افتتاحية العدد السابع والستين

رئيس التحرير

. يصدر العدد السابع والستون في أجواء مناسبتين تنهلان على الأمة الإسلامية رحمة من الله تعالى، وإخاء وتعاونًا على البر والتقوى. الأولى في شهر رمضان المبارك حيث تعيش كل الأمة في وحدة إنسانية واحدة، يجمعهم شعور الجوع وحرقة الظمأ، فيشتركون كلهم في وحدة إنسانية تعمق الإخاء بين المسلمين بالرغم من حكامهم الانفصاليين،  فتبعث فيهم مشاعر التعاطف، ومن ثم التقارب والتعاون. وينتهي هذا الشهر ويطل علينا العيد مؤذنًا بفرحة الشعور الحي بأداء الواجب على أحسن وجه، فيفرحون ويسعدون.

إن هدايا الله عديدة على عباده، ومنها هاتان المكرمتان من رب العالمين؛ هدية امتحان رياضية روحية ينتعش بها روح الإنسان إلى آفاق رحاب، وهدية تكريم ممثلة بعيد بهيج.

بهاتين المناسبتين الكريمتين ويسعد مجلة “المسار” أن تتقدم لقرائها الكرام بوافر الأماني الطيبات، والتهاني المباركات، سائلة المولى عز وجل أن يعيده على الأمة الإسلامية بالوحدة والمحبة والأخوة الصادقة.

 1

 يستهل هذا العدد بمقال من أهم المقالات، تناوله قلم صنّاع، فأما الموضوع فهو فلسفة الاختلاف وثقافة الحوار، وأما كاتبه فهو الأستاذ الدكتور زيد بن علي الفضيل. فهذا الخلاف شكّل -ومازال يشكل- عائقًا كثيفًا لا يحول بين تلاقي قطر وقطر، وإنما داخل القطر نفسه، بل أحيانًا دخل الدار نفسها. وفي هذه الحال يصبح التقارب والتداني صعب المنال، ومن ثم يجب إزالته عبر الكلمة الراشدة.

وفي هذه السبيل قدم الأستاذ الدكتور هذا البحث الراشد والرشيد، فأرشد إلى أن الحل الوحيد لإزالة الأسوار المذهبية المانعة للتواصل، هو الحوار، والحوار وحده، وليس ثمة طريق آخر، فالحوار إخصاب وإثراء، والخلاف تجفيف وتصحير، وقد وضح الدكتور الفضيل ذلك بقوله إن الحوار: “يمثل خصيصة تتميز بها كل المجتمعات الحضارية الهادفة إلى تحقيق التقدم والرقي وصولًا إلى الغاية المنشودة وفق ما تقتضيه مختلف الخطط والاستراتيجيات المقررة، كما يعكس شكلًا ثقافيًا متطورًا تسري جنباته بين فئات ذلك المجتمع، وهو ما كان ينطبق على الأمة الإسلامية في بعض فتراتها السالفة، التي عاشت سمتًا ثقافيًا عالي المستوى، تمثل في ما أبدعته العقول العربية من فكر إنساني، وسلوك حضاري، أثمر عن نتاج مادي ومعنوي، كان له الأثر البارز في نمو الحضارة الإنسانية بصفة عامة، في الوقت الذي غرق فيه المجتمع الأوروبي في ظلمات جهله السحيقة، فانعكس ذلك على مختلف جوانب حياتهم”.

وأشار إلى تبدل المواقع، ففي حين تخلى المسلمون عن ثقافة الحوار، فانحدروا، اعتمده الأوروبيون، فتطوروا. وقد شرح الأستاذ الدكتور هذا التبديل بلسان عربي مبين، ومن أهم النقاط التي أبرزها أن تلك المعضلة قد عطلت أهم ما في الإنسان من دوافع الإبداع، وهي: “الحرية الفكرية، فتعطلت آلية حركة البحث والنقاش، وتلاشت ملامح الحرية والاختيار أمام تأثيرات أنماط التفكير التسلطي السائد في المجتمع، المرتكز على فعل الأنا المتحجر”.

