بدأ العدد بمقال للدكتور “مراد بركات” عن “جلال الدين الرومي.. سيرة حياة وفلسفة تصوُّف”، ليقف أمامَ واحدٍ من أشهر مهذبي النفس، من أجل عالَم السلام وعالَم المحبة.

وفي هذا المقال نقف باحترام كلِّيٍّ أمامَ واحدٍ من أشهر مهذبي النفس السيئة والمسيئة، لنراها وهي تتطهر في أشعة “جلال الدين” النقية، فتخرجها من الفساد إلى الصلاح، ومن الجشع إلى الاقتناع، ومن البغض إلى المحبة، بغية إصلاح المجتمع، وتطهيره من الأوبئة، وتنظيفه من الأنانية. لقد خطّ “جلال الدين” بسلوكه وكُتُبِه للإنسانية منهج الخلاص، ليبعدها عن البغضاء والحقد، ولتلين قسوتها، ولتصبح ناعمة الملمس، طيبة الأثر. ذلك أنَّ قوة الروح أقوى من المادة، وأهدى سبيلا، وأبقى أثراً، ومن هنا أدرك مولانا “جلال الدين” الطريق الحق إلى الوصول بالإنسانية الى مصافِّ النقاء، والارتفاع بها من جشع المادة -بكل أشكالها- إلى مصافِّ الإنسان، ليتجنَّب سفك الدماء.

كم هو عظيمٌ “جلال الدين” الذي تحدَّث عنه أستاذنا “بركات” في أسلوبٍ يكاد يضيء روحانيةً وصفاءً: «اعتصر مولانا معارف الإنسانية في مسيرتها المديدة نحو كشف المجهول، وجهودها المتراكمة لتربية النفس الأمارة بالسوء، فغدت رائعته الموسومة بحقٍّ “المثنوي المعنوي” دائرة المعارف الإسلامية والإنسانية. إليها انتهت جهود المسلمين قبله في التفكير والتعبير، بدءاً بتفسير القرآن، مروراً بتفهُّم الحديث النبوي، عبوراً إلى أحكام أصول الدين والفقه ومسائل علم الكلام والحكمة، أخذاً بما آلت إليه علوم الأوائل أيضاً في ميادين الرياضيات والهندسة والفلك والطب والتاريخ والأدب وحياة المجتمعات وسواها مما له صلة بجسم الإنسان وعقله ونفسه وروحه وُبعده الغيبي».

تحدث المحقق عبد الله السريحي عن دور الإمام صالح بن مهدي المقبلي التنويري في شمال القوقاز، وكيف جذب إلى مدرسته طلبة مسلمين وفدوا للدراسة في “مكة”، ونهلوا من علمه، وعادوا إلى أوطانهم حاملين تعاليمه المبنية على التحرر من قيود التمذهب المكبل للعقول.

يمثل الإمام: “صالح بن مهدي المقبلي” يُمثِّل العقلية الراشدة، فكلاهما بلغ مرحلة عالية في فنِّه، وكلاهما نوَّرا الطريق لمن اتبعهما. فقد  مرحلة الاجتهاد المطلق، وتحرَّر من الارتباط من كلِّ “مذهبٍ فقهيٍّ” ومن كلِّ “فرقةٍ كلاميةٍ”،  بحيث لم أجد من علماء الزيدية مَن يماثله إلَّا قليلا قليلا، ذلك أنَّ بعض العلماء بلغوا مرحلة الاجتهاد المطلق، ودعوا إلى نبذ التقليد، لكنهم مع ذلك أبقوا حبالا خفيَّةً مع مذهبٍ ما، أما “المقبلي” فقد غاص في “علم الأصولين”: “علم الفقه” و”علم الكلام”، وخرج منهما برؤيةٍ ليس للمذهبية ولا الفِرَق أثرٌ عليها، وبهذه القدرة نقد أراء لأهل المذاهب وبعض أفكار علماء الكلام، وأبان ما “فيهما من عَوَار، وأشاد بما وجد من وقار”، فكان كاسمه صالحاً مَهدِّياً، حاول إصلاح الخلل في المذاهب، وحاول هداية الأمراء والأئمة، ودافع عن آرائه دفاع مؤمنٍ صابرٍ كما سنقرأه فيما كتب الأستاذ المُحقِّق الموضوعي “عبد الله بن يحيى السرحي” عن «العلامة المقبلي ودوره التنويري في شمال القوقاز».

لم يحصر العلامة “السرحي” مقاله على تأثير الإمام “المقبلي” في “اليمن” و”مكة” و”شمال القوقاس”، بل شمل بإنصافٍ تأثيره في “اليمن” و”مكة”، وأبان لنا القسمات المضيئة -وكلُّ قسماته مضيئة- في تاريخ هذا العلامة المفكر صاحب العقل المبدع، والتفكير الخلَّاق، والرفيع الأخلاق.. 

