش الأول الذي تآكل وبقيت منه بقايا تذكر معركة من تلك “المعارك التي خاضها السبئيون في وجه أعداء تآبوا عليهم من الأحبوش ومقاتلي السهرة وحِمْيَر وعشائر خَوْلان الجديدة: خولان صعدة”.
وبجانب هذا النفش، وجد كسر نقش آخر تحدث فيه عن وجود معارك شرحها تؤكد تلك الحقيقة المرة، ولكن الذي لفت نظري فيه أنه تحدث عن وجود كلمات حميرة ماتزال يمنيًا تتردد مثل “لِفي” التي بصيغتها المجردة ليست واردة في معجمات الفصحى، وهي بصيغتها المجردة بمعنى أدرك باقية على ألسن أهل اليمن إلى اليوم، وأن الشاعر الكبير الحسن بن علي بن جابر الهَبَل (ت ١٠٧٩هـ) رددها وهو يُفاخِرُ بأهل اليمن:
واسألْ لسانَ المعالي ما تَلا فِيْنا وقُلْ لِلاحِقِنَا هل أنتَ لافِيْنا
وقد تتبع الباحث زمن بعضها، كما ناقش كلمات المسند والفصحى، ولعمري إن ما تحدث عنه له من الفوائد ما يجب الاستفادة منها. ثم تحدث عن النقش الثاني، فوجده يؤكد ما ذهب إليه النقش الأول من وجود قوى خارجية تستعين بها دول الداخل. لم يكتفِ الباحث بالنقشين المحاربين، فتحدث عن نقس ثالث يرد فيه اسم أسرة ورد اسمها في نقوش سبئية عدة، تحدث عنها بإسهاب، وفي النقش الرابع تحدث عن تملك زبر على منشأة خاصة بالماء يملكها رجلان هما كليب يرخم من بني سمه سميع ويشمر يشعر. ثم توسع في دراسته كما ستراه، وعرض نقشًا خامسًا عن أفراد هم أسد يُرحِب ويدُوم وضابِئ وربيب من بني رَنَيْن، وأنهم نصبوا هذا القَيْف للمعبد المسمى “حدثان”، وهو نصب معبودهم “مُنْضِحهم” سيّد/ حامي “البيت” من أجل سلامة هؤلاء الأفراد وفقًا لما أمرهم به معبودهم.
وهكذا أعطانا البحث فوائد لجوانب من السياسة والاجتماع والتدين، واستشرفت من خلاله على تاريخ قديم كان للباحث فيه فضل كبير على كشفه، وفضل كبير على سياحته فيه سياحة علمية جذابة.
وللباحث مقالات أخرى من هذا القبيل نشرت على صفحات المسار ويمكن مراجعتها في الاعداد السابقة أو على موقع المسار.
بعد ذاك، تحدث عمن يقرأ نصوص الشواهد؟ فقال إنه الدرس النحوي والنحو العلمي، ثم قراءة الشواهد والنحو التعليمي، وقراءة الشواهد ودعاة التيسير، وقراءة الشواهد ودعاة التجديد. ثم تعرض للمفاضلة بين النحاة والنحويين طبقات ومراتب، وتعرض للفرع الثالث: من يقرأ شواهد النص الديني؟ وهما القرآن والحديث، واستشهد بقول الزمخشري: “إن النحاة أولى بالنظر في القرآن وقراءاته من القراء، بل هو يجعل النحاة حاكمين على القراء فيلحنونهم كيفما شاؤوا”. بعد الجولة التاريخية مع العلامة الهيال، أعود إلى ما تناوله الدكتور عبد الجليل منصوري، في بحثه المفيد عن “استنطاق شواهد النحو بين المبالغة والمغالبة”، وهي شواهد جاء بها في إطار متماسك تتكون من عدة عناوين هي: “من يقرأ نصوص الشواهد، تمايل الشاهد بين الصناعة والمعنى، معارضة الشاهد للصناعة النحوية، ثم اختلاف قراءة الشاهد لاختلاف روايته”، وهي شواهد تدل على تعمق الدكتور في موضوعه، وقد قدم لبحثه مقدمة تناول فيها سبب أو أسباب توجه العرب إلى علوم اللغة، ولم يرغب أن يتحدث عن نشأة هذا العلم، ومنشئه، وموضع إنشائه، في بحثه هذا، لما سبق له من بحث فيه، وإنما أراد الإشارة إلى الشواهد النحوية عامة، والشاهد الشعري خاصة، وتحدث عما سماه الشاهد القرآني، وما قدم للغويين من مادة ثرية بالألفاظ والتراكيب والمعاني، ممثلة في القراءات السبع، ثم تحدث عن الشاهد الحديثي، وكيف تعامل معهما النحويون واللغويون، وأسباب ذلك، ثم تحدث عن الشاهد الشعري، وكيف اعتمد عليه النحويون واللغويون أيضًا، وكذلك تحدث عن الشاهد النثري من خطب وأمثال وحكم.