ومن ثم دعا دكتورنا الكبير إلى إحياء الحرية الفكرية، وتلمسها في تعاليم القرآن الكريم، وحياة رسول الله الأمين، والدليل على ذلك هو دعوة الكتاب في العديد من الآيات إلى وجوب تشغيل العقل وتحريكه.

ثم تحدث عن أهمية الحوار، التي أكدتها «التجارب البشرية السالفة، وبرهنت حقائق الصيرورة التاريخية على أن الحوار، وليس القوة، هو المخرج الحقيقي لكل الأزمات السياسية والعسكرية والفكرية وغيرها، وبخاصة إذا ما تعلق الأمر منها بالشق المجتمعي الوطني، شرط أن تتحقق فيه صفة الوطنية، بمعنى أن يكون الوطن بماضيه وحاضره ومستقبله، بمقوماته وأركانه، بأفراده وجماعاته، بنسائه ورجاله، صغاره وكباره، ترابه وسمائه، ماثلًا أمام كل المتحاورين”. كما أثبت أن الطائفية والمذهبية هما نتاج طبيعي للخلاف العقيم؛ “إذ الإشكال كائن في طبيعة ومضمون مرجعية الخلاف الذهنية، وتبني جانب من التصنيف وفقًا لرؤية مذهبية أو طائفية أو مجتمعية كذلك».

وفي عنوان ماذا بعد؟ تحدث الدكتور بعد طواف علمي واسع حول هذه المعضلة «وهو: وماذا بعد؟ ماذا نريد اليوم؟ وكيف نعالج هذا التزمت والنزق المستشري بين جوانبنا؟ وكيف نحيد نتائجه بمنهجية مجتمعية؟ لاسيما حين يتابع أحدنا مواقع الصراع المحتدم في وطننا العربي، وهل الإشكال نابع من محتوى موروثنا الفكري؟ وفي حال ذلك، هل تؤدي القطيعة المعرفية مع الموروث إلى خلاصنا وانتهاء نسق نزقنا الذهني القائم على مفاهيم انطباعية وليس منهجية للأسف»؟

وأجاب: “في تصوري أن ذلك لن يكون، وأن أية قطيعة معرفية مطلقة سيكون لها أثرها الأسوأ على سمتنا الذهني وسلوكنا الحياتي، حيث سيتم تفريغ أجيالنا من مضمون يحتاج إلى تهذيب فقط، ودون أن نملأ صدورهم بمضمون آخر متسق مع جيناتهم الذهنية، وهو إشكال كبير لا يتفكر به المتفكرون اليوم للأسف”.

ودعا في مقاله الخصب الثري إلى تهذيب موروثنا الفكري والفقهي “انطلاقًا من كونه موروثًا بشريًا قائمًا على الاجتهاد الذي يرتكز في قانونه الرئيس على نسبية الحقيقة، فرأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ويتابع فيقول: وحتى يتسنى ذلك عمليًا وبشكل مناسب، فنحن بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة مفاتيح تفكيرنا من واقع العودة إلى قيم القرآن الفكرية التي اشتغل بها علماء المدرسة العقلية في تراثنا الفكري، والتي تكرس خاصية التدبر والتفكر والتأمل وإثارة سؤال الحيرة والدهشة، وحتمًا فإن مجتمعًا يقوم على ذلك سيؤمن بقيمة الإنسان بعيدًا عن أي اصطفاف ديني أو مذهبي أو عرقي، وسيخط له طريقًا آخر يقوم على منظومة قيم أخلاقية سامية، أو منظومة مادية منفعية. وفي كليهما لن يكون أحدهما موقعًا عن رب العالمين على الصعيد السياسي أو الاقتصادي وصولًا للفكري الديني والمجتمعي”.

ومن الخير كله أن أترك للقارئ الكريم أن يتجول بنفسه في هذا المقال، وكلي ثقة بأنه سيخرج منه مزودًا بموفور وفير.

