بركات محمد مراد

ابن باجة الفيلسوف المتوحد

كتب الأستاذ الدكتور "بركات محمد"، عن "ابن باجة الفيلسوف المتوحد"، كيف انطلق من مناخ مغلق ومرحلة تاريخية مجدبة؛ فأصبح رائداً ومعلماً، فتح الطريق لمن جاء بعده وبلوغ شأواً بعيداً في فلسفات كثيرة أسس بها اتجاهاً عقلياً كان له تأثير لا ينكر.

آتي الآن لأحلق مع أجنحة الأستاذ الدكتور “بركات محمد”، في أودية تتكسر فيها الأجنحة إلا من أوتي ريشاً طويلاً، وقوائم متينة، وأشهد أن ريشه طويل وقوائمه متينة فيما كتبه عن “ابن باجة الفيلسوف المتوحد”، فليس الحديث عن الفيلسوف ولا عن الفلسفة بسهل ولا ميسور، إلا لمن أعطي بسطة في العلم والعقل. ذلك أن الفلسفة لا تكتفي بظواهر الأمور، فيسهل التقاط أسرارها، لأنها بطبيعتها ليست استكشاف “المرئي”، وإنما الوصول إلى “اللامرئي”، أي الغوص في علم الغيب الذي سمح الله به للعقول الجبارة أن تستكشفه {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}، وضمن هذا السماح كان للفلاسفة المسلمين الحق في البحث والاستقصاء.

وهكذا حلّق البروفيسور الدكتور مع “ابن باجه الفيلسوف المتوحد”، في فضاء وسيع، أطلعنا من خلال هذ الفيلسوف على ما لا يعرفه “العلماء الماديون” من عالم مغاير، ومن ثم فتح “الباب الأندلسي” على “العالم اللامرئي”، فنرتاد معهما مناهل وحقولاً.

ولنا أن نعجب بهذا الفيلسوف الذي انطلق من مناخ مغلق ومرحلة تاريخية مجدبة؛ لم تعد تفيض بما كانت تفيض به “الأيام الإسلامية الزاهرة في إشبيليا”، والتي كانت قد ولت، “وولت معها الحقبة التي كان فيها الطوائف يجمعون حولهم العلماء والدارسين، ويغدقون عليهم”. لقد جاء “بعد هؤلاء المرابطون كمنقذين من ضغط الإفرنج المتزايد، إلا أنهم لم يكونوا منقذين فعلاً في نظر فيلسوفنا. فالسلطة الحقيقية كانت قد أخذت تنتقل إلى أيدي الفقهاء والمقلدين من رجال الدين. ففي الوقت الذي كان هؤلاء ينعمون فيه بالسلطة والنفوذ، كان الفلاسفة والمفكرون يلاقون ألواناً من الاضطهاد في العالم الإسلامي بجزأيه الشرقي والغربي. في ظل هذه الظروف الحالكة جاء ابن باجة الذي كان حاذقاً ماهراً في الفلسفة والمنطق وعلوم الفلك والطب والنبات والرياضيات والموسيقى، وباختصار بجميع ضروب المعرفة النظرية والعملية في عصره، إضافة إلى الشعر والأدب، فضلاً عن علوم الدين واللغة”.

وبهذا التعريف يعتبر “ابن باجة” في “الأندلس” رائداً ومعلماً فتح الطريق لمن جاء بعده “جاء ابن باجة في أوائل القرن السادس الهجري، في وقت كانت فيه الحضارة الإسلامية تواجه كثيراً من التغيرات السياسية والثقافية العميقة، وفي زمن عانت فيه الفلسفة والعلوم العقلية معاناة شديدة، وكان على هذا الفيلسوف الشاب أن يقف بشجاعة نادرة، مدافعاً عن الفلسفة أمام العدا، ومحاولات التشكيك السائدة في عصره ضد الفلسفة، فكان شجاعاً صريحاً بعكس نظرائه من المفكرين الذين آثروا سبيل السلامة، وانسحبوا من مسرح الحياة الفلسفية، ولم يكن ثناء تلميذه النجيب “ابن الإمام” عليه بأنه “في ثقابة الذهن ولطف الغوص على تلك المعاني الجليلة الشريفة الدقيقة أعجوبة دهره ونادرة الفلك في زمانه”، إلا لاستهلاله لطور التأليف الفلسفي في الأندلس، وبلوغه شأواً بعيداً في فهم أقاويل أرسطو، تفوق فيه على كل من الفارابي وابن سينا. ثم إبداعه تآليف فلسفية كثيرة أسس بها اتجاهاً عقلياً فلسفياً كان له تأثير لا ينكر على من جاء بعده مثل ابن طفيل وابن رشد وابن خلدون”.