يذكر رئيس القسم الشرقي في مكتبة برلين، الدكتور «كريستوف راوخ» أنه أعتمد في دراسته هذه عن «الأماكن المذكورة في بيانات وحواشي المخطوطات اليمنية» على فحص 750 مجلدًا موجودًا في ميونيخ المكتبة البافارية الحكومية وفي ڤيينا المكتبة الوطنية النمساوية وفي برلين مكتبة برلين الحكومية. وأنها توحي بالسياق الاجتماعي والجغرافي للأنشطة العلمية في عصور وأماكن مختلفة من تاريخ التعليم في اليمن.
Picture of كريستوف راوخ

كريستوف راوخ

أظل في هذه الأجواء اليمنية، فألتقي بمقال خصب للدكتور “كريستوف راوخ”، مدير المكتبة الوطنية ببرلين، بعنوان “الأماكن المذكورة في بيانات وحواشي المخطوطات اليمنية”. ولهذا المقال قصة تنبئ عن التعاون العلمي بين علماء طوائف أخرى، وذلك أني قمت بجولة أوربية، بعد أن زرت الراحل الكبير ولفريد ماديلونغ، بقصد زيارة الكتب اليمنية المهاجرة، في أوطانها الجديدة.

 ومن أقدم هذه الجامعات التي تحوي مخطوطات يمنية، هذه المكتبة العريقة؛ مكتبة ولاية برلين -التراث الثقافي البروسي: Staatsbibliothek zu Berlin – Preußischer Kulturbesitz: فذهبت إلى زيارتها مع ولدي د. طارق وحفيدي باشق، يوم الجمعة 26 مايو 2023م، بعد موعد حدد لنا مع مديرها، وكنت أتخيل أنني سأواجه رجلًا كبير السن، وإذا بي أمام رجل مكتمل الشباب ناضج العقل فتي القلب. فتلقانا أحسن تلقٍّ، وقعدنا معه نتناقش حول التعاون بين مركز التراث والبحوث اليمني، وبين هذه المكتبة وغيرها من المكتبات المنتشرة في ربوع ألمانيا، ثم دعانا لندخل إلى محل المخطوطات، فذهبنا إليها، وإذا به يفتح لنا أبوابًا حديدية ضخمة ذات أقفال كبيرة، فشعرت أني ألج قلعة من القلاع التاريخية المغلقة الأبواب والنوافذ، فلما فتح الباب الأخير، وإذا بنا وسط قاعة نقية صافية كأننا وسط حديقة تهب عليها الأنسام، فاستعرضنا بعض الكتب، ومنها نسخة شرح الأزهار التي كتبت في عهد مؤلفها وكأنها كتبت بالأمس طرية نضرة كأنما نفض الناسخ يده منها في ذات اليوم، ومثله وبنفس المستوى بعض مخطوطات أخرى. عندئذ شعرت بفرح وحزن معًا؛ فأما الفرح فلصيانة هذه الكتب من العفونة والرطوبة لو بقيت في أوطانها، وأما الحزن فعلى بقاء المكتبات اليمنية في خزائنها تتراكم عليها السنوات في الغرف المقفلة بدون عناية.

 وفي الأخير، ولمزيد من الاجتماع، دعوناه لتناول الغداء معًا، فاعتذر بأنه مسافر غدًا إلى لندن، وأنه بحاجة إلى ترتيب نفسه للسفر، فقلنا إذن نلتقي في لندن، فاعتذر بأنه لن يمر عليها، وأن سيسافر إلى جنوبها، ثم يصعد إلى شمالها مع رفيق له على الدراجات كرياضة اعتاد عليها، فأكبرت فيه هذه الرياضة الجسدية، كما أكبرت فيه الرياضة العقلية التي تضخ فيه طاقة عقليه ينبئ عنها هذا المقال الخصب الممتع.

     يتضمن مقاله هذا ثلاثة مواضيع رئيسية:

  • أهمية معرفة أماكن نسخ المخطوطات وتواريخها
  • السياق الاجتماعي والجغرافي للأنشطة العلمية
  • مواقع القرى العلمية والهجر في بيانات المخطوطات.
  • إلى جانب ملحق لأسماء الأماكن المذكورة في البحث.

وهي طيافة علمية في هجر كثيرة ومتنوعة، أوسعت دائرة البحث عن تلك الهجر المتعددة والمتخصصة، والتي شكلت في الماضي ما يمكن تسميته بالجامعات.

 ومن ثم فمن يرد البحث في التراث اليمني بكل صنوفه وأنواعه، وبدرجة لم تعرفها الدول الإسلامية كلها، فعليه بهذا النوع من الدراسات.

والمؤرخون قد شغلوا الساحة بالحديث عن «المدارس النظامية» وملأوا الدنيا بالحديث عنها، مع أنها محدودة الهدف بالمذهبين الحنفي والشافعي، ومن أجل غرض مذهبي تحارب به المعتزلة والإسماعيلية، وبقيت المذاهب الأخرى، أما الهجر -الجامعات اليمنية فأبواب مشرعة ونوافذ مفتحة على علم الحديث وعلم الكلام ممثلا بالبهشمية وبالبصرية وبقية المذاهب الأخرى والتصوف المعتدل، وكانت المناظرات تحدث بين هذه المدارس التي تسمى مذاهب على قدم وساق بدون تكفير ولا تفسيق. ومن هنا فدراسة الهجر وأماكنها ومحتوياتها أمر ضروري لم يدرس التراث اليمني، حيث سيجد فيها مواطن العلوم على اختلافها فيها.

لن أطيل الكلام، وأكتفي بما لخصه الكاتب الباحث في بدية بحثه الممتع، حيث قال: “يشير هذا المقال إلى بعض الظروف الجغرافية والثقافية في الدراسات المخطوطات وتاريخ التعليم في اليمن الزيدي. إن مكان النسخ مذكور بشكل متقطع في بيانات نُسَخِ المخطوطات العربية، وقد تأكد ذلك بالبحث المنهجي في مجموعة فهارس برلين المعروضة هنا، ويناقش هذا المقال بشكل خاص وجود أسماء الأماكن في هوامش وحرود متن المخطوطات الزيدية اليمنية (بيانات النَّسْخ)، اعتمادًا على فحص 750 مجلدًا موجودًا في ميونيخ المكتبة البافارية الحكومية وفي ڤيينا المكتبة الوطنية النمساوية وفي برلين مكتبة برلين الحكومية.

وقد كشف هذا الفحص أن مخطوطات التراث الزيدي اليمني تم نسخها في العديد من الأماكن، ولقد تم إثبات حضور أماكن أخرى فيما يخص مجال نقل المعرفة. إن الحضور القوي لخمسين قرية وبلدة صغيرة في بيانات النَّسْخ، له أهمية خاصة بالنسبة لليمن. الأمر الذي يجد تفسيرًا له في العادات الموروثة لعلماء الزيدية الذين كانوا يقيمون في قرى المناطق القبلية، أو في مستوطنات خاصة يطلق عليها “هجرة” (وجمعها هِجَر). وتظل النتائج تدعو للدهشة من حيث إن الكتالوجات (الفهارس) القديمة الخاصة بالمخطوطات اليمنية تبدو شاردة ومتعارضة في تقديم معلومات عن أماكن النَّسْخ”.

            وبعد هذا الملخص، أترك الكلام لهذا البحث نفسه، ففيه غذاء لكل طلاب المعرفة زادًا ثريدًا.