2

 وتناول الأستاذ الباحث والمتخصص في التراث اليمني القديم بوجه خاص، جمال الشامي، زاد الله أبحاثه جمالًا، موضوعًا مهمًا أيضًا يكشف ما نحن عنه غافلون، وبعضنا معادون، هو «حقوق الإنسان في تراث الإمام محمد المرتضى». والحق أن ما يقوم به هذا الباحث القدير لهو ربط الماضي المشرق بالحاضر الضبابي، لمساعدة هذا الحاضر في إزالة الأتربة والغبار من عليه. ذلك أن الماضي العلمي يحمل في طياته من الفكر والإبداع ما يثري به غائم الحاضر، وينقيه من الأوهام والظنون، وما فيه من حيوية تضيء مدلهم تلك الأوهام والظنون، لكي تنار السبيل لمستقبل علمي يتبلور.

وقد كان الناس في غفلة من ذلك الفكر الحي حتى لظنه البعض عقيمًا، وفي ما قام به الأستاذ جمال الشامي من نشر كتب الماضي، هو في الحقيقة إحياء لتراث مساعد في بداية اليقظة الحاضرة التي ما يزال العمى التاريخي يطنب مضاربه. ومما لا شك فيه أن الجهد الذي قام به أستاذنا الكريم، لهو من الأعمال المباركة التي تستخرج الجيد من التراث حتى ندخل فيه ونقرأه قراءة منصفة، وهو إلى جانب ذلك تنشيط لحاضر متعثر لولا بعض المنارات المضيئة.

بدأ الأستاذ جمال بحثه بالتعريف بنصوص الإمام، ثم بالتعريف بالإمام، والإمام المرتضى من خيرة الأئمة سيرة وسلوكًا وعلمًا، لا يختلف من عرفوه في فضله وعلمه وحسن خلقه وسمو تدينه في ما أعلم، وسيتعرف القارئ على بعض أفكار هذا الإمام العظيم من هذا البحث العلمي الرصين.

ثم بعد ذلك حدد موضوعه بثلاثة عناوين رئيسية تتفرع إلى عناوين جانبية، وتلك العناوين الرئيسية هي: 1- أصل خلق الإنسان وحقيقته؛ 2- الحقوق الأساسية والعامة؛ 3- الحقوق الخاصة بالمرأة والطفل.

وفي العنوان الأول تناول حقوق الإنسان في التعاملات الدينية والدنيوية، وما فيها من تسهيل وتيسير، ومن أهم ما تعرض له دفع الإنسان عن نفسه أي ضرر يلحق به كالأوبئة الفتاكة وغيرها، وعن النظر والتفكير، وحق العيش بكرامة، وحق الإنصاف والعدل.

ثم تحدث عن الحقوق الاقتصادية من مثل توريث ذوي الأرحام، وحق حماية الملكية، وحق التكافل الاجتماعي، وحق رعاية الأيتام، وحق الوصية.

وفي مجال الحقوق الاجتماعية، تحدث عن حق الزواج والأسرة، وحق اختيار الزوج، وحقها في ألا يعقد عليها إلا بإذنها، وعقد أبيها عليها بدون موافقتها مفسوخ، وحق الهجرة والتنقل، وحق الأولاد في المساواة بينهم.

ثم تناول الحقوق السياسية: فتحدث عن الحق في رفض شرعية الظالمين ومقاطعتهم، والحق في التصدي للظلمة، وحق النظر في من يستحق الإمامة، والحق في إقامة العلاقات مع غير الأعداء.

ثم تناول الحقوق الخاصة: فشرح حقوق المرأة، ومنع التزوج بالصغيرة، حق التصرف في مالها؛ إذ الزوجة سمحت به، حق المعاملة الحسنة، حق الدفاع عن نفسها، حق مراعاة أرحام المرأة، حقها في ميراث دية زوجها، وحقها في اختيار زوجها، وألا يجوز أن يعقد لها أبوها بدون رضاها إطلاقًا، وإذا ما فعل فالعقد باطل ومفسوخ. وهذه النقطة بالذات من الأهمية في التعامل بين الجنسين، فالقول بعدم المساواة كإلقاء اللوم على حواء في المعصية، يؤدي بالنظر إلى الانتقاص منها ومن جنسها.

