عرض ممتع قدمه الدكتور أيت بعزيز عبد النور لدور «الشيخ محمد البشير الإبراهيمي» في مقاومة استهداف الاستعمار الفرنسي لثقافة الشعب الجزائري، خصوصا حينما سعى لتغيير منظومة القضاء الإسلامي، فقدم توضيحا للمشكلات، واقترح إصلاحات بعيدًا عن المسخ والتبديل.

آية بعزيز عبد النور

وآتي إلى المقال الثاني من هذا العدد لأجد أمامي شخصية كبرى تتلألأ جلالًا وإكبارًا على طول الأفق الإسلامي الرحب، فتزيده تألقًا ساطعًا. إنه “البشير الإبراهيمي”، ذلك الإنسان العظيم الذي صدّ بقلمه دبابات المحتل الفرنسي، وبقلمه وجهده وجهاده، دافع عن “الثقافة الإسلامية”، قدمه لنا د. “أيت بعزيز”، فجلّى الصورة وأحسن الوصف، وكشف جهاد وجهود البشير الإبراهيمي بشكل جعلني -كما يجعل قراء “المسار”- أخرج بانطباع عنه أنه لولا جهوده وجهاده لطغت الثقافة الفرنسية على الثقافة الإسلامية بدون شك ولا ريب. ولا أبعد عن الصواب إذا قلت إن الثورة الجزائرية تدين بنجاحها لذلك القلم المقاوم الذي تمكن بقلمه من خلق منطقة مانعة حالت دون تذويب الأمة في ثقافة مغايرة، ثم توسعت أسوارها، وارتفعت قلاعها، واستطالت مساحتها. لقد تمكن هو ورفاقه من الدفاع عن الثقافة الإسلامية فنجح.. ذلك أن المحتل الفرنسي بكبريائه وغطرسته وقوته المتفوقة، أراد أن يبدل خلقًا بخلق، ويغير ثقافة بثقافة، ويجعل من الجزائر منطقة فرنسية تابعة له، متحكمًا فيها، ناشرًا رعبه وطغيانه الدموي بكل ما أوتي من قوة وبطش وعنف، ظانًا أنه بدمويته سيذيب أمة كاملة -لها ثقافتها- في جسمه الغريب.

كان الخطر الأكبر على الجزائر هو هذه الثقافة الواردة والمستعلية والمفروضة، ولو قدر لها النجاح لذابت “الجزائر” في تلك الثقافة، وأصبحت جزءًا من دولة غريبة الوجه واليد واللسان. وهنا برز “البشير” مع رفاق له يدافع عن الثقافة الإسلامية خير دفاع، وأمكن له أن يحمي قطاعًا واسعًا من الأمة حال دون السقوط في فخ المحتل، وكان النواة الخلاّقة التي أحيت في الأمة روحها المستبسل، فقاومت حتى نجحت.

ونفس الخطر الأكبر للاحتلال الفرنسي أيضًا ليس المقاومة المسلحة، ففي هذه الحالة ينتصر الأقوى، ولكن في هذه المقاومة الثقافية التي تصدت لقوات الاحتلال، وهيأت التربة الثائرة للثورة المجيدة، وانتصرت. لقد تغلبت الكلمة الهادفة -بعد عراك شديد لم يعرف له المحتلون مثيلًا- على السيف المصلت.

وليس ذلك فحسب، بل إن الإحياء الذي قام به البشير النذير مع رفاق آمنوا بربهم فزادهم الله هدى، من أمثال الزعيم “الفضيل الورتلاني”، أصبح نموذجًا يحتذى لكل مقاوم في كل منطقة من مناطق الظلم والعسف والقسر.

لقد أدرك البشير ببعد نظره وقوة إيمانه نقطة ضعف المحتل، فأنزل ضرباته الموفقة حتى خرَ صريعًا لليدين وللفم كما قال الشاعر التغلبي:

تناوله بالرمح ثم انثنى له   فخر صريعًا لليدين وللفم

وكان فم البشير وما يخرج منه من كلمات تدك مواقع المحتل، قد أوجدت رمح الثورة الجزائرية، فكان من نتيجة ذلك أن ألقى بالمحتل إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.

ويسلمني هذا الواقع الساطع إلى القول إن نضال الكلمة المؤمنة لا يغلبها غلاب، وأنها ترد على أبي تمام الذي قال:

السيف أصدق أنباء من الكتبِ           في حده الحد بين الجد واللعبِ

بحقيقة واقعة، فانتصار السيف انتصار مؤقت، ولكن انتصار الكلمة انتصار دائم، وإذا ما ضاع لسان قوم فقد ضاعوا. ويا له من نصر للبشير ولرفاقه الأبرار.

على أنه يحز على قلمي أن ينتهي مصير هذا الزعيم الكبير إلى الاعتقال في بيته حتى التحاقه بربه راضيًا عنه مرضيًا من قبل أمته، ويتوجه الأسى أن اعتقاله ليس على يد المحتل، ولكن على يد أحد أبناء الثورة الجزائرية التي كان الفضل يعود في انبعاثها له. ولا شك أن أحمد بن بلة -غفر الله له- من قادة الثورة الجزائرية المخلصين، لكن انضمامه إلى ركب القومية العربية -بما تحتوي عليه من انغلاق وشمولية وكبت ودكتاتورية لمن يخالف هذا المنحى من التفكير- قد جعله بشكل ما يقف ضد من لا يؤمن بالقومية، ويدعو إلى الإخاء الإسلامي، والمؤسف حقًا أن “ابن بلا” وله جهاد لا ينكر، قد وقع في قبضة “الرأي الواحد”، معتبرًا أن ما يؤمن به هو الحق المطلق، وليس لمن خالفه حق معلوم، وهذه إحدى مصائب الحزب الواحد والقائد الملهم الذي أصبح بتفرده بالرأي ظالمًا للناس وظالماً لنفسه.

            وأخيرًا أقول: لقد تناول الدكتور في مقاله هذا حياة خصبة لرجل بذل ما يستطيع من جهد في الدفاع عن أمته الجزائرية، فأعطانا بقلمه العلمي وبحثه الموضوعي، صورة لبطل الكلمة رائعة الوصف والتصوير.