وتناول أخطاء النحاة، واستشهد على ذلك بقول صاحب العقد الفريد. وكذلك رفض قراءات الشواهد من بعض النحاة لبعض. وعرج على تمايل الشاهد بين الصناعة والمعنى، وعرّف الصناعة النحوية بأنها القواعد التي ضبطها النحاة، ثم تحدث عن معارضة الشاهد للصناعة النحوية، وعن اختلاف القراءة لاختلاف الرواية، وختم بحثه القيم بخاتمة زادت الموضوع اتضاحًا من حيث إنه عبر عن رأيه في ما استعرضه.
والحق أقول إنه بحث متميز في موضوعه، إن قلت إني لم أقرأ لكاتب يمني مثله استعراضًا وتوثيقًا ورأيًا، فقد صدق القول.
في بحث علمي يتناول الدكتور مجيب غلاب الحميدي: معوقات تطوير التعليم في الدول العربية، بتفاصيل. ومعلوم أن التعليم ليس فقط ضرورة للنهوض بأية أمة فحسب، بل إنه ما لم يأخذ مساره الطبيعي، فإن الأمة ستظل تتيه في توجهاتها. ونحن نعرف جميعًا أن الحضارة الإسلامية تفككت بسبب نظام التعليم الإجباري الذي فرضه السياسيون عليه. وما يزال الفرض قائمًا، ولكن من وراء حجاب. ولا توجد عبر التاريخ حضارة ليس لها لسان.
وفي هذا البحث، استعرض الدكتور مجيب وضع التعليم العام في الوطن العربي، ثم معوقات تطوير وإصلاح التعليم، وختمه بـ التحليل البيئي الرباعي للتعليم العام العربي، وفي توطئة بحثه ما سماه الاستراتيجيات، لتطوير التعليم، وقال”: “ورغم كل هذه المبادرات، فإن تقارير التنمية العربية تؤكد أن التعليم العام العربي يعاني من تدهور نوعي في مخرجات التعليم، رغم التحسن الجزئي في بعض المؤشرات الكمية المتعلقة بنسبة النفاذ إلى التعليم الأساسي. وفي ضوء هذه المؤشرات تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على معوقات تطوير التعليم العربي، وتحليل البيئة الداخلية والخارجية باستكشاف نقاط القوة والضعف، وأهم الفرص والتحديات. ونستهل هذه الورقة بالتعرف على مفهوم التعليم العام وواقعه في الوطن العربي، والعوامل المؤثرة فيه”.
ثم تحدث عن مفهوم التعليم العام الشامل للتعليم العام أو العمومي يشمل التعلم الإلزامي باعتبار ذلك “حقًا من حقوق الإنسان، وتعريف التعليم العمومي الأساسي العام الذي تأخذ به التعريفات الدولية التي تلزم بضرورة التعليم المجاني، لكن الدراسات والتقارير الإقليمية والدولية تسجل تعثر مشاريع التطوير التربوية في الكثير من الدول العربية، وتباطؤها في دول أخرى”.
ثم تحدث عن معوقات تطوير وإصلاح التعليم العام العربي، فأعادها إلى المعوقات السياسية والقانونية، والمعوقات العلمية والعملياتية، والمعوقات الاجتماعية والبيئية، والمعوقات الاقتصادية والتقنية، والمعوقات الإدارية والمؤسساتية.
وخلص البحث إلى حقيقة أليمة، وهي أن الأقطار العربية في أغلبها لم تأخذ تحديات القرن الحادي والعشرين على محمل الجد، ولم يعترف أغلب صانعي القرار فيها بأن التعليم يمثّل الخطّ الأمامي في مواجهة التحديات المستقبلية.
وعن التحليل البيئي الرباعي للتعليم العربي، اعتمد الباحث على تقرير واقع التعليم العام في الوطن العربي، الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وبعد غربلته له لخص نقاط الضعف فيه في 10 نقاط، ثم وضع 7 شروط، أو كما سماها فرصًا للخروج من نقاط الضعف، ثم تحدث عن أهم التحديات في 5 نقاط، لينتهي إلى الخلاصة التي لخص فيها رأيه، والتي سندها عناك. على أني أريد أن أقول إن من أسباب إعاقة التعليم في العالم العربي، هو هيمنة الدول عن المنظمات العربية للتربية والثقافة والعلوم، وبخاصة بعد الانقلابات العسكرية واستمرارية الحكم الفردي.
فالمناهج العربية هي مِن صُنع الدول العربية، وحتى تلك التي تسمى المدارس أو المعاهد الخاصة، فهي لا تخرج من هيمنتها، بل من قبضتها، لأنها مهتمة فقط بهيمنتها وإبقاء قوتها، وكما قال الشاعر اليمني الصوفي الكبير عبد الرحمن البرعي (830ه/1427م): وهل يستقيم الظل والعود أعوج. لقد كانت البداية في ظل الديمقراطية التي عرفتها الدول العربية عقب انتهاء الاحتلال، تتوجه علميًا وأدبيًا ملكيات وجمهوريات بحسب القواعد العلمية، بالرغم من وضع عصى المحتل في عجلة النهضة، ولكن بعد الانقلابات العسكرية وشمول الفردية متمثلة في حكام العرب، ارتكست المناهج، وعادت كما كانت في خدمة الحاكم، والفارق بواضح بين نهضة مصر وسوريا والعراق قبل الانقلابات العسكرية وبعدها.