وكم هي المظالم التي ترتكب بحقوق النساء، حيث تغلبت العادة على الدين، وللعادات قوة صارعة صرعت حقوقًا وأماتت واجبات.

ثم تناول حقوق الطفل: الكف عن إيذائه، الحفاظ على أمواله، المساواة بين الأطفال.

وكل ما ذكره من الحقوق هو محور مقاصد الشريعة، وما شُرعت الشرائع إلا لمصالحه، لكونها ألطافًا، والمندوبات لكونها مسهلات للواجبات، والمحرمات لكونها مفاسد، ولا شك أن دفع المفاسد كالمصلحة، والمكروهات كونها مسهلة لتجنب المحرمات.

ثم تحدث الأستاذ جمال عن حقوق الإنسان في تراث الإمام المرتضى، بما أجمله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عندما قال في مصالح الشرائع في قوله: «فرض الله الإيمان تطهيرًا من الشرك، والصلاة تنزيهًا عن الكبر، والزكاة تسبيبًا للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحج تقوية للدين، والجهاد عزًا للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعًا للسفهاء، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقنًا للدماء، وإقامة الحدود إعظامًا للمحارم، وترك شرب الخمر تحصينًا للعقل، ومجانبة السرقة إيجابًا للعفة، وترك الزنا تحصينًا للنسب، وترك اللواط تكثيرًا للنسل، والشهادات استظهارًا على المجاحدات، وترك الكذب تشريفًا للصدق، والسلام أمانًا من المخاوف، والأمانة نظامًا للأمة».

وعرف الحق على أنه: وفقًا لوصف أمير المؤمنين “علي بن أبي طالب” عليه السلام «أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى له».

ومن أهم ما لفت نظري، هو رأي الإمام المرتضى عن وجوب توقِّي الأوبئة المؤدية إلى التهلكة، فيؤكد وجوب التحرز منها بالبعد عن مصادرها أو بالحجر الصحي أو بالامتناع من السفر، وعن ذلك قال: «وأما الأمراض فينبغي للرجل إذا دخل بلدًا وبيئًا ذا سدم أن يتجنبه، ولا يخرج منه ولا يغرر بنفسه؛ فإن الله عز وجل جعل لعباده عقولًا يميزون بها ما فيه لهم من الصلاح والسلامة، فلا ينبغي لعاقل أن يتلف نفسه بركوب المهالك».

وبدون مبالغة، فأنا أجد في ما رواه باحثنا القدير مبادئ دستورية رائعة يخرج منه دستور كامل إنساني السمات والمعالم. وقد توفق أستاذنا الباحث في عرض أفكار الإمام العلامة المجتهد المرتضى عليه السلام، خير توفيق، إذ سهل مصطلحاته ويسر قراءتها، وجعلها بحثًا مشوقًا يلزم القارئ بقراءتها من أولها إلى آخرها في جلسة واحدة، بالرغم من مصطلحات قوانينها، وشملها ببحث هادئ يوثق الحقوق الإنسانية العامة، والحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وحقوق المرأة والطفل، من منظور شرعي.

3

 وآتي الآن إلى أرض الخير، إلى تهامة اليمن، أرض الكنوز المدفونة والأدباء والشعراء والعلماء والفنيين المغيَّبين تاريخيًا، مع أن بها من الفطاحل في كل فن ما يروق للناظر أن يراه ويتمتع بما ينظر، وللمستمع أن يسمعه ويتذوق حلاوته، والمؤسف حقًا أنه مضى حين من الدهر على تهامة -بمن فيها وما فيها- لم يهتم بها الباحثون على ما فيها من كنوز، وما جرى على أرضها من حروب. لقد ضفت كالصدفة تخفي آلاءها عن كل عين، حتى جاءت طليعة من أبنائها، فبدأت بنشر لآلئها مبشرة بعهد جديد لا يهتم بالحاضر فقط، بل يولي وجهه شطر الماضي البعيد، فيكشف عن لؤلؤ الصدف المخزون، وينثرها على الناس فيرون عجبًا.