ومن الملاحظ أنَّ “المقبلي” لم يُعطَ حقَّه من الكتابة كما يليق بعلمه، كما أعطى المترجمون والباحثون- على تفاوتٍ- كلًّا من العلماء “ابن الوزير” و”الجلال” و”ابن الأمير”، وخاصة “الشوكاني”، وذلك يعود إلى أسباب أُجملُها في ستةِ أسبابٍ، يمكن قراءتها في افتتاحية العدد.

كتب الدكتور حميد العواضي مقالا بعنوان” نحو فهرس عربي لأدبيات علم الترجمة”، قدَّم فيه عرضاً لعلم الترجمة ومجالاته، وعن العربية في نطاق اللغات التي توفر لمستعمليها شكلا من الاستقلال المعرفي أو الكفاية اللغوية المناسبة.

نفسح المجال لما تخطُّه يد الأستاذ الدكتور “حميد العواضي” من كتابات قيِّمة عن اللغة العربية، بل عن اللغة نفسها، لأنَّ من ليس له لغةٌ ليس له تاريخٌ وليس له حضارةٌ، فهو موجودٌ كمفقود لم يترك وراءه أثراً. وقد تكون اللغة نقشاً على حجر، أو تصويراً على مدر، أسهمت بهما للمتأخر في معرفة حياة قوم متقدمين اندثروا، وحفظت معالم من حياتهم في تلك النقوش والآثار، وكان كلّما عُثِر عليها أكثر اتسعت وتوسَّعت مساحة التاريخ، ومن المؤكد أنَّ تلك النقوش وتلك الصور كانت هي المقدمة الأولى لظهور أعظم اختراعٍ، وهو الحرف. ولولا الحرف لما ظهرت أيَّة حضارة.

لهذا فإنَّ “المسار” تنشر ما خطه يراع الأستاذ الدكتور “حميد المسعى والمساعي” في هذا السبيل باعتباره دليلا لتلمُّس حضارةٍ سابقة، وتفهُّماً لحضارةٍ معاصرة، وإنماءً لحضارةٍ قادمة، وإحياءً لشعورٍ خامد. واللغة العربية بكلِّ تأكيدٍ غنيَّة خصبة قادرة بتفوَّق على استيعاب كلَّ ما هو جديد.

وفي هذا العدد كتب مقاله “نحو فهرس عربي لأدبيات علم الترجمة”، وقد أحسن وأصاب في هذا المقال، لأنه يتحدث عن ضرورة وجود هذا الفهرس ليُسهِّل الاطلاع على عوالم أخرى من خلال اللغة العربية نفسها. الحق أنَّ جهود الأستاذ الدكتور “حميد المسعى والمساعي”، تستدعي كلَّ التقدير لما يبذله من جهد وموضوعية.

وفي عالم الشعر والأدب واصلت الأديبة “علا علي الحوثي” مقالها السابق عن «تقنية التناص في الخطاب الشعري عند إسماعيل المقري»، الذي تناولت فيه الحديث عن التناص تعريفه وأنواعه، وتطرقت إلى ذكر كثير من الأمثلة عليها.

استكمالا لما بداته الكاتبة في العدد السابق تناولت في هذا المقا الحديث عن التناص ومن خلال طوافها على أراء النقاد الغربيين ومن خلال تقسيمها التناص إلى اقتباسي، وإحالي، وإيحائي خلصت إلى القول «إنَّ التناص تقنية فعَّالة في فهم النص وتحليله من خلال تفاعل النصوص فيما بينها» و«أنَّ الخطاب الشعري لإسماعيل المقري يزخر بالتقاطع النصي مع نصوص أُخَرْ، نجده محكوماً بطابع كلاسيكي تقليدي كما هو الشأن في تلك الفترة». وأنَّ «اللغة الدينية تتمتع بتأثير وحضور في الوعي الجمعي»، و«أنَّ النص القرآني شكَّل مكوناً جوهرياً من مكونات الخطاب الشـعري لدى المقري، حيث استثمر مفردات “القرآن الكريم” ودلالتها ووظفها في النص الشعري محملة بدلالات تنسجم مع النص الشعري وفق رؤياه الذاتية».

وبعد أن تُلم بهذا النص في حالة تطبيقه تتحول إلى التناص الإحالي، وتعرفه بأنه «الفهم العميق وإمعان النظر فيما تختزله مضامين التناص المكثفة، وملاحظة العلاقة بين النص الحاضر والنص الغائب من خلال إحالة التركيب أو المفردة للنص الغائب» وتمضي فتطبِّق عليه ما طبقته مع سالفه، ثم تتناول التناص الإيحائي، الذي يعتمد على الإيماء دون التصريح، والمعنى دون اللفظ. وكما عملت مع الأولين طبقت الثالث على نصوص من شعر المقري.

