استهل العدد بمقال مهم للعلامة “محمد يحيى عزان” عن “عرض مرويات الحديث على القرآن.. مبين فيه أهمية هذا المنهج في تنقية الحديث النبوي من الإضافات والملصقات التي كان لها دور سلبي ولا يزال في انحراف مسيرة الأمة.

هذا مقال مهم للغاية، للعلامة الكبير “محمد يحيى عزان” عن “عرض مرويات الحديث على القرآن… الحَاجة والحُجّة والمنهج”، وما يقوم به الكاتب من تنقيب في هذا الموقع، لهو من الأهمية بمكان، لأن الأحاديث إما صادقة، وإما مدسوسة، وكلاهما كان له الأثر البالغ في صياغة المجتمع المسلم نهوضاً وهبوطاً؛ فصادقها نهض بالأمة المسلمة، فخلقت حضارة إنسانية عالمية، ومدسوسها أودى بالأمة من حالق، فخلق تخلفاً مزبداً. ومن هنا بالتحديد تأتي أهمية ما يكتبه شيخنا الجليل عن حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله، لأنه ينقيه من خطأ الدساسين، ويعيد إليه – بعد تنظيفه وتطهيره من رجس المخادعين – ألق النبوية، ودوره في حيويته الحضارية، وقوته الروحية الخارقة، وذلك من أجل أن تعود الأمة المسلمة إلى سابق نشاطها العلمي وإنسانيتها، وإبداعها.

وشيخننا الجليل يدرك أن أعداء الإسلام قد عمدوا بطرق ماكرة خفية إلى الحديث – بعد أن عجزت كل مساعيهم في الدس على القرآن – فدسوا فيه ما يتلاءم مع رغبات الحكام الطغاة، ليروجوه، وما ينسجم مع الفضلاء البله، ليتبنوه. لقد كشفت بحوث أستاذنا عن الحديث، أغطية خداعهم لمن ألقى السمع وهو شهيد.

كتب الأستاذ الدكتور “بركات محمد”، عن “ابن باجة الفيلسوف المتوحد”، كيف انطلق من مناخ مغلق ومرحلة تاريخية مجدبة؛ فأصبح رائداً ومعلماً، فتح الطريق لمن جاء بعده وبلوغ شأواً بعيداً في فلسفات كثيرة أسس بها اتجاهاً عقلياً كان له تأثير لا ينكر.

ليس الحديث عن الفيلسوف ولا عن الفلسفة بسهل ولا ميسور، إلا لمن أعطي بسطة في العلم والعقل. ذلك أن الفلسفة لا تكتفي بظواهر الأمور، فيسهل التقاط أسرارها، لأنها بطبيعتها ليست استكشاف “المرئي”، وإنما الوصول إلى “اللامرئي”، أي الغوص في علم الغيب الذي سمح الله به للعقول الجبارة أن تستكشفه {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}، وضمن هذا السماح كان للفلاسفة المسلمين الحق في البحث والاستقصاء.

وهكذا حلّق البروفيسور الدكتور مع “ابن باجه الفيلسوف المتوحد”، في فضاء وسيع، أطلعنا من خلال هذ الفيلسوف على ما لا يعرفه “العلماء الماديون” من عالم مغاير، ومن ثم فتح “الباب الأندلسي” على “العالم اللامرئي”، فنرتاد معهما مناهل وحقولاً.

ولنا أن نعجب بهذا الفيلسوف الذي انطلق من مناخ مغلق ومرحلة تاريخية مجدبة؛ لم تعد تفيض بما كانت تفيض به “الأيام الإسلامية الزاهرة في إشبيليا”، والتي كانت قد ولت، “وولت معها الحقبة التي كان فيها الطوائف يجمعون حولهم العلماء والدارسين، ويغدقون عليهم”. لقد جاء “بعد هؤلاء المرابطون كمنقذين من ضغط الإفرنج المتزايد، إلا أنهم لم يكونوا منقذين فعلاً في نظر فيلسوفنا. فالسلطة الحقيقية كانت قد أخذت تنتقل إلى أيدي الفقهاء والمقلدين من رجال الدين. ففي الوقت الذي كان هؤلاء ينعمون فيه بالسلطة والنفوذ، كان الفلاسفة والمفكرون يلاقون ألواناً من الاضطهاد في العالم الإسلامي بجزأيه الشرقي والغربي. في ظل هذه الظروف الحالكة جاء ابن باجة الذي كان حاذقاً ماهراً في الفلسفة والمنطق وعلوم الفلك والطب والنبات والرياضيات والموسيقى، وباختصار بجميع ضروب المعرفة النظرية والعملية في عصره، إضافة إلى الشعر والأدب، فضلاً عن علوم الدين واللغة”

