في عرض محايد وإيجاز مركّز وشيِّق إستقرأ البروفيسور: «ويلفريد مادولونغ»، في مقاله «الإسماعيلية.. تكوينها وحركتها عبر التاريخ»: بدايات تكوين الطائفة، وخلفياتها الفكرية والتاريخية، وبروز قياداتها، وموجات تمددها وانحسارها، وما تخلل ذلك من انقسامات، وتعدد ولاءات، وتفريخ طوائف، واختلافات فكرية، ونزاعات سياسية وعسكرية داخلية وخارجية؛ سواء قبل عصر «الدولة الفاطمية» أو أثناءها أو بعدها.

يستهل هذا العدد بمقال للبروفيسور الراحل المرحوم ويلفرد ماديلونغ عن «الإسماعيلية: تكوينها وحركتها عبر التاريخ»، ضمن محاور ثلاثة:

  • الخلفية التاريخية لظهور الطائفة الإسماعيلية
  • مراحل التكوين والانقسامات وملامح العقيدة
  • التمدد والانتشار ومحطات الصراع والانحسار

 وقد تناول تلك المواضيع بدقة بالغة التحري كما عُرف عنه، ولن ألخص مقاله حتى لا أُفقد القارئ لذة العمق في أبحاثه. ولن أضيف شيئًا إلى ما جاء به، فقد أحاط بموضوعه خَبرًا وخُبرًا، ولكني أشير إلى بعض الأسباب التي أدت إلى تكفير الإسماعيلية وتفسيقها، وسفك دمائها، وسبي نسائها، لا بمستند مما قالته هي، ولا بما سجلته أقلامها، ولكن بما سجل عنها خصومها بألسنتهم وألفاظهم، ومن ورائهم حكام يرون فيهم رؤية مؤرخيهم. ومن المؤكد الآن أن بعض مؤلفات علمائها الكبار قد ظهرت بعد اختفاء قسري طيلة أعوام وأعوام. وإذا بها تنفي نفيًا قاطعًا ما قيل عنها وما نسب إليها من خصومها، سواء أكان في العهد الفاطمي الإسماعيلي، أو من بعده.

     وإزاء هذا الوضع تساءلت: ما هو السبب في تحميلها ما لم تقل؟

 والجواب يكمن في أمور: الأول: أن الشيعة الإسماعيلية وقفت وجهًا لوجه أمام حكم يضفي على نفسه اسم السنة، وكان قيام الخلافة الفاطمية هز أركان الدولة العباسية، وبخاصة بعدما فتحت مصر والشام، بل سقطت بغداد في أيدي أنصارها، فشعرت العباسية بخطر حقيقي، فشل فيه السيف، فاستدعي القلم، فبث من الدعايات عنها ما لا يقبل. والملفت للنظر أن العباسية أثناء بقاء الفاطمية في إفريقيا، لم تمسسهم بسوء، ولم ترشقهم بأية تهمة، ولكن لما قربت الديار الفاطمية من بغداد، لم تجد العباسية إلا امتشاق القلم والتكفير والتفسيق والتشكيك في النسب، وللمؤرخ أن يسأل لماذا هب التكفير والتفسيق ومعركة النسب في وقت متأخر، ولم يكن منذ البداية؟

     الأمر الثاني: أن الإسماعيلية انشقت على نفسها انشقاقًا هائلًا، وأقام الحسن بن الصباح في المشرق الإسلامي دولته النزارية، على عقائد مناوئة تمامًا للعقيدة الإسماعيلية البهرة، وعلى الرغم مما بينهما من فوارق فاصلة، إلا أن خصومهما معًا اعتبروهما فرقة واحدة، وحملوا الإسماعيلية الطيبية -البهرة- كل جموح أفكار النزارية، وكان أئمة اليمن المناوئون للإسماعيلية يستشهدون على ضلال الإسماعيلية بفتاوى أئمة طبرستان الذين وجدوا النزارية تحاربهم، بينما كان الخلاف بين البهرة أو الإسماعيلية الأولى يدور بالقلم وحده كما حدث بين الإمام الهاروني والداعي حميد.

الأمر الثالث: ظهور القرامطة في الأحساء، وتنامي قوتهم، ولهم مبادئ تخالف بعض المبادئ الإسلامية، ودخلت في صراع مع الفاطمية والعباسية التي أدركت خطورة الدعوة القرمطية لقربها القريب من بغداد، ومقاومتهم الشرسة مدة من الزمن، فشنوا عليهم حملة دعائية، رموهم بالكفر والفسق، ولما قرب الفاطميون من بغداد استغل العباسيون تسمية الإسماعيلية بالباطنية، فدمجوهما معًا في إطار واحد.

والأمر الرابع: أن الدرزي باعتقاده بألوهية الخليفة الحاكم بأمر الله قد مدّ خصوم الإسماعيلية بحجة جديدة لا تدين الدرزي وجماعته فحسب، ولكنها اتخذت عند خصوم الإسماعيلية إدانة أخرى، مع أن المفروض ألا يدان الحاكم بأمر الله، فهو لم يعلن نفسه إلهًا، وقد كان كثير من المذاهب تؤله بعض القيادات أو تؤمن بمهديتهم وغيابهم وانتظار عودتهم بدون أن يدان من غيبوه، وأدين من قال به، وكذلك كان يجب الموقف من الدرزي أن يتوقف اللوم عليه، ولا ينسحب على الحاكم ولا على مذهبه، علمًا مؤكدًا أن الموحدين الدروز يلعنون الدرزي لما بثه من ألوهية الحاكم، وأصبح ما نادى به الدرزي محسوبًا على الموحدين، وهو ليس منهم في شيء.

والأمر الخامس: أن القائد اليمني “علي بن الفضل” انشق عن منصور اليمن الداعية الإسماعيلي الكبير، وأعلن استقلاله عن الإسماعيلية، وحاربها، ومع ذلك لم يرَ خصومها في ذلك الانشقاق ابتعادًا عن الإسماعيلية، إلا أن الفضلية هي جزء لا يتجزأ من الإسماعيلية، وهي ليست منها، فسلكتهما معًا في خيط واحد، مع أن الإسماعيلية تصليه نارًا حامية على انقلابه، وتكفره كما تكفره الشافعية والهادوية، ومع كل ذلك فكل خصومهما لم يفرقوا بينهما، وكل التهم التي ألصقوها بعلي بن الفضل، ألصقوها بالإسماعيلية الأم، والفضلية والإسماعيلية مما نسبوا إليهما براء.

والأمر السادس: أنه بسبب القهر والقتل الذي نزل على الإسماعيلية، فقد أخفوا نفوسهم وكتبهم تمامًا إلا في ما بينهم، وبقيت كتب خصومهم تلعب في السرح وحدها، ومضت على ذلك أجيال، حتى جاء هذا العصر، ونشر المستشرق الكبير الروسي إيفانوف بعض كتب البهرة، وإذا بها تسقط كل دعوى ضدهم.

من هنا، يجب عدم التعميم، ولتحاسب كل فئة مستقلة عن الأخرى، وليوضع كل مذهب تحت المجهر، فالخطوط العريضة كالسنة والشيعة ليست سوى إطار وهمي لمذاهب مختلفة متصارعة، ومن ثم فلتقم الدراسات على كتب كل مذهب نفسه، لا بما كتب خصومها عنها، فليس أخطر على التاريخ من اعتماد قول الخصم حجة على الآخر.