وفي اليمن أبقى، وعلى شواطئها الرائعة أمتع نفسي بما جاء به الأديب الشاعر علي مغربي الأهدل في مقاله «الغناء والموسيقى والرقص في تهامة -أصل الموروث وأشكاله»، فأجد نفسي أفيء إلى واحة خضراء أستريح في ظلالها من سفر في صحارى البحث العلمي الجاد، لأستروح منها مناظر مبهجة عن أدوات الزينة وتاريخ اللباس وتطوره، ومن الملابس في المجتمع اليمني القديم ومن الزي الشعبي التهامي أشكاله ودلالاته. ويزيدني استئناسًا بها وارتياحًا لها أنها مناظر جديدة لم تطرقها عين من قبل، حد علمي.
يبدأ أديبنا بالحديث عن منطقة تهامة باعتبارها من أهم المناطق اليمنية الزاخرة بالتراث والموروث الشعبي. وهي حقول متعددة ومتنوعة تمثل إرثًا ثقافيًا كبيرًا جاء نتاجًا لتجارب وخبرات إنسانية طويلة تراكمت عبر آلاف السنين، تناقلتها الأجيال جيلًا بعد جيل حتى وصلت إلينا. وتحتل الأغاني الشعبية والرقص على أصوات الطبول والآلات الموسيقية الشعبية مكانة متميزة في نفوس أبناء المجتمع التهامي.
ثم يتناول الحديث عن تهامة بين الماضي والحاضر، فيسهب بنجاح في الحديث عن اليمن الذي قامت على أرضه العديد من الحضارات، وشكلت مسرحًا لنشاط الإنسان منذ العصور الحجرية القديمة وعصور ما قبل التاريخ، وهو ما تؤكده العديد من المستوطنات التي تم اكتشافها وتعود إلى تلك العصور القديمة، منها عدد لا بأس به وُجد في تهامة.
وعلى الرغم من ندرة الكشوفات الأثرية وقلتها، إلا أنه تم الكشف من قبل بعض البعثات عن أكثر من ثلاثة عشر موقعًا أثريًا ومستوطنة في ساحل تهامة، تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وتحديدًا العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي. يعود أقدمها إلى الألف السابع قبل الميلاد، كموقع الشومة شمال وادي رمع، وموقع جحابة شمال مديرية الدريهمي، وموقع سردد في الجهة الشمالية لوادي سردد، وموقع الصليف، ووادي عرج، والجاشة شمال الخوخة، وغيرها. وجميعها تشير إلى استيطان الإنسان للسهل التهامي منذ فترة مبكرة من التاريخ. ويذكر أن الدكتور عدنان ترسيسي أشار إلى إجماع المصادر التاريخية على أن قبائل سامية من جنوب الجزيرة العربية نزحت بموجات متعاقبة عبر البحر الأحمر إلى المرتفعات التي يقطنها الحاميون.
ثم بعد ذلك يتناول موضوعه من الناحية اللغوية، حيث تمتاز المنطقة بثراء غير عادي في الألفاظ والصيغ والتراكيب، تجسد بقايا كثيرة من اللغات القديمة، وبخاصة ما تسمى اللغات السامية والحامية. ويقول إنه إلى جانب غياب الأدلة المادية والأثرية، لم تكتشف بعد في تهامة أية أساطير مكتوبة إلى الآن، على غرار ما هو موجود في بلاد الرافدين، التي تشير إلى اسم تهامة كما في الأسطورة البابلية “الإينوما إليش”.
بعد ذلك يتناول الأغاني التهامية، التي تأخذ حيزًا كبيرًا من الثقافة الشعبية المتعددة الألحان على امتداد الأرض التهامية. وهو أمر، كما يقول، يحتاج إلى دراسة مستقلة تتناول الموضوع من جميع جوانبه. ويحاول الكشف عن العلاقة التي تربط جانبًا من الموروث الفني في تهامة بأساطير قدماء شعوب منطقة الجزيرة العربية. ويشير إلى أن الزغاريد النسائية التي تطلقها النساء في المناسبات الفرحية هي في الأصل تعويذة لدفع الحسد والعين والأرواح الشريرة، تتصل بطقوس الخصب والزواج.
ويشير إلى أن بعض الأغاريد تعود بجذورها إلى زمن وأصل مغرق في القدم، إلى “عشتار” عند الأكديين والبابليين، وتمثل كوكب الزهرة، كما تشير إلى ذلك أساطير بلاد الرافدين.
وبعد تلك الإيقاعات التاريخية، يتلمس بريشته الآلات التي تُعزف عليها هذه الألحان، بحيث إن كل رقصة أو إيقاع لها دلالة ومعنى يحيل إلى ثقافة من الثقافات القديمة. وهي في معظمها إيقاعات ورقصات دينية طقوسية. وذكر الناي والمزمار والطبل الخشبي المجوف كأهم وأقدم الآلات الموسيقية في تهامة، إلى جانب آلات أخرى يتم العزف عليها من قبل عازفين متخصصين يجيدون عزف عشرات الإيقاعات الراقصة المرتبطة بالأديان القديمة وغيرها.
ثم تحدث عن الرقصات التهامية القديمة، المتمثلة في:
– رقصة الزحفة: التي تعتبر من أهم الرقصات المرتبطة بالعرس التهامي في منطقة شام تهامة، ووصف كيف يحتشد الناس لرؤية حركات الراقص الاستعراضية والجسدية الموقعة على أنغام أصوات الطبول والآلات الموسيقية العالية والمتصاعدة بشكل ملهب.
– رقصة الكندو: التي تُعتبر من الرقصات الفنية البديعة والمعقدة التي تعود إلى أصل مغرق في القدم.
– رقصة الدبكة: التي تعد من تراث أهل شام تهامة (المناطق الشمالية من تهامة الواقعة إلى شمال مدينة الحديدة)، وهي تشبه إلى حدٍّ ما الدبكة اللبنانية والسورية من بلاد الشام العربي.
– رقصة الفداية: وهي رقصة تؤدى في الأعراس الرجالية.
– رقصة الشرجي: التي تختص بليلة السارية أو ليلة الدخلة.
– رقصة الحقفة: وهي رقصة جماعية تؤدى بشكل متناغم مع أصوات الطبول ذات الإيقاع الجميل وصوت الناي.
وقد شرح الأستاذ الباحث في مقاله الموضوعي القائم على المصادر، وأفاض في الحديث عنها إسهابًا وفصلها تفصيلًا، لدرجة أنك تحس نفسك بين الحضور، إما راقصًا معهم، أو متفرجًا منفعلًا.
ذلك تلخيص غير كافٍ لما قدمه الباحث الأديب. وهناك مفاجآت جديدة احتواها هذا البحث، أتركها للقراء ليتمتعوا بما فيه. وعلى الرغم من أن هذا البحث الممتع شكل واحة في صحراء، إلا أن الواحة هذه شكلت بحثًا علميًا ضاربًا في القدم وموجودًا في الحاضر، مما يدل على أن الواحة لم تخلُ من هبوب أعاصير واجهها الباحث بصرامة وصمود، تمكن من غرس ثمرات حسان.