إن تهامة بساحلها الطويل وإنسانها النشيط، كانت من أهم الموانئ في المنطقة العربية، وكانت تأتيها البواخر من كل ساحل عميق، فتفتح بالوافد وتتأثر وتؤثر.

من هذه الأبحاث -إلى جانب أبحاث تهامية سبق أن نشرتها “المسار”- بحث قيم بقلم الأديب الشاعر الباحث علي مغربي الأهدل، عن «تهامة في مصادر التاريخ وأساطير الخليقة»، ولعمري إنه بحث قيم وثري بالمعلومات تدل على سعة معلومات صاحبه.

تناول صاحبنا في بحثه الموقع الجغرافي: والتضاريس والمناخ والغطاء النباتي بشكل كافٍ وواضح ورشيق. وذكر ما فيها من نبات تحدث عنها بطليموس وثيوفراستر وأرتميدورس.

ثم ثنّى بالبحث عن تهامة في المصادر التاريخية، فتناول المصادر النقيشة، حيث تتوفر نقوش كثيرة تحدث عما تم كشفه في داخلها ونقوش من خارجها تحدثت عنها.

ثم ثلث بالحديث عن المصادر الكلاسيكية، وأنها رغم قلتها إلا أنها -كما قال- تشكل مصدرًا هامًا من المصادر التاريخية.

ثم جاء إلى الحديث عن تهامة في الثقافة الشعبية، فأعطانا صورة شيقة جذابة عن العادات والأساطير التي تشكَلت في ثوب آخر، ومانزال نمارسها كارتباط زهر الفل بالزواج المقدس وأثره وما هو عليه اليوم.

وتناول الوجود القبلي في تهامة، حيث كان اسم عك -مثلًا- يتردد منذ الزمان القديم، حيث ذكر بعضها كل من بطليموس ونيني الثاني.

وجاء إلى المصادر العربية، حيث ذكر أنها تناولت تاريخ تهامة باهتمام كبير، واستعرض ما جاء في كتب المعاجم ولسان العرب وفي المعجم البسيط وفي القاموس وفي اللغة الأكادية والأوغارتية وعند الهمداني والمقدسي وابن حوقل، ولكني أرى أن الكتب المشار إليها هي جغرافية وليست تاريخية، ولعل باحثنا الأديب سيتحف مجلة “المسار” وغيره من أدباء ومؤرخين واقتصاديين، بما يشبع جوعًا نهمًا.

ثم استمر في بحثه عن أساطير الخليقة وملاحم التكوين، فاستعرض ما جاء عن تهامة في الأساطير السومرية والبابلية، واستعرض بعضها في رشاقة ممتعة.

وأخيرًا، وصل بعد طيافة ممتعة في أودية رحاب، إلى ما سُيقرأ في نهاية بحثه الممتاز.

4

 والآن، أشد الرحال إلى الجزائر الرفيعة الخصال، فأقوم بزيارة الدكتور الوقور، والباحث الرشيد آيت بعزير عبد النور، فأسلم عليه تسليمًا، وأسمع منه ما كتبه عن “مساهمة الحسين الورتلاني في التاريخ”، وإنه لبحث مهم جدًا بما احتواه من معلومات تصل الماضي بالحاضر، وتوشج صلات القربي الفكرية بين الجزائر واليمن.

      في بحثه تناول الدكتور الوقور التعريف: بشخصية الحسين الورتلاني، ثم باهتمام الورتلاني بتاريخ الجزائر، ثم مضمون كتاب الرحلة الورتلانية.

وتحت تلك العناوين الثلاثة، قام الدكتور بسياحة تأريخية إلى حقبة العهد العثماني، ليلتقي بشخصية تاريخية فذة طافت بلدانًا كثيرة داخل الجزائر وخارجها، وأسمح لنفسي أن أرافق رحلته لزيارة ذلك الشيخ المؤرخ الجليل.