عن حضارة واحدة ذات وجوه متعددة كتب الدكتور الباحث “علي محمد الناشري” عن “نقش سبئي من جبل كنن”،

تعتز (المسار) بفتح صفحاتها لعلماء الآثار.

 تناول بحث الدكتور “علي محمد الناشري”: “نقش سبئي جديد من جبل كنن”، وتناول بحث الأستاذ “عباد بن علي الهيال”: “من نقوش المسند الحميري في خولان”، وكلا البحثين كانا في منطقة “خولان العالية”، وفي منطقتين متقاربتين من بعضهما، وقريبتين من “صنعاء” أيضاً. وبالرغم من هذا التقارب، فإن لهذين البحثين قيمة تاريخية مهمة للغاية، ذلك أنهما يتحدثان عن حضارتين اختلفتا اسماً، واتحدتا نوعاً، أو قل حضارة واحدة ذات وجوه متعددة؛ الأول: عن “الحضارة السبئية”، والثاني عن “الحضارة الحميرية”، فقدما للقراء قراءة في بعض جوانب حضارة خلاقة.

أستطيع أن أجزم بأن كل بحث قد أحاط بنقشه علماً، وطرح جديداً، وأثرى تاريخاً.

كتب الأستاذ “عباد بن علي الهيال” عن “نقش من نقوش المسند الحميري في خولان”، فقدما للقراء قراءة في بعض جوانب حضارة خلاقة.

نجد عند باحثي الآثار فيضاً من الكشوفات التاريخية توجب إعادة النظر في إخباريات وهب بن منبه و”كعب الأحبار” و”عبيد بن شرية”، المنثورة بكثافة في تاريخ “الطبري” وغيره، والتي استمرت زمناً تمد المؤرخين بفيض من المختلقات متدفق. ومضت “الإخباريات” الأسطورية ردحاً من الزمن كأنها “أخبار” موثوقة، حتى جاءت الأبحاث الحديثة تفتح المناطق المغلقة، وإذا بنا من خلال نوافذ نطل على عالم آخر تماماً، جهله البعض، وتجاهله البعض، وحاربه البعض بغيظ متطرف ورعونة بلهاء.

ومن هنا لا يسع “المسار” إلا أن تقدر تقديرا عاليا جهود علماء الآثار الصعبة والعسيرة، والتي تفوق صعوبة مؤرخي الكتب الذين تتيسر لهم المراجع بسهولة ويسر، عبر الكتاب وعبر الإنترنت بدون أن يغيروا جلستهم، أما مؤرخو الآثار والنقوش فهم يبذلون جهداً عير مسبوق، فيمصون يضربون في الأرض ابتغاء استنطاق صخور صماء، وإذا بها تفصح عن حقائق ليس لنا بها علم، وليس ذلك فحسب، بل نراهم يمضون في بيد وراءها بيد، يظلون يبحثون في مناخ عميق الصمت، حتى يتمكنوا بعد تعب مرهق وخطير من استخراج “واحات” هنا وهناك، وسوف يأتي اللاحق فيكمل مسيرة السابق، فتتلاقى الواحات ببعضها بعضاً، وتعاد الحضارة إلى سابق عهدها.

نقرأ في المقال الخامس للأستاذة “أميرة علي” مقالا ممتعا عن “علاقة الشخصية بالمكان في رواية المرأة اليمنية”، لتبرز ما للمرأة من دور مزدهر أعقبه يقاوم الركود الذي يلقى بها ظلماً وعسفاً وقهراً في غيابة الغبن والتهميش.