إن دكتورنا الباحث الفاضل مشكورًا أقام بأبحاثه جسرًا ثقافيًا بين الجزائر واليمن، وكما قلت مرارًا فبين البلدين أواصر قربى منذ زمن قديم، لذلك فالتلاقي بينهما ضرورة ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية، خاصة والبلدان حافظان للعهد، وليس من شك أن لدكتورنا فضل السبق في إقامة هذا الجسر الثقافي بين الأخوين، بخاصة وأن المكتبات هي التي حفظت جميع الكتب من كل نوع، فلها الفضل في بقائها، وكان لها الأثر الضار في غيابها، ولكن بعودتها ستعود معها حضارتها الغاربة، ومن المؤكد أنه لولاها لما بقيت أوراق نقرأها، ولما بقيت حضارة نستعيدها، ومن هنا فالاهتمام بالمكتبات والكشف عنها وإيضاح محتوياتها من أوجب الواجبات لما فيها وما فيها من الكشف عن تواجدها ومعرفة هجراتها ولاستخراجها ونشرها بين الناس، بخاصة تلك التي لم تُعرف من قبل. وكعادة “المسار”، فإنها تختم عددها بمسك الختام، حيث يتناول الدكتور أيت بعزيز عبد النور بحثه الشيخ الموهوب أولحبيب (مشهد) صاحب خزانة المخطوطات ببني ورتلان، وتأسّست هذه المكتبة في حدود سنة 1268ه/ 1852م، وتحتوي على أكثر من 580 مخطوطًا ووثيقة. وبقيت هذه المكتبة مجهولة ومنسية حتى سنة 1405ه/ 1985م، إذ اكتشفها السيد جمال الدين مشهد، ونسّقها، وتعاون مع جمعية ومخبر جيهيماب- لاموس (gihemab- lamos)، وقام هو والبروفيسور جميل عيساني، رئيس الجمعية والمخبر، بنشر مقالات علمية، وإقامة معارض وطنية ودولية، للتعريف بمحتوى ومضمون المخطوطات، والمحافظة عليها. وقدّم بعض مخطوطاتها إلى هيئات علمية ورسمية لم تسترجع لحد الآن، منها 19 مخطوطًا خاصة بعقائد السنوسي سلّمت إلى هيئة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامي.
ولهذا فأنا أرى في ما ذكره الدكتور من وجود جمعية تولت الاهتمام بهذه المكتبة، نموذجًا يتبع، في اليمن، لما فيه من فائدة مادية في نشر التراث ودراسته وطبعه، وليس في مكنة أحد أن يستطيع القيام مهما أعطي من قوة كمثل الذي تقوم به مثل هذه الجمعيات، مع العلم والشكر لتلك المحاولات التي قام بها كل من العلامة الحبشي والدكتور العمري والعلامة الوجيه الذي بلغ هذا التجمع على يديه مرحلة لم يسبقها إليه أحد، حيث قام بتسجيل ما في معظم المكتبات الخاصة من تراث، في مجلدين ضخمين بجهده الخاص، وليس من ورائه جمعية علمية تقوم بطبع الكتب، وكم أتمنى أن تشكل جمعية للتراث اليمني الشامل من شماله إلى جنوبه، ومن شرقيه إلى غربيه، ولو تم هذا الأمر لرأى العالم أي كنوز تحتويها اليمن، وأي علماء أبدعوا تلك الفنون.
قام الدكتور أيت بعزيز عبد النور في بحثه بالتعريف بمؤسّس هذه المكتبة الذي لم يكن عالمًا ورجل دين فقط، بل كان مصلحًا ومقاومًا ومدرّسًا ومربّيًا، ونسّاخًا ومؤلّفًا وجامعًا للمخطوطات، تعرّض للتّغريم والسّجن والإقامة الجبرية، وأُحرقت داره ومكتبته من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي، بسبب مشاركته في ثورة الشيخ الحداد والمقراني (1871م)، وهذا بالفعل هو حال المصلحين في هذه الأمة.
وبعد أن عرف بهذا العالم المصلح المجاهد، تحدث عن محتوى الخزانة وتاريخها، وما لاقى هو ومكتبته من مصائب، ثم دخل في وصف إجمالي للمخطوطات، فعرض ما فيها عن الأدب والشعر واللغة والنحو والصّرف والفقه وعلم الكلام والعقائد وتفسير القرآن والتجويد والرسم والقراءات، والتصوّف والزّهد والأذكار والتنجيم والفلك، والخطب المنبرية وعلوم الحديث والبيوع والتاريخ والسير والأعلام والأنساب والمنطق، وصناعة الحبر وتسفير المخطوطات، والطب والمصاحف والحساب، والهندسة، والبيان، والبلاغة.
أي أنها احتوت على كل العلوم الإسلامية تقريبًا من خلال حوالي 580 مخطوطًا، وتنوّع علومها وفنونها (20 فنًا وعلمًا)، ثم ختم بحثه العلمي بخاتمة استخلص فيها نتائج بحثه.
رئيس التحرير