سأبدأ بما بدأ الدكتور “آيت بعزيز” بملخص بحثه، حيث أعطانا صورة مختصرة عن حياة الشيخ الجليل ودراسته ومشايخه في الدين، وإسهام الحسين الورتلاني في كتابة تاريخ الجزائر الحديث، من خلال رحلته “نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار”.

وأعرف منه أن شيخنا الجليل تلقى علومه في الجزائر، وأن علماء مصر الكبار منحوه إجازاتهم عندما استقر فيها لبعض الوقت. وعرفت منه أنه كان شاعرًا وأديبًا متصوفًا ورحالة منقبًا؛ طاف أكثر المناطق الجزائرية، ورحل إلى مكة المكرمة ثلاث مرات، وبهذه العدة والعتاد كتب الرحلة الورتلانية.

وقد تساءل الدكتور آيت بعزيز: هل حظيت كتبه باهتمام المؤرخين من بعده؟ وما هي الإضافة التي يمكن أن تقدمها الرحلة الورتلانية في كتابة تاريخ الجزائر في العهد العثماني؟ وقد أجاب هو على تساؤله في آخر بحثه، حيث تجده هناك.

ثم تحدث عن مضمون كتاب الرحلة “نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار”، فأحاط به خبرًا. فرافقه -وبالأحرى رافقته- في رحلته من زمورة فقصر الطير فخنقة سيدي جابر ومنها إلى إيالة تونس من جنوبها، ثم إلى القاهرة حيث توقف في الأزهر واجتمع بمشايخه ونال إجازاتهم وشاهد خروج موكب كسوة الكعبة المهيب، ثم واصل رحلته إلى مكة المكرمة، عاد من مكة متخذًا -من بعد مصر طريقًا أخرى، واستمرت هذه الرحلة أربع سنوات مليئة بالمشاهدات واللقطات الملفتة للنظر.

بعد هذه الجولة، عرج دكتورنا -وعرجت معه- إلى قراءة مصادر الورتلاني فـ تضمين تاريخ الجزائر الحديث، فأوفاهما بحثًا.

وانتهى به البحث القيِّم والمفيد إلى خاتمة لخص فيها:

1. خصائص أسلوب الحسين الورتلاني في تاريخ سرد الأحداث التاريخية.

2. التزامه الصدق والورع والتصوف.

3. تحريه الحقيقة.

4. ابتعاده عن الخرافات.

5. تميزه بالمحسنات اللفظية.

6. اعتباره التاريخ وسيلة علمية تهذيبية.

وبعد، فقد خرجت من هذا البحث بصورة واضحة المعالم عن شيخ جليل القدر رحمه الله وحفظ الدكتور.

5

 أصل الآن إلى الوثائق البريطانية التي تتحدث عن فترة تمتد من رمضان 1324هـ/نوفمبر 1906م إلى شوال 1324هـ/ديسمبر 1906، أي فترة شهرين حاملين أحداثَا كثارًا عن شمال اليمن وجنوبه، وبالأخص عن جنوبه، فما ورد عن الشمال قد اقصر على ما جاء به مندوب الإمام إلى عدن للمفاوضة في حرب الأتراك، في الوقت الذي وصل فيه وفد من السلطان عبد الحميد لمشاورات الصلح مع الإمام، ظنته الوثيقة اتفاقًا كاملًا، في حين أن مشروع صلح في 13 صفر 1324ه/ 6 أبريل 1906م، يقضي بما ذكرته الوثيقة، لكنه فشل، ولم يتم التوقيع عليه، لكن السلطات البريطانية توقفت عند تلبية الإمام لهذا السبب، وسنرى ما تم في وثائق العام التالي، التي ستوضح لنا ما تم من مسعى مندوب الإمام يحيى.

      وأخيرًا، هذا هو العدد السابع والستون بوروده المتنوعة وشذاه الفواح.

رئيس التحرير