والحديث عن عالَم الروح يقضي في المقابل الحديث عن عالَم العقل، حيث إنهما يُكمِّلان بعضهما بعضاً، ويقاومان شرَّ النفس وخبث الطباع معاً، وإذا كان مولانا “جلال الدين” يُمثِّل “الروحانية الإيجابية”، فإنَّ إمامنا “صالح بن مهدي المقبلي” يُمثِّل العقلية الراشدة، فكلاهما بلغ مرحلة عالية في فنِّه، وكلاهما نوَّرا الطريق لمن اتبعهما.
بلغ الإمام “المقبلي” مرحلة الاجتهاد المطلق، وتحرَّر من الارتباط من كلِّ “مذهبٍ فقهيٍّ” ومن كلِّ “فرقةٍ كلاميةٍ”، بحيث لم أجد من علماء الزيدية مَن يماثله إلَّا قليلا قليلا، ذلك أنَّ بعض العلماء بلغوا مرحلة الاجتهاد المطلق، ودعوا إلى نبذ التقليد، لكنهم مع ذلك أبقوا حبالا خفيَّةً مع مذهبٍ ما، أما “المقبلي” فقد غاص في “علم الأصولين”: “علم الفقه” و”علم الكلام”، وخرج منهما برؤيةٍ ليس للمذهبية ولا الفِرَق أثرٌ عليها، وبهذه القدرة نقد أراء لأهل المذاهب وبعض أفكار علماء الكلام، وأبان ما “فيهما من عَوَار، وأشاد بما وجد من وقار”، فكان كاسمه صالحاً مَهدِّياً، حاول إصلاح الخلل في المذاهب، وحاول هداية الأمراء والأئمة، ودافع عن آرائه دفاع مؤمنٍ صابرٍ كما سنقرأه فيما كتب الأستاذ المُحقِّق الموضوعي “عبد الله بن يحيى السرحي” عن «العلامة المقبلي ودوره التنويري في شمال القوقاز».
لم يحصر العلامة “السرحي” مقاله على تأثير الإمام “المقبلي” في “اليمن” و”مكة” و”شمال القوقاس”، بل شمل بإنصافٍ تأثيره في “اليمن” و”مكة”، وأبان لنا القسمات المضيئة -وكلُّ قسماته مضيئة- في تاريخ هذا العلامة المفكر صاحب العقل المبدع، والتفكير الخلَّاق، والرفيع الأخلاق..
ومن الملاحظ أنَّ “المقبلي” لم يُعطَ حقَّه من الكتابة كما يليق بعلمه، كما أعطى المترجمون والباحثون- على تفاوتٍ- كلًّا من العلماء “ابن الوزير” و”الجلال” و”ابن الأمير”، وخاصة “الشوكاني”، وذلك يعود إلى أسباب أُجملُها في ستةِ أسبابٍ:
الأول: أنَّ معظم المترجمين والباحثين ألصق بعلم “أصول الفقه” وهم به معجبون، وعلى مقياسه ينهجون، وبه يتحكَّمون ويحكمُون، ومن المعروف أنَّ المذاهب تقف -بصفةٍ عامةٍ- خلف معظمهم.
الثاني: جرأته على قول الحق، سواء في حواره مع الأئمة والعلماء، أم في تصديه لفقه المذاهب المتأخرة وما وصلت إليه من انحدار.
الثالث: مجافاته للحكام، ومصارحتهم بآرائه الحرة، وعدم مسايرتهم والتملُّق لهم، وعدم الخوف منهم، حتى حوكم في “مكة” من قبل علماء أوفدهم السلطان العثماني من “الأستانة” للنظر فيما اتهمه العلماء به من تهم، لكن ظهرت براءته، ونجا من أحابيل التضليل والتغرير.
