في ظلال جو حزين تدخل «المسار» عددها الثاني والسبعين، وقد غاب عنها أحد كتابها الرئيسيين البروفيسور ويلفرد ماديلونغ، الذي انتقل إلى ربه مرضيًا عنه من كل من قرأ له، سواء الذين قرأوه بالعربية أم الألمانية أم الفارسية، وسواء أقرأه من يسمى إماميًا أم إسماعيليًا أم زيديًا، على اختلاف المذاهب والاتجاهات، وتلك موهبة لا يملكها إلا مؤرخ منصف يستل الحقائق من بين التراكمات المختلفة والادعاءات المتناقضة، بدون أن يمدح أو يقدح، أو يميل مع هوى يسوق إلى مقصد. وبذلك استحق لقب المنصف.
وبحسب ما أعلم، فإنني لم أقرأ لأي مؤرخ غيره تجاوز المختلف عليه مع صعوبة ذلك، بدون أن يترك أثرًا عند هذا المذهب أو ذلك، وبالرغم من تناوله كل المذاهب التي يسوؤها رأي مخالف، فإنه يضع الحقائق أمامهم واضحة جلية لا يستطيعون منها نفورًا.
وإنها بالفعل لنادرة أن يتناول كاتب ما قضايا متصارعة ومعتقدات متنافرة، ويقول فيها رأيًا يتقبله المخالف والمؤلف. وفي اعتقادي أن نجاحه المذهل في هذه الطريقة التي سار عليها، يعود إلى أنه لم “يشخصن” التاريخ، فيكتب عن أشخاص عليهم طفاوة من تقديس أو ظل من تجريح، وإنما ينظر إلى وقائع وآراء تعامل معها بعمق، وبخلاصة تعامل طبيب لمريض ركز على معالجة العلة، ونبذ ما سواها، فحمد له المريض عمله، وشكره من اطلع على عمله.
وكان المفروض أن يكون هذا الحديث في العدد السابق، ولكن حالت ظروف دون ذلك حينها على مرارة ممضة، على أنه إذا فاتني الحديث عنه في أيام رحيله، فلن يفوتني الحديث عنه في ذكرى يوم مولده، بالإضافة إلى أن المحامد ليس لها زمن محدود، فهي خالدة إلى أن يقبض الله الأرض ومن عليها، ثم يكون في الآخرين من الذين سعوا صلاحًا في الأرض، وكانوا من الصالحين.
ولد وليفرد ماديلونغ 26 ديسمبر1930م، في شتوتغارت في ألمانيا، وفي سنة 1947، وكان عمره حوالي 17 عامًا، وكان والده أحد العلماء الألمان في مجال الصناعات النووية، وخوفًا من أن يأخذه الروس ليستفيدوا من علمه، نقله الأمريكان مع عائلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومنحوهم الجنسية الأمريكية. ودرس في جامعة جورج تاون، ثم غادرها إلى القاهرة، حيث حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ والأدب الإسلامي من جامعة القاهرة، في عام 1953 للميلاد، وكان أحد أساتذته الدكتور شوقي ضيف، ثم عاد إلى جامعة هامبورغ الألمانية، وحاز على درجة الدكتوراه سنة 1957، ثم في سنة 1958 عمل في سفارة ألمانيا ببغداد لمدة سنتين، وبعد ذلك درّس في جامعة شيكاغو، حيث شغل منصب أستاذ التاريخ الإسلامي، وبعدها شغل منصب أستاذ اللغة العربية بجامعة أكسفورد قسم الدراسات الإسلامية، من سنة 1978 إلى 1998. لمدة 20 عامًا، ودرّس كأستاذ زائر في العديد من الجامعات الأمريكية والأوروبية، بما في ذلك جامعة كولومبيا. وكانت الجامعات تتهافت عليه، مثل جامعة أكسفورد وجامعة تكساس في أوستن وجامعة هامبورغ وجامعة شيكاغو.
حفلت حياته العلمية بشكل مكثف في موضوع الدراسات الإسلامية المبكرة، فكتب وحاضر عن الشيعة الإمامية، والإسماعيلية، الإباضية، والزيدية.
في سنة1965 أصدر كتابه الشهير الإمام القاسم بن إبراهيم بالألمانية، ومايزال مرجعًا أساسًا حتى اليوم. وفي سنة 1985م أصدر كتابه المدارس والمذاهب الإسلامية في الإسلام الوسيط، وفي نفس العام حقق كتاب النجاة للإمام الناصر، كما حقق في نفس العام كتاب الناصر لدين الله وكتاب المدارس الإسلامية المبكرة، وفي عام 1988م أصدر كتابه الاتجاهات الإسلامية المبكرة في إيران، وفي عام 1992م خلفاء الرسول في الخلافة الراشدة. ومن أهم التحقيقات التي قام بها أخبار اللائمة الزيدية في طبرستان، وكتاب الفائق في أصول الدين لابن الملاحمي، وأنساب الأشراف، وغيرها، وله من المقالات كثير، كتبها في «إينسكلوبيدا» الإسلامية، وكمثال على ما كان يتناوله من عويص الأبحاث، مقاله عن “المزج بين علم الكلام والفلسفة والتصوف في منهج ابن أبي جمهور الإحسائي”. ولكن لا بد من أن أذكر أن «المسار» قد نشرت له عدة أبحاث، وستنشر له بقية ما كتبه من مقالات عن قادة وكتب سوف يجمع مركز التراث والبحوث اليمني ذلك كله، ويطبع في كتاب واحد ليستفيد الناس من أبحاثه النقية.
ولست هنا بسبيل ذكر كل ما ألف وحقق وحاضر، فذلك مجال واسع يفيض عن حجم «المسار»، على أن أكتب عنه في مستقبل الأيام ما يرضي القراء بما لهذا الباحث المرحوم من أيادٍ على التاريخ اليمني.
وعندما بلغني مرضه سافرت من واشنطن إلى أكسفورد لزيارته في مصح يقع في ضواحيها، وكان لحسن حظي أن زرته مرتين، وقد أصبح ضعيف البنية لا يستطيع المشي إلا على كرسي متحرك، لكنه لم يفقد تلك الابتسامة الحنونة، ولا ذلك الخلق العظيم. واستأذنته في ترجمة كل ما عثرت عليه من مقالاته الكثرة، وطبعها، فسمح لي بذلك، وبعد زيارتين قمت بهما مع تلميذته الدكتورة بروك، وأخرى مع مترجم بعض مقالاته د. علي القباني، ودعته على أمل اللقاء به بعد أن أعود من زيارة بعض المكتبات في أوروبا، وما كنت أعلم أنه كان وداعًا لا لقاء بعده، فلم تكد تمضي أيام وأنا في إحدى العواصم الأوروبية، إذ جاءني الخبر بانتقاله إلى ربه يوم 9 مايو 2023م، فحزنت على فقد إنسان وهب نفسه للبحث عن الحقائق كما لم يهبها غيره، وقد لا يعوض، في قادم الأيام. ومن ثم جد عليّ دين يلزمني الوفاء به، وهو أن أستمر في نشر أبحاثه في مجلة «المسار»، ليطلع اليمنيون على جهوده في سبيل تراثهم، وليس ذلك فحسب؛ بل سوف أستمر في نشر كل ما يكتب عنه، وأعتقد أنني لن أفي بذلك الدين، وأنشد مع المعري:
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى * لوداد إخوان الصفاء مضيعا
خاللت توديع الأصادق للنوى * فمتى أودع خلي التوديعا
حقًا.. لقد كان لي خليلًا وصديقًا. فيرحمه الله ربي وربه ورب العالمين.