عن «صورة المرأة والرجل في الرواية النسائية اليمنية»، كتبت الأديبة «أميرة زيدان» مقالاً استعرضت فيه صورة المرأة والرجل في الرواية النسائية اليمنية، محيطة بموضوعها من جهات عدة، فاستطاعت أن تقدم فيما كتبت صورة واضحة جانب من المجتمع اليمني بعاداته وتقاليده وتديُّنه. وهذا الجهد يعكس مدى تقدُّم المرأة اليمنية في الحقول الأدبية والفنية بعد ركود طويل.

نحو مقال الآنسة الأديبة “أميرة زيدان” «صورة المرأة والرجل في الرواية النسائية اليمنية»، وهو مقالٌ حافلٌ استعرضت فيه صورة المرأة من جهات عدة، فاستكملت الصورةُ ألوانها وظلالها -من خلال مراجع مختلفة- بريشة مصورة واقعية ومنصفة، وفي الوقت نفسه تملك الشجاعة العقلية والفنية في حديثها وأبعاد حديثها. كما أنَّ المقال لم يقتصر على صورة المرأة في الرواية النسائية، بل عكس بوضوح صورة جانب من المجتمع اليمني بعاداته وتقاليده وتديُّنه.

تلك كانت بعض انطباعاتي عن المقال عندما استكملتُ قراءته، وأعجبتُ به، وأعترف أنني لستُ محيطاً بكثيرٍ من تلك الروايات بسبب بعدي عن الوطن العزيز، ومن ثمَّ فلا أستطيع أن أدلي برأيٍ في هذه القصة أو تلك، أو حكمٍ في هذه الرواية أو تلك، ولكني أقول إني قرأت المقال فاستفدت منه، وشوَّقني إلى قراءة مراجعه حتى أتمكن من استيعاب الغايات والأهداف، وأكوِّن لنفسي رأياً أستطيع أن أبثُّه بين الناس. غير أني مُلزَمٌ هنا بالإشادة باليقظة النسائية الرائعة في كلِّ المجالات، إذ لم يعد ثمَّة حقلٍ أدبي، أو اجتماعي، أو سياسي، أو اقتصادي، أو زراعي، أو طبِّي، إلَّا ولهن حضورٌ قوىٌّ وتقدُّمٌ ملموس. والحق أنَّ المتابع لليقظة النسائية ينبهر بسرعة تقدُّم النساء المعرفي، ومساجلتها الرجل -بعد ركود طويل واجهها- في كل تلك الحقول، وتفوُّقها في بعضها، بحيث يمكن القول الآن إنه نَبَتَ “لليمن” الجناح الموازي مما يسمح لها أن تطير إلى الآفاق العالية، محلِّقة بجناحين متساويين.

وخُتم العدد بمقال للدكتور “عبد النور أيت بعزيز” بعنوان: «قراءة في ألقاب عائلات بني ورتلان.. دلالات وأبعاد». فأطل به على حقلٍ جديدٍ لفهم تقاليد وعادات المجتمعات والمكونات في الوطن الواحد، من أجل تفكيك ما يجلبه الجهل بها من احتقانات مُتفجِّرة

لا مبالغة إذا قلتُ إنَّ الدكتور أيت بعزيز بمقاله هذا يفتتح أفقاً جديداً في حقل الأبحاث الجديدة، فهو به يُطلُّ على حقلٍ جديدٍ لم يطرقه كُتَّاب العرب الشرقيين فيما أعلم إلَّا في النادر، ولم يعطوه من الأهمية ما أعطاه الدكتور، وإنني أرجو أن يُتابعه الكُتَّاب العرب بأبحاثهم ومقالاتهم، لا لأهميته كتاريخ يجب أن يُنشر فحسب، وإنما من أجل أن تُفهم تقاليد وعادات المجتمعات والمكونات في الوطن الواحد، من أجل تفكيك ما يجلبه الجهل بها من احتقانات مُتفجِّرة يولِّدها الجهل. والحق أنَّ مثل هذه الأبحاث تفيد أيضاً في معرفة سلوك المناطق المتباعدة والتعارف فيما بينها على امتداد منطقة اللغة العربية، وإذابة أيَّ خلافٍ ينجم بسبب عدم معرفة تلك التقاليد.

وقد عانى الدكتور المشاق والصعاب في بحثه عن موطنه هذا، لأنه اقتحم حقلا غامضاً لا ينابيع له إلَّا وَشْلَ جداولٍ شحيحة لا تُروي ظمأً، ولنا أنَّ نتفهم قوله وهو يقتحم هذا الحقل المجهول: «المحاولة تُعتبر الأولى من نوعها حيث لا توجد أيُّ دراسة عن المنطقة لحدِّ الآن حسب علمنا». وذلك بسبب قلَّة المصادر، مع أنَّ الكاتب لم يتحدث إلَّا عن «ألقاب بلدية بني ورتلان فقط، والتي يبلغ مجموعها 540 لقبا».