أ. أحمد عبد الله مثني

إبراهيم صادق شاعرًا رائدًا في الشعر الحديث

قدم الأستاذ أحمد مثنى، عرضًا عن حياة وأدب الشاعر إبراهيم صادق الذي ظل يحاول أن يغادر حاضره إلى المستقبل المنشود، فتناول الكاتب تاريخه الدراسي، وجانبًا من شعره الشعبي، وكيف كان مدافعًا عن الحقوق والحريات في وجه الاستبداد، مهتمًا بتعزيز قيم الولاء الوطني والإيمان المطلق بالشعب والثورة، ومناهضة المناطقية، والمذهبية، والعشائرية، والسلالية. لقد توفق الكاتب في هذه الجولة الأدبية.

بعد هذين البحثين العقليين الرصينين، آوي إلى واحة على البحر الأحمر، تخفف عني وعن القراء صرامة البحث العلمي وجهامته، وفي ظلالها الحانية أسمع حفيف نسيم عابر مشوب بصوت ناي جميل، يتصاعد من الحديدة، فيملأ الآذان نغمًا تستريح إليه النفس الهائجة، ولحنًا يسكب أنغامه الشجية على مستقبل يضيع، وأمل يتلاشى، ونواح على هذا المصير.
يقدم لنا الأستاذ الكاتب الأديب بأسلوب فنان يحسن التصوير ويجيد العرض، شاعراً مجيداً لم يعطَ حقه من الدراسة. أما الأديب فهو “أحمد مثنى”، وأما الشاعر فهو إبراهيم صادق. وكلاهما تربطني بهما صداقة حميمة، لكنها لا تؤثر عاطفيًا على ما كتب أحمد، ولا على ما تغنى إبراهيم.

عرفته – رحمه الله – في الحديدة في أحد تلك المقايل الجميلة في بيت العلامة المصلح “أحمد بن مُحمد الوزير” -حاكم الحديدة آنذاك- حيث كان مقيله يضم باقة من المثقفين والأدباء والشعراء من أمثال الشاعر والمناضل يوسف الشحاري وإبراهيم صادق وغيرهما.

 وكم كنا نستلذ بصوته بشغف وهو ينشد بصوته المتهدج، فنسمع حسرات تتصاعد، وآهات تحترق، على بلد يتجه إلى المجهول بعد ومضة أمل أشرق، ثم لفها صمت خائب.

كان إبراهيم يحاول بإصرار عبور حاجز المستقبل، ويحاول أن يغادر حاضره إلى المستقبل المنشود. كان صوته المتهدج ينبئ عن حالته النفسية التواقة إلى الأفق الجديد، فيمنعه حراس الليل المظلم من أن يعبر إلى الفجر المشرق. وواها لك يا إبراهيم مما لاقيت أنت وبعض فتية آمنوا بمبادئهم، فازدادوا وثوقًا.

قام الأديب الناقد المعروف الأستاذ أحمد مثنى، بدراسة الشاعر إبراهيم صادق، دراسة شملت تاريخه الدراسي، بدءاً من كتاتيب الحديدة وجوامعها، إلى لبنان فالقاهرة، إلى أن عاد إلى وطنه بزاد جديد كان فيها مدافعًا عن الحقوق والحريات في وجه الاستبداد والظلم والقهر والطغيان، وكان تربويًا من طراز رفيع. كما كانت له أدوار في نشر الوعي الثوري التقدمي، وانشغل بتعزيز قيم الولاء الوطني والإيمان المطلق بالشعب والثورة، ومناهضة المناطقية، والمذهبية، والعشائرية، والسلالية.

كما تحدث بعمق عن ديوانيه “عودة بلقيس”، و”أغاني الشعب”، وتنوع شعره، ووقوفه بجرأة أمام المتجمدين وقوفًا، لم يتبدل ولم يتغير طيلة حياته، والذي يتجلى في ديوانه “عودة بلقيس” موقفه العقائدي، وثباته على ما يؤمن به، رغم أن التيار السياسي المناوئ لخطه قد ساد وتحكم وأرهب. وفي اعتقادي أن ديوانه “عودة بلقيس” ليس إلا نواح على حلم تحطم، أو بسبيله إلى أن يتحطم.

لقد ألم الأديب الناقد بحياة الشاعر، فأعطى قراءه صورة حية لشاعر موهوب عالج قضايا مجتمعه بحسب معتقده سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، من خلال ما أنشده بالفصحى، وما تغنى به باللهجة التهامية العذبة. وهو في كل حالة لم يبدل موقفًا، ولم يتدثر بأثواب جداد تلائم التغييرات الباهظة، لكنه لما نظر ما آلت إليه الأمور، ثبت على مبدئه، مع قسوة خيبة الأمل وجرح المسعى، وبقي صامدًا رغم كثافة الظلام والإظلام. قد يختلف الناس مع رؤاه، ولكنهم لن يختلفوا أنه شاعر مبدأ. ومن يحرص على الحفاظ على مبدئه، وإن لم يتحقق، فهو إنسان سوي.

كان إبراهيم صادق يمثل بحق مرحلة من أشد المراحل تعقيداً، بين ماضٍ يكافح من أجل وجدوده بكل قواه، وبين آمال تحلم بصنع مستقبلها، لقد كانت مرحلة ارتجلت فيها أشياء، وغاب منها الجوهر، وبقي الشكل تائهًا يبحث عن معناه.

مثَّل إبراهيم صادق -مع بضعة نفر- هذه المرحلة في صراع الماضي مع الحاضر مع انسداد أفق المستقبل. هذه المرحلة يجب أن تُدرس بعمق وعناية، لأنها عاشت مخاضًا ولد فيه أمل مستقبل جديد، ما لبث أن غاض وسط التحريف والتزييف وسوء التطبيق. ولأسباب كثيرة، أجهض الأمل، وعاش الوهم، وليس هنا محل تفصيل أسبابها. ومع أن كثيرين كانوا يتوجسون من انتكاسة كبيرة كالشاعر “الجنيد” الذي شام من البداية نذرها، فقال في قصيدته الشعبية الشهيرة:

“يا خيبتك شعبي بكل نهضة   لا يرجعوا يحولوك معاذير”

أي تبريرات وتسويفات. إلا أن إبراهيم كان أبرز من مثَل تلك المرحلة المعقدة بكل تأكيد، ومن هنا يحسن تكثيف دراسة تلك المرحلة بحسب ما كشفت عنه الأيام، لا بحسب ما صاغته الأحلام.

من خلال أعماله كلها نجده يحسد الطموح والأمل وفي الوقت يصارع الخيبة الواضحة التي بدأت تخرج أنيبها و مخالبها، فتقضم الأمل، وتفتت الطموح في فترة اختلطت فيها الخوف والرجاء

      إلى جانب هذا، فقد توفق الأديب الناقد في هذه الجولة، آملاً أن يجول قلمه مع بقية شعراء تهامة التي بدأت تشق عنها التهميش والتجاهل، فنهرها العظيم بدأ في التدفق من جديد، حاملاً معه النماء والخصب العميم. كان كاسمه صادق المعتقد وفياً، وحسبه أنه رجل معتقد ثابت.