الرابع: أنه لم يُحَطْ برعاية دولة تشهره، وتُسهِّل ذيوع صيته، وهذه قضية رآها الإمام “الشوكاني” من أسباب الشهرة، ففي ترجمته للعلامة الكبير “أحمد بن سعد الدين” (محرم 1079ه/1668م)، عدَّها من الأسباب القوية، فقال: «له شهرة كبيرة بالديار اليمنية إلى الآن، ولعل ذلك بسبب متاخمته للأئمة وارتفاع حظه في تلك الدولة ومشيه في جميع مباشرته على طريقة العلماء». ويبدو أنَّ هذا التحليل يَصدُق أيضاً على شهرة الإمام “الشوكاني” الذي توظَّف مع ثلاثة أئمة متغلِّبين ظلمة كانوا له حماة، وكان لهم داعية، ونستروح من قول الإمام الشوكاني ومشيه في جميع مباشرته على طريقة العلماء، أنه يُبرِّر موقفه لتولِّيهِ مع أئمة ظلمة. مع أنَّ أئمته لم يكونوا مثل أئمة “سعد الدين” عدلا وأخلاقاً وسلوكاً.
الخامس: ما حظي به من علم ارتفع به فوق ما اعتقده الناس وألفوه، من قبله وبعده، بسبب غلبة “الفقه” عليهم، إلَّا من نجا بقلب سليم، ومن الواضح أنَّ غَلَبَة “الفقه” كانت هي السائدة فيما كتبه “ابن الوزير” و”الجلال” و”ابنالأمير” و”الشوكاني”، بينما كانت غَلَبَة “الفكر” على الإمام “المقبلي”، والناس أعداء ما جهلوا.
السادس: لعلَّ أسلوب “المقبلي” العلمي المُركَّز قد أبعد الناس – إلَّا العلماء الكبار- عن قراءته، فليس فيه لين أسلوب علماء “الفقه” وسهولته، بل كان أسلوبه علمياً ليس له الوصف المُوَشَّى، والمقارنة بين أسلوبه وأسلوبهم كالمقارنة بين أسلوب “العقاد” البليغ المُركَّز، وأسلوب طه حسين الناعم الموسَّع. ثم إنَّ معظم أولئك العلماء لم يُكنُّوا له الحب والتقدير، وكان ثلَّة من العلماء فقط يعرفون مكانة ذلك الإمام الشامخة.
لهذا وذاك تعرَّض “المقبلي” من قبل “جارودية اليمن” إلى هجومٍ بشعٍ غوغائيٍّ، اتهموه بأقذر الكلمات بالنَصْب ظلماً وبهتاناً، فلم يردّ عليهم، شيمة الفلاسفة والمفكرين. وإنصافاً فإنَّ الإمام المتوكل “إسماعيل” -شيخ “المقبلي” – لم يُناصبه عداء، بل كان له مكانٌ مرموق في مجالسه، إلَّا أنِّ اختلافه معه في بعض الآراء العلمية قد يكون أحد أسباب هجرته إلى “مكة”، فكان كمَن استجار من الرمضاء بالنار، إذ لم يستقبله علماؤها بترحابٍ، بل شنُّوا عليه تهمة “الزندقة”، ورفعوا أمره إلى “السلطان العثماني”، فأرسل ثلَّة من العلماء لمحاكمته، فحوكم فبرؤوه، وقال كلمته المشهورة مُقارِناً بين الحالين: ناصبي في اليمن وزنديق في مكة. ومع كلِّ ما لقي في “مكة” من عنَتٍ، فقد صبر وصابر، وأنصف وثابر، واستمر على طريقته الإصلاحية، فجذب إلى مدرسته طلبة مسلمين وفدوا للدراسة في “مكة”،ونهلوا من علمه الواسع، وعادوا إلى أوطانهم حاملين تعليمه وعلومه كما ستقرأه في هذا البحث المفيد والممتع الذي نضَّده العلامة المحقق “عبد الله السرحي” -وهو سليل أسرة علمية- وأحسن كلَّ الإحسان إلى التاريخ بكتابة مقاله هذا، الذي ألمَّ بجوانب حياته إلماماً جيِّداً جداً، وأعطى فكرة جليَّة عن هذا الإمام الأعظم، فله الشكر والثناء على ما كتبه عن علامة اليمن الأكبر ومفكره، ورحم الله “الصالح المهدي” على ما أصلح وهدى.