نقرأ في بحث الأستاذة “أميرة علي”: “علاقة الشخصية بالمكان في رواية المرأة اليمنية”، بحثاً ممتعاً، وليس من عجب أن تقدم هذه الأميرة بحثاً في هذا المستوى، فللمرأة في الماضي دور مزدهر أعقبه ركود مطلق ألقى بها ظلماً وعسفاً وقهراً.

ومن هؤلاء الباحثات الرصينات الهادفات أستاذتنا “أميرة”، في مقالها هذا الذي يتناول علاقة الشخصية بالمكان، وتحدثت فيه عن “الرواية” حديثاً متمكناً في أمره. ونحن نعرف أن الرواية  تعمل في مجتمعها ما تعمله القنبلة؛ إن استخدمت في الخير عمرت، وإن استخدمت في الشر هدمت، وقد كان للرواية الهادفة مساهمات كبرى في خلق الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي و الاقتصادي، ولا يجهل أحد ما قدمته روايات “فيكتور هيجو” من أياد لـ”فرنسا”، وما قدمته روايات “غوته” لـ”ألمانيا” من خدمات، وما قدمته روايات “تشارلز دكينز” من مساعدات لـ”بريطانيا”، وينطبق القول نفسه على ما قدمته روايات “تولستوي” من خدمات لـ”روسيا”، ويصح القول نفسه على روايات “نجيب محفوظ”، وما قدمته من خدمات لـ”مصر”، بحيث يمكن القول إن تلك البلدان تدين لتلك الروايات البنّاءة بالكثير.

وإنني أرجو من هذا المقال أن يستفيد منه كتاب الرواية من خلال دراسة الأستاذة الفاضلة، ما يفيد، كما أرجو منها متابعة البحث في الرواية، لما تشكله من أثر في المجتمع لا يكاد يشكله موضوع آخر، وهي أهل لذلك بكل تأكيد.

وأخيراً كتب الدكتور “عبد النور” عن “الإعلام التركي والقضية الجزائرية”، فركز على “عرض محتوى ومضمون تقارير “السفارة الفرنسية” في “تركيا” من خلال ما نشرته الصحافة التركية، وهو موضوع شائك للغاية، نظراً لطبيعة العلاقات الودية التي كانت تربط بين تركيا وفرنسا في المجال الاقتصادي والعسكري والتقني.

اليمن تدين للجزائر، بالشيء الكثير للزعيم “الفضيل الورتلاني” في المجال السياسي، وللفيلسوف “مالك بن نبي” في المجال الفكري، بدون معرفة بالتربة التي أنبتت هذين العملاقين، إلى أن جاء الدكتور الصديق “عبد النور آيت بعزيز”، فبدأ يفتح المنافذ، ويفك الأقفال، فنطل من خلال أبحاثه على معرفة الشعب الكريم، إطلالة المستفيد المتطلع إلى تقارب الوشائج وترابط الصلات.

ركز المقال على “عرض محتوى ومضمون تقارير “السفارة الفرنسية” في “تركيا” من خلال تتبّع ما نشرته الصحافة التركية سنة 1957م [1376هـ] حول موضوع عرض القضية الجزائرية على الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، وهو موضوع شائك للغاية، نظراً لطبيعة العلاقات الودية التي كانت تربط بين تركيا وفرنسا في المجال الاقتصادي والعسكري والتقني، وعضويتهما في الحلف الأطلسي من جهة، وطبيعة العلاقات التاريخية والروابط الدينية بين “تركيا” و”الجزائر” من جهة أخرى”.

ومع أن الموضوع شائك للغاية، ولم تكن “تركيا” قد عادت إلى همومها الإسلامية، إلا أن الدكتور تمكن – برصانة – من تشذيب هذا الشائك، ومكّننا من قراءة فترة كانت فيها “الجزائر” تخوض ثورة مذهلة ضربت بها الأمثال، واستلهمها الأحرار.