حوار حول الإمامة من منظور زيدي

لخص الأستاذ محمد عزان في هذا المقال «حوار حول الإمامة من منظور زيدي»، ثماني رسائل حوارية جرت بين أربعة من كبار علماء الزيدية أواخر القرن الثامن الهجري، حول حكم الإمامة ودليله وما يترتب عليه. وتؤكد الدراسة أن الخلاف السياسي بعد وفاة النبي كان اجتهاديًا لا دينيًا، وأن تحوّل الخلافة إلى ملك وراثي كان نتيجة تزييف سياسي لاحق. يدعو المقال إلى قراءة نقدية للتاريخ لتفكيك الانحرافات الفكرية وبناء وعي سياسي ديني متجدد.

يبدأ هذا العدد بالحديث عن المعضلة السياسية التي ربما كانت أمّ المعضلات منذ تاريخ مبكر، وبالتحديد منذ أن تغلّب الملك العضوض على إمارة المؤمنين، وتمت إزاحة إمارة التراضي والانتخاب لإقامة الوراثة الأسرية، واستُبدل الفكر الإرادي بالجبرية المطلقة، وكلما تراكمت الأعوام اختفى الأصل وتضخم الانحراف، وأصبحت الخلافة الوراثية التي أنشأها الأمويون ورَسَّخها العباسيون والفاطميون، هي مزاد المذاهب كلها.

ولمواجهة تنظيف هذا الزيف التاريخي العميق، قدَّم الأستاذ العلّامة الكبير محمد يحيى عزّان دراسته عن جانب من جوانب الرؤية حول الإمامة، تحت عنوان: «حوار حول الإمامة من منظور زيدي»، تضمن خلاصة لحوار وقع قديمًا بين أربعة من كبار علماء الزيدية في عصرهم.

وأنا هنا لن أستعرض كل ما جاء في هذا المقال، بل سأتركه للقارئ حتى لا أُفسده بالاختصار. ولكني أستبق إلى نقل ما فعله ذلك الحوار في فتح شهية عالمنا الكبير للكشف عما دار من بين إمام تمت بيعته وعلماء كبار مجتهدين، فقال – بعد أن قرأ ذلك الحوار على عدة نسخ وحققها تحقيقًا علميًّا -: «وجدت فيها دررًا فكريةً وفرائد علميةً صاغتها عقول نخبةٍ من أهل النظر، جمعت بين التبحر في العلوم الدينية والخبرة في الشأن السياسي. ولمست في أطروحاتهم روحًا منفتحة على الحوار، تسعى إلى تفكيك التعقيدات الفكرية والسياسية التي خلّفها الصراع الطويل على زعامة الأمة وقيادة الجماهير».

والذي راعني من هذا الحوار هو مناخ الحرية الفكرية في تلك الفترة؛ إذ لم أجد أحدًا منهم جامل الآخرين، بمن فيهم الإمام الشرعي الموجب طاعته، فقد عُورض معارضة قوية. كما راعني أكثر أن الإمام الكبير لم يكن متشدّدًا في حصر الإمامة في «أهل البيت» -وهو منهم- وكان المنطق والمنفعة السياسية أن يتشدّد فيها، ولكنه لم يفعل، بل صرّح بما يعتقد في شجاعة المؤمن بما يراه.

ويحسن أن يقرأ الناس هذه القضية المزمنة من خلال ما شرحه عالمنا من بداية الخلاف، وأن ما وقع من خلاف بين المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، «لم يكن خلافًا دينيًا، بل كان سياسيًا، تمثّل في تعدّد الشخصيات المؤهّلة لقيادة المجتمع المسلم في عصر كبار الصحابة، وكانت المعايير المعتبرة للترشيح هي كفاءة الأفراد وملاءمة الظروف».

ثم يقرّر أن جُلّ ما جاء فيما بعدُ من أخبار هو «صناعة فرقاء السياسة في العصور اللاحقة، إما لتسويغ تحوُّل خلافاتهم إلى صراعٍ مجتمعي، أو لتبرير انحياز بعضهم لهذا الفريق أو ذاك. وقد جاء أكثر ذلك الجدل لمحاولة إضفاء شرعيةٍ دينيةٍ على تحوُّل الخلافة ـ لاحقًا ـ إلى ملكٍ عضوض، ثم رُبط ذلك العبث كلّه بسلفٍ يُعتدّ بمكانتهم في الذاكرة الإسلامية».

فإذا ما تقرّر هذا القول – وهو تقرير – في اعتقادي – صحيح- فقد أمكن مسك مفتاح نفتح به المُغلق من مكينة الانحراف الهائلة، التي «أورثت الأجيال الصراعَ في الزعامة السياسية ـ نظريًا وعمليًا ـ كقضيةٍ دينية، وباتت أزمةً فكريةً وعُقدةً تاريخيةً ارتفعت وتيرتها واضطربت وتناقضت بقدر هيمنة السلطة السياسية على رجال الدين، مما انعكس سلبًا على وعي الأمة ووحدة المجتمع».

وكثيرة هي المفاتيح التي وجدها عالمنا في هذا الحوار، وأهمها أن هذا الإمام الكبير تمكن من بعث حالة من الحراك الفكري الهادئ بين علماء دين مشهورين وخبراء في السياسة، باعتبارهم محل المسؤولية الأخلاقية في تصحيح المسار، لا سيما وأنهم كانوا أهل الحل والعقد، ومرجع الجماهير ومعتمدهم. والحوار وإن بدى مراجعة داخل المذهب الزيدي فإنه تجاوزه إلى نقاش المسائل في ضوء مقولات عموم المذاهب الإسلامية، وناقشها باستفاضة من وجهات نظر مختلفة.

ولا بد لي أن أشير إلى ما فككه الإمام وعلماء الزيدية المتحررون في أنه لا يحق للإمام أن يجبر الأمة على اعتقاد صحة ولايته؛ لأن المذهب الزيدي يجعل من حق كل فرد من أفراد الرعية أن يعلن رفضه للإمام، سواء كانت مسألة الإمامة قطعية أو ظنية، شريطة ألا يكون ذلك عن تعنت، وألا تؤدي معارضته إلى فوضى أو إضرار بالمجتمع.

وقد أحسن الكاتب الكبير في ترجمة كل من اشترك في الحوار، بما يكشف مكانتهم العلمية في الوسط الزيدي، كيف أنهم كانوا من كبار علماء عصرهم، ولهم مؤلفات مشهوره في القضايا الفكرية والفقهية. كما أحسن كل الإحسان في تلخيص أفكار المتحاورين، بدون تحيز ولا تعصب، وتجميعها في محاور محددة ليسهل استيعاب ما أوده كل منهم وما ردبه الآخرون عليه، دون تدخل منه في ترجيح قول على قول وترك للقارئ الاستنتاج وفقًا لثقافته.

وأخيرًا، أعتقد جازمًا بأن مثل هذه الأبحاث تكشف لنا العوائق الكامنة في الماضي، وتمنع عنا ارتياد مستقبل قرآني؛ لأننا لم ندخل مستقبلاً بعد، وإنما نعيش في ماضٍ مظلم يكرر نفسه في بلادة معتمة.