فقد أخذ زميلنا الدكتور المنقب «الناشري» عُدة البحث اللازمة، وذهبنا معه إلى بقعة أخرى حيث ضرب بمعوله في أعماق الأرض، فاستخرج بحثاً عن تاريخ مدفون.
وإذ أكتب تعريفاً بهذا المقال الخصب؛ فإنه من الخير العلمي أن أتحدث هنا عن متاعب المنقب عن النقوش، فليس سهلاً أن تحصل على نقش ما، وليس يسيراً أن تعثر عليه كاملاً، وليس ميسوراً أن تلصق نقشاً إلى نقش لتنسج صورة تاريخية متكاملة أو قريبة من التكامل، ذلك أن ما هو مدفون في أعماق الأرض، ومتوارٍ خلف الأعوام والسنين، ليس كما هو ظاهر على السطح، وقريب العهد، ومتوفر المراجع. وفي رأيي أن المنقب عن النقوش في باطن الأرض أو في الحجر الأصم، أو في تشتتها في بيوت متنافرة، وعمارات متباينة شتت تاريخها، وبترت أوصاله؛ فقطعة هنا وقطعة هناك، في هذا البناء أو في ذاك، يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين. من هنا ندرك أهمية المنقبين الذين لا يجدون مواد الكتابة التاريخية بين أيديهم حاضرة، تمدهم بنصوص مكتوبة؛ بل نجدهم يبحثون عن نقوش متناثرة ومبتورة، ويوصلون هذه بتلك حتى يستوي بين أيديهم تاريخ يتوالد وينمو ويتكامل عبر السنين والأعوام، ولعمري إنه لجهد كبير ومتعب ومرهق.
ومن هنا تأتي أهمية مقالة الدكتور «علي محمد الناشري» في مقالاته التنقيبية، كمقاله هذا الموسوم بـ«نقش سبئي من قرية بيت وتر ببني بهلول».
وقد استهل الكاتب الحصيف مقاله بملخص عنه أغناني عن تعريف محتوياته، وهو خبير به، عارف بأحواله ﴿ولا ينبئك مثل خبير﴾. فقال: «يُعنى البحث بدراسة تحليلية لنقش سبئي جديد دُون بخط المسند (Na- Bayt Watr1) على قاعدة تمثال أسد من حجر الرخام الأبيض، عُثر عليه حديثاً في موقع قرية بيت وتر (24 كم جنوبي شرق مدينة صنعاء)، حيث تم نقله بحروف الخط العربي، ثم نقل معناه إلى العربية الفصحى، ودراسة مفرداته دراسة تحليلية، لغوية تاريخية. وتكمن أهمية هذا النقش من كونه جديداً، وأنه اشتمل على أسماء أعلام جديدة مؤنثة (أمة ثون، عد شف)، واسم قبيلة، أدبرن، ويذكر أيضاً لأول مرة اسم الإله ذي عدن تهرجب، مع صيغة جديدة للإلهة ذات البعدان الشمس، في معبدها الجديد المسمى «ذي متبع». وتعد إضافة جديدة إلى أسماء الأعلام والآلهة والمعابد الأخرى المعروفة في الممالك اليمنية القديمة».
وبعد هذا الملخص، تحدث عن وصف النقش ومصدره، وعن تاريخ النقش، وعن معنى النقش، ثم خاتمة عن أهمية النقش، ليس لأنه ينشر لأول مرة، وإنما لأنه يذكر أسماء جديدة لأول مرة، تعد إضافة جديدة إلى أسماء الأعلام والآلهة والمعابد المعروفة.
وكما ترون، فإن نقشًا واحداً ذا أسطر قليلة قد أخذ من الدكتور طيافة واسعة في التاريخ والجغرافيا واللغات والمعاني والترجمة، وما يقوم به المنقبون إن هو في حقيقة الأمر إلا تقديم المواد المغيبة للناس والمرادم الصحيحة والقوية، والتي يقوم عليها البناء التاريخي الموثق، والتي يبني عليها المؤرخون وجهات نظرهم، فلهؤلاء الباحثين المنقبين اعتراف المدين لهم بالشكر والعرفان على ما بعثت أيديهم من تاريخ دفين نقتطف منه بسهولة ويسر، ولهم التعب